كان لحوادث الحرق المتكررة التي اعتمدها العديد من الأشخاص في ولاية سوق أهراس الوقع الأليم في نفوس المواطنين الذين لم يتردد بعضهم في وصف العملية بالانتقام من النفس وتعذيبها، خاصة أن معظم محاولات الانتحار بطريقة الحرق لم يكتب لها النجاح، مما يزيد من حجم الكارثة التي تصيب أهالي الضحية من جهة وتشوه صورة المجتمع ككل من جهة أخرى. * لا حديث هذه الأيام في أوساط المواطنين بسوق أهراس إلا عن ظاهرة الانتحار باستعمال البنزين التي انتشرت بشكل رهيب ليس بين سكان المناطق الحضرية فحسب، بل امتدت إلى الأوساط الريفية، وأصبحت طريقة إضرام النار لحرق الجسم متداولة، بل ربما هي أسهل طريقة للتعبير عن اليأس والقنوط عندما يتعلق الأمر باللا جدوى من الحياة مثلما أكدته بعض العينات ل "الشروق اليومي". * يبدو أن العهد الذي كان فيه الانتحار ضربا من ضروب أفلام الخيال قد ولى، وبالتالي لم تعد الظاهرة تخيف شريحة واسعة من أبناء المجتمع، ولم يعد الصبر على الأذى وسيلة لمعالجة الحالات الميؤوس منها، خاصة في وسط الشباب. * "الشروق" وقفت على بعض العينات الميؤوس منها التي حاولت الانتحار باستعمال مادة البنزين، حيث أجمع كل من حاورناهم في هذه المسألة أنها بالإضافة إلى سهولة تداولها، فهي لا تترك لمن يقدم عليها مجالا للتفكير، لأنها تأتي في لحظة غضب شديد تسود فيه الدنيا أمام العين، حسب تعبير الشاب مراد لطفي الذي مر بتجربة الانتحار حرقا قبل سنتين بسبب مشكل البطالة التي ظل يعاني منها رغم بلوغه سن الأربعين. * وعن تجربة الشاب أحمد، 29 سنة، الذي أقدم على محاولة الانتحار باستعمال البنزين بالشارع الرئيسي لحي 1700 سكن بعاصمة الولاية فقد كشف وهو على فراش العلاج بالمستشفى أن إحساسه بأن الحياة التي يعيشها لا معنى لها حيث قوبل باللا مبالاة والتهميش من سلطات يفترض أن تحمي المواطن عندما يتعرض للاعتداء وسلب ممتلكاته، حيث أنه وفي لحظة يأس اقتنى لترا من البنزين وسكبه على جسمه ثم أضرم النار دون أن يشعر بخطورة ما أقدم عليه. وفي لحظة اشتعال النار التي بدأت تلتهم جسده، قال بأنه تمتم بالشهادتين واستسلم لقدره، وأدرك أنه مفارق للحياة لا محالة، وعما إذا كان في تلك اللحظة قد ندم على فعلته قال: شعرت حينها بخطأ ارتكبته في حق نفسي، ولكن سرعان ما ضاع تفكيري في البقاء على قيد الحياة. * حالة أخرى لمحاولة الانتحار بالبنزين، لجأ إليها "ب. عبد الغاني" من بلدية لمراهنة، حيث سارع، وبدافع نفس الأسباب تقريبا، إلى استعمال الحرق بالبنزين، مؤكدا ل "الشروق" أنه لم يجد تفسيرا لما أقدم عليه سوى أنه أراد أن يظهر للناس أنه لم يقم بشيء يستحق عليه العقوبة وقطع مصدر رزقه من طاولة التبغ، كما قال شريكه في طاولة التبغ، إن العديد من أمثالهما أصبحوا مدفوعين إلى الانتحار كبديل عن الحرڤة، وساندته في الموقف والدة عبد الغاني التي زارته في المستشفى واعترفت أن الصدمة كانت شديدة وقاسية عليها إلى درجة أنها لم تعد تدري ما تفعل، ثم حمدت الله على امتثال ابنها تدريجيا للشفاء... * واعترف أحد الشبان وهو "ن. فيصل" من بلدية سدراتة الذي سبق أن حاول الانتحار مفضلا الشنق على باقي الوسائل قبل أن يتفطن إليه أهله ويثنوه عن الفعل، أن الشباب اليائس والمهيئ نفسيا للانتحار أصبح محتارا بين أي وسيلة يختارها للتخلص من حياته، حيث غالبا ما يلجأ إلى أقرب وسيلة تخطر على باله: الشنق أو النار؟ * * صغار يلعبون بالنار * قد لا تختلف مأساة هؤلاء الذين مروا بتجربة حرق أجسادهم بالنار، والتي ستبقى دون شك ذكرى سوداء في حياتهم، عن أولئك الذين تعرضوا للحرق بالبنزين إما بقصد أو عن غير قصد، تلك الحالات المأساوية التي حدثت في غضون السنتين الماضيتين وكان من ضحاياها الطفل "ق. هشام" الذي أصيب بحروق شديدة بعد أن سكب عليه رفقاء السوء كمية من البنزين في ساعة مبكرة ذات يوم من شهر أكتوبر 2007، حيث ظل المسكين يجري ويستغيث على مسافة طويلة قادما من أعلى حي العلاوية إلى شارع أول نوفمبر قبل أن يتمكن بعض المارة من إخماد النار التي التهمت ثيابه وشوهت أطرافه وجزءا من بطنه. * وبنفس الطريقة تم إضرام النار بالبنزين في ثياب طفل اقتاده رفقاؤه بالقوة إلى محجرة مهجورة بحي بهيجي منصور لتناول الخمر، ولسبب من الأسباب، وعلى طريقة لعب الأطفال، رشه الرفقاء بالبنزين فاشتعلت ملابسه وأصيب بحروق من الدرجة الثالثة. * * البنزين خلف مآس وأحزان * خطورة التعامل مع مادة البنزين لا حدود لها، وهي لا تتوقف عند استعماله عمدا في إضرام النار سواء لإلحاق الأذى بالنفس أو بالغير، ولكن حقيقة هذه المادة أنها سببت العديد من المآسي نتيجة الاستهتار باستعمالها في أغراض أخرى كالتنظيف مثلا، ولعل ما حدث ببلدية مداوروش يثبت المصير المؤلم لمن يتعاطى البنزين دون اتخاذ الحيطة والحذر، إذ بينما كانت الزوجة "ح. م" 47 سنة، القاطنة بحي بوخرشوفة ببلدية مداوروش، تعمل على تطهير ما علق بموقد الغاز (طابونة) من شوائب طهي الطعام، شبت النيران بثيابها لتلتهمها عن آخرها رغم تدخل زوجها "ب. ع" 48 سنة، لنجدتها، ولم يتمكن الطرفان من إسعاف بعضهما البعض بما أن ألسنة النار امتدت إلى الزوج، لتنتهي فصول المأساة بوفاة الزوجة في طريق نقلها إلى مستشفى ڤالمة، بينما تم إنقاذ الزوج الذي لا يزال يعيش تحت وطأة الصدمة بفقدان أم أبنائه الأربعة لأسباب تبدو تافهة. * وما أجمع عليه كل هؤلاء الضحايا هو أملهم في أن تبدأ حياتهم الفعلية بعد الخروج من الكابوس المرعب المتمثل في حرارة نار البنزين التي لا ترحم. *