مرّت ست عشرة سنة كاملة، قبل أن ينوي الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد أخيرا تكذيب الأقاويل الزاعمة بأن تنحيته من على سدّة الحكم، تمت على يد الجيش. * * ولقد شكل هذا السكوت المتواطئ منفذا تسلل من خلاله صناع أكذوبة "من يقتل من؟"، فزرع الريب في أذهان الجزائريين، إذ تمّ التشكيك في مصداقية مؤسسة دولة برمّتها داخل الوطن وخارجه. فعلى الرغم من إلحاحنا على الشاذلي حينذاك كي يتوجه مباشرة لكل الجزائريين عبر التلفزيون للإعلان على استقالته، إلا أنه آثر أن يفعل ذلك باللجوء إلى المجلس الدستوري يوم 11 جانفي 1992، فآل ذلك إلى انتشار فكرة "الانقلاب العسكري" لدى جزء من الرأي العام، سواء في الجزائر أو وراء الحدود. * بيد أن الشاذلي بن جديد، خرج من صمته يوم 28 نوفمبر 2008، ليؤكد للعلن أنه استقال بمحض إرادته، مفنّدا بذلك فكرة استيلاء الجيش على السلطة بالقوة. * ولئن كنّا اضطررنا، أمام الفراغ القانوني السائد أنذاك، أن نتحكم في زمام الأمور حتى لا ينزلق الوضع، فإننا قمنا بذلك بمشاركة كلّ السلطات الإدارية والتشريعية. * رفضنا أن نضحي بالدولة الجمهورية ونتخلى عن حرية اختيارنا وعادات أجدادنا التالدة، ذلك أننا كنا متيقنين أن الجزائر التي كنا في خدمتها أمانة في أعناقنا، وضعها بين أيدينا أولئك الذين ضحّوا بالدم والعرق من أجلها. وكنا نعتبر أنه من واجبنا المقدّس أن نذود عنها ونتحمّل مسؤولياتنا عندما تخوض قوى معارضة في تدمير أسسها التي نتقاسم قيمها، لأننا مشبعون بأفكار نوفمبر السامية. * أما الفيس، فما كان أمره؟ * كانت تتخلل الفيس، تيارات متناقضة ومتناحرة، ولم يكن لهذا الحزب أن يدوم دون امتطاء العنف، فبات يعثو في المدن الجزائرية وخاصة العاصمة التي حوّلها إلى حقل مغلق، زاعما بأنه صاحب الأمر والنهي الواحد الأحد. واستعمل مسؤولو هذا الحزب الضليعون في فن التخريب، جحافل من الناس اليائسين بسبب البطالة والتذمّر لتحقيق مآربهم، وجازوهم بالأموال مقابل التظاهر في الشوارع وفرض رأيهم بالقوة. وكان الهدف المبيّت من وراء هذا العمل، نشر الرعب في أوساط الجماهير التي ساورها القلق أمام تواطؤ السلطات العمومية وتخاذلها، والتبيين بأنهم باتوا يتحكمون في الشارع تماما. * ثم تجاوز هؤلاء كل الحدود عندما نفذوا "أمرا" يقع على اثنتين وعشرين نقطة، وهو بمثابة إعلان حقيقي للحرب، وقعه رئيسا الحزب عباسي مدني وعلي بن حاج، تدخل بعد إصداره مباشرة عناصر "كوموندوس" تم تحضيرهم لهذا الغرض بعد أن تلقوا تدريبا في الجزائر وأفغانستان والسودان والأردن وحصلوا على الدعم المادي والمعنوي من لدن موالي طهران، تحسبا للقيام بالعمليات الإرهابية التي تلت ذلك وأفضت إلى زهق عشرات الآلاف من الأرواح. * إذا، إثر التصريح الأخير للرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، ارتأيت أن أعيد طبع كتاب "الجزائر 1992، يوم سقط القناع على الجبهة الاسلامية للإنقاذ"، وقد أضفت له "خاتمة" تتعرض لهذه النقطة الهامة بالذات، وإن هذا العمل الجماعي الذي شاركني في إعداده المختصون القانونيون ليلى عسلاوي وعلي هارون وعبد الرحمان بوطمين وكمال رزاق بارا والزبير سوداني وخالد بورايو واللواء محمد تواتي، عبارة عن مذكرة تم تحريرها لتبيين الوضع الذي كان سائدا في تلك الفترة قصد تسليمها للعدالة. * وبحكم أهمية هذا الكتاب الذي تزيده قيمة الشخصيات البارزة التي ساهمت في إنجاز وخطورة الموضوع الذي يتناوله - أي السياق السياسي للأحداث التي جرت بين 1988 و1992 والإطار القانوني الذي اتخذت الإجراءات ضمنه-، وكذا ثراء الوثائق التي ألحقت له، رأيت شخصيا أنه من الضروري إعادة نشر هذه المذكرة في شكل كتاب وكلي يقين بأنه سيساهم في كتابة تاريخ الغد.