في مقال سابق تكلمنا عن الإعلام الجديد والإمكانيات والفرص الهائلة التي يوفرها لدول الجنوب لكسر آليات الرقابة والتحكم والعزلة والتهميش ومصادرة المعلومة والرأي. الإعلام الجديد سلاح ذو حدين قد يفيد إذا اُستغل بطريقة مسؤولة ومدروسة ومنهجية وقد يؤدي إلى التبعية والتهميش والذوبان في ثقافة الآخر وقيمه وأفكاره وأيديولوجيته في حالة الاستخدام العشوائي وغير المسؤول. * لقد تفاءل الكثيرون بالثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي واستشرفوا مستقبلا زاهرا للديمقراطية وحرية التعبير والرأي والمشاركة السياسية والحكم الراشد في الدول التي عانت لعقود طويلة من مصادرة الحريات والحكم الشمولي السلطوي المستبد. لكن ما حدث في أرض الواقع هو العكس تماما حيث بقيت الأمور على حالها لم تتغير، بل ما حدث في الواقع هو تهميش مزدوج، الأول حدث على المستوى الدولي بين الذين يملكون والذين لا يملكون، وتهميش على المستوى الوطني المحلي بين القلة التي تملك وتسيطر وتهيمن والأغلبية التي ما زالت تعاني التهميش والأمية والفقر، فالإعلام الجديد لا يستطيع أن يحقق ما فشل في تحقيقه الإعلام القديم، كما أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال لا تستطيع أن تفرز الديمقراطية وحرية الفكر والرأي إذا لم تتغير آليات الحكم وتؤمن وتقتنع الأنظمة بالتناوب على السلطة والتوزيع العادل للثروة واحترام الحريات الفردية وضرورة تغيير العقليات والدهنيات. * أصبحت الشبكة العنكبوتية اليوم وسيلة العصر والأداة الاستراتيجية المحورية في كل مجال من مجالات حياة المؤسسات والمنظمات والأفراد. نجد هذه الأداة الاستراتيجية في التجارة وفي السياسة وفي التعليم وفي التربية وفي الرياضة وفي الصناعات الثقافية والإعلامية وفي الدبلوماسية... الخ. ففي الواقع جاءت الثورة الاتصالية لتكرس تفوق الشمال على الجنوب ولتزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور الشركات العملاقة المختصة في الصناعات الإعلامية والثقافية والتي تفوق ميزانياتها ميزانية دول بأكملها، بل قارات في بعض الأحيان. هذه الشركات أغرقت العالم بإنتاجها وأدت بذلك إلى توحيد الرؤية والفكر حسب المعطيات والمبادئ والقيم التي يفرضها صاحب السلطة والمال. والإشكالية المطروحة في الثورة الاتصالية والإعلام الجديد هي أن الدول الصغيرة والفقيرة قد أقدمت على شراء التكنولوجية لتواكب التطور لكنها عجزت على إنتاج المعلومة والمعرفة والرسالة الإعلامية التي توزع عبر هذه التكنولوجية، وهكذا فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى اقتناء المحتوى والمادة التي تُبث وتُوزع عبر الوسائل والتكنولوجيات المختلفة. والإشكال المطروح هنا هو أن هذه المنتجات الإعلامية و الثقافية وهذه المادة، التي تُقبل معظم الدول في العالم على اقتنائها من حفنة من الشركات العالمية العملاقة المتخصصة في الصناعات الإعلامية والثقافية، تحمل في مضامينها وطياتها قيما ومبادئ قد تتنافى وتتعارض مع القيم المحلية لغالبية شعوب العالم، وهذه السيطرة على الإنتاج تؤدي كذلك إلى عولمة الثقافة ومن ثم تهميش الذي لا يستطيع الإنتاج والمساهمة في التراث الفكري العالمي. * هذه الظواهر لم تأت هكذا بطريقة عفوية أو بطريقة بريئة وإنما هي نتيجة لشبكة من الميكانيزمات والآليات التي تتحكم فيها قوى خفية تسيطر على المركب العسكري الصناعي الاتصالي على المستوى العالمي. وهكذا تأتي الثقافة العالمية كجزء لا يتجزأ من العولمة والنظام الدولي الجديد الذي يفرض نفسه بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية في غياب القطبية الثنائية. الثقافة المعولمة في إطار النظام الدولي الجديد لا تؤمن بالتنوع الثقافي ولا بالخصوصيات الثقافية عند مختلف شعوب العالم وإنما تؤمن بقانون البقاء للأقوى. فمقولة الوسيلة هي الرسالة تفرض نفسها في عالم اليوم حيث نلاحظ أن حفنة من دول العالم تتحكم في محتوى شبكة الانترنت على سبيل المثال، وعندما تكون لغة هذه الشبكة هي اللغة الإنجليزية ب 85٪ وأن ثلاث أرباع المواقع الموجودة على الشبكة مواقع أمريكية وأن شبكة الهواتف في مدينة نيويورك تفوق بكثير شبكة الهواتف في قارة إفريقيا بكاملها. * وهكذا نلاحظ أن الهوة بين الدول المالكة لتكنولوجية الاتصال وللصناعات الثقافية والإعلامية والدول المستهلكة سواء للتكنولوجية أو لمحتواها تزيد عمقا يوما بعد يوم ولصالح الحفنة القليلة التي تملك وتنتج حسب قيمها وأهدافها واستراتيجيتها. وهكذا فإن ظهور المجتمع المعلوماتي في الربع الأخير من القرن العشرين يفرض تحديات كبيرة وهامة أمام دول الجنوب حيث ضرورة إعادة النظر في سياسة البحث العلمي وصناعة المعرفة والاستثمار في الصناعات الثقافية والإعلامية. * لم تُستغل الفضائيات العربية، التي يفوق عددها ال 500، كما ينبغي ولم تقدم في غالبيتها شيئا يذكر للثقافة العربية وللموروث الثقافي العربي سواء على المستوى المحلي أو الدولي، حيث نلاحظ أنها تتسابق في تقديم المنتج المستورد المعلب. فالحل إذن، يكمن في وضع سياسة اتصالية وإعلامية تقوم على أسس علمية وعلى معطيات ودراسات على مستوى كل دولة عربية، ثم التفكير في توحيد الصفوف ووضع إستراتيجية إتصالية وإعلامية على مستوى الدول العربية وهذا لمواكبة المجتمع المعلوماتي وحتى لا يبقى العرب يعيشون على الهامش يستقبلون ولا يرسلون. التساؤل الذي يجب أن نقف عنده هنا هو هل تتوفر لدى الجميع إمكانية الحصول على جهاز كمبيوتر وخط هاتفي ومبلغ مالي للاستفادة من خدمات الإنترنت، ثانيا ولو فرضنا أن الجميع ينعم بخدمة الإنترنت، هل ما يقدم في الإنترنت محايد وعلمي ويخدم الجميع بنفس الدرجة؟ فبالنسبة للتساؤل الأول وبالنسبة لدول الجنوب أو الدول النامية فالمشكل مطروح بحدة حيث أن في العديد من هذه الدول يعاني الفرد الكثير في تدبير رغيفه اليومي فما بالك بالإنترنت، ففي هذه الدول مقولة أن الإنترنت سينشر الديمقراطية ويعمل على تطوير المشاركة السياسية أمر ما زال بعيد المنال. بالنسبة لمحتوى الإنترنت، على سبيل المثال، فالأمر لا يخرج عن القاعدة، فصاحب التكنولوجية وصاحب الصناعة الثقافية يفرض وجوده وسلطته على الوسيلة الذي أخترعها و سيطر عليها. فالإنترنت شئنا أم أبينا اختراع أمريكي غير بريء ويعمل على خدمة الأقوى والأكثر إمكانيات ماديا وفكريا ومعنويا. فمقولة أن الإنترنت هو مفتاح لحل العديد من المشاكل وتوطيد الممارسات الديمقراطية في المجتمعات النامية ما زال بعيد المنال. * من تداعيات الإنترنت وتكنولوجية الاتصال والمعلومات والإعلام الجديد والعولمة، والتي تشكل في مجملها قنوات واختراعات وامتدادات لنظام عالمي أحادي القطبية والتوجه، تسيطر عليه حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، القضاء على التعددية والاختلاف الثقافي، أي التوجه نحو الذوبان الثقافي أو على حد تعبير ولفجونج ساكس "التبخر الثقافي" أو "الانجراف الثقافي" والتوجه نحو العولمة الثقافية التي تؤمن بنظام قيمي موحد على المستوى العالمي. هذه الآليات بطبيعة الحال ليست بريئة وإنما تخدم من يملك القوة والجاه والفكر كما أسلفنا سابقا. فالذي لا يصنع المعرفة ويعتمد على استهلاكها محكوم عليه بالخضوع وبالتبعية المنظمة. والإنترنت ما هو إلا صيغة من صيغ الوسائط التكنولوجية المتطورة التي تنقل الثقافة الفاعلة (التي تقصي الثقافات الأخرى) وتجسد العولمة. هذا لا يعني مقاطعة الإنترنت والانطواء على الذات، المطلوب هو الاستغلال الأمثل للإنترنت وللإعلام الجديد لخدمة التنمية المستدامة والثقافة الوطنية من خلال الإنتاج والإبداع والبحث العلمي وهذه الأمور لا تتحقق إلا بتحرير العقل وبتحرير الفرد واحترامه والإيمان بأن صناعة المعرفة والاستثمار في الفرد هما السبيل الوحيد للتطور والازدهار والتفوق والتميز وهما الطريقة الناجعة للاستغلال الأمثل لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات والإعلام الجديد.