شهادات تاريخية من أجل إحقاق الحق لأهله تعود ذكرى مجازر 08 ماي 1945 للمرة الرابعة والستين، والأكثر إيلاما بعد الجريمة هو إصرار الجلاد الفرنسي على إنكارها رغم كل الأدلة التي تفضح وحشيته. * * فبعد إلقاء السفير الفرنسي الأسبق لافارديار حجرا في المياه الراكدة، عند زيارته لسطيف سنة 2005 حين وقف أمام نصب الشهيد سعال بوزيد ووصف الأحداث ب»الجريمة«؛ تطور أكده الرئيس ساركوزي خلال زيارته لقسنطينة بتاريخ 5 ديسمبر 2007 حين استعمل لأول مرة عبارة »جرائم لا تغتفر«، تأتي الزيارة المحبطة للسفير الحالي السيد دريانكور إلى سطيف، حيث نفى وجود أي مشروع للاعتذار لدى باريس... »الشروق« قررت هذه السنة أن تتحول من استهلاك التاريخ إلى إنتاجه، فتنقلت إلى مكان الجريمة والتقت بعض من عاشها وشهد فظاعتها، والروايات لا تحتاج إلى تعليق. * * * الحاج تعرابيت يروي ل"لشروق" تفاصيل المجزرة بسطيف * "مصادر إعلامية تحدثت حينها عن 100 ألف قتيل" * لم يكن يوم الثلاثاء 08 ماي 45 عاديا بمدينة سطيف، حيث تحولت الأفراح بانتصار الحلفاء على النازية إلى مجازر بشعة، وتبخر ميثاق الأطلسي الذي نص على منح المستعمرات التي ساهمت في دعم أوروبا استقلالها... * ارتبطت المجزرة بمدينة عين الفوارة لأن الأحداث انطلقت منها كما تؤكده شهادة الشيخ لخضر تعرابيت، الذي روى في لقاء مع »الشروق« كيف تلقى مناضلو حزب الشعب تعليمات سرية تقضي بتنظيم مسيرة سلمية يوم 08 ماي. * وتحضيرا لذلك يروي محدثنا بأن »القيادة على مستوى الولاية عقدت اجتماعا خاصا ببيت محمد قنيفي، رحمه الله، أين تم الاتفاق على الشعارات التي ترفعها المسيرة ومنها »تحيا الجزائر حرة مستقلة« بالعربية والفرنسية، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الشعارات تم حملها في مسيرة عيد العمال يوم 01 ماي خفية«. * وتذكر محدثنا الصعوبات التي واجهوها في خياطة العلم الوطني »وفي اليوم الموعود الثلاثاء المصادف للسوق الأسبوعي للمدينة اجتمع نحو 20 ألف مواطن بالقرب من مسجد أبي ذر الغفاري بحي لنقار، في حدود الساعة الثامنة والنصف صباحا، وتقدم الجموع ما لا يقل عن ال200 كشاف، وانطلقت المسيرة باتجاه الشارع الرئيسي لوضع باقة الورود على ضريح الجندي المجهول، مرددة نشيد »حيّوا الشمال الإفريقي«، وفي لحظة انقلب كل شيء، فعند الوصول إلى مقهى فرنسا طالبت عناصر الشرطة الفرنسية من الكشاف سعال بوزيد تسليمها العلم الوطني، ولما رفض أخرج المفتش لفون المسدس وأطلق النار على سعال لتتحول المسيرة إلى مظاهرات عارمة أعطى فيها محافظ الشرطة أوليفري تعليمات لعناصره بإطلاق النار على جميع المتظاهرين، فكانت الحصيلة ثقيلة، حتى أن بعض المصادر تحدثت عن سقوط 100 ألف قتيل، أما أنا فقد تعرضت للتعذيب 14 يوما كاملة«. * * المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا ل»الشروق«: * "لا ينبغي أن نخشى محاكمة المتورطين في المجازر" * يتعاطى المجتمع المدني الفرنسي اليوم مع جريمة 8 ماي 1945 دون عقدة، وهو موقف يبدو أكثر تقدما من ذاك الذي تصر فرنسا الرسمية على إنتاجه، والمبني على استراتيجية الإصرار على الإنكار وعدم الاعتذار... من أجل فهم بعض خلفيات هذا التباين التقت »الشروق« المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا الذي أوضح بأن »الحديث عن هذه الأحداث في باريس يعتبر أمرا جديدا بالنسبة للمجتمع الفرنسي«. * قال بنيامين ستورا في تصريحه ل»الشروق«: »أحداث 08 ماي 1945 تشكل منعرجا حاسما في تاريخ الجزائر، والتحقيق فيها ضروري لمعرفة بعض وقائع الحاضر التي لها أثرها المباشر على المجتمع الجزائري، الذي لازال إلى اليوم يتجرع آلام الجريمة«، قبل أن يضيف »العنصر الجديد في هذه القضية أن الاهتمام بأحداث 8 ماي انتقل هذه المرة إلى الضفة الأخرى، ففي السنوات الأخيرة بدأ الحديث عن هذه الأحداث في فرنسا، وهو أمر جديد بالنسبة للمجتمع الفرنسي، مما يعطي القضية بعدا آخر يتجاوز الشوفينية الوطنية«. * ويرى محدثنا بأن »الحديث عن هذه المجازر، إضافة إلى مظاهرات 17 أكتوبر 1961، سيسمح بإيقاظ الذاكرة، واكتشاف حقائق جديدة تشغل بال المؤرخين اليوم، والأهم من ذلك أن هذه الأحداث أصبحت تشكل جزءاً من اهتمامات المجتمع الذي صار يتفاعل معها، فالموضوع أصبح محل نقاش وهذا ما يشجع المؤرخين على البحث في هذا المجال«. * وردا على سؤال حول إمكانية محاكمة المتسببين في هذه الجريمة قال ستورا »أعتقد أنه لا توجد »طابوهات« في التاريخ، ولا ينبغي أن نخشى أي شيء، فقد مرت على استقلال الجزائر فترة معتبرة، والحديث عن جرائم ضد الإنسانية منتظر من طرف المجتمع المدني، الذي عليه أن يطالب المحكمة الدولية بفتح ملف هذه الأحداث، وهذا مهم أيضا بالنسبة للمؤرخين، واعتقد بأن المؤسسات المعنية هي التي لها صلاحية تحديد إن كانت هذه المجازر جرائم ضد الإنسانية أو لا، ولماذا لا تطرح أيضا قضية 17 أكتوبر 1961، فحينها أيضا وقعت مجازر«. * * عبد الله يلس شاهد على بشاعة الجريمة بقالمة * "الجزائر حملت في 8 ماي 45 وولدت في 1 نوفمبر 54" * * على الرغم من سنواته ال84 إلاٌ أن عمي عبد الله يلس، لازال يحفظ عن ظهر قلب تاريخ الثامن ماي 1945... عمّي عبد الله، الذي يترأس جمعية 08 ماي 1945 بولاية قالمة، استقبلنا في مسكنه المطل على نهج فيكتور بيرنيس، أو نهج 08 ماي اليوم، وخصنا بهذه الشهادة التي كشف فيها لأول مرة تفاصيل دقيقة عن مجازر 08 ماي 1945. * * عندما تسمع بمجازر 8 ماي ما هو أول ما يطفو على سطح ذاكرتك؟ * = الأحداث لم تأت صدفة، بل سبقتها عدة انتفاضات بمدينة قالمة، أذكر أنه وفي عام 1943، وعند انتشار وباء التوفيس في أوساط الجزائريين، قرر المستوطنون الفرنسيون منع أبناء الجزائريين من دخول قاعة السينما، فنظمنا انتفاضة شبانية اعتقل على إثرها كل من سويداني بوجمعة وعمار نقاب وعمار بن جامع، الذين حكم عليهم آنذاك بثلاثة أشهر حبسا نافذا. * * ما هو المنعرج الأخطر في أحداث الثامن ماي 1945؟ * = يوم الثلاثاء الفاتح من ماي 1945 نظمنا كمناضلين في حزب الشعب مظاهرة شارك فيها بعض الجزائريين، وحملنا شعارات تدعو للحرية، وبمجرد اقترابنا من المسرح البلدي الحالي حتى وجدنا في انتظارنا الضابط أشياري ورجال الجندرمة، وطلب أشياري منٌا تفويض شخص للحديث معه، فتقدم منه أحمد ورتسي، الذي يصغرنا سنا بصفته قائدا للمظاهرة، لكن أشياري رفض التحدث إليه وطلب شخصا بالغا، فتقدم كل من حسن بن شيخة ومبروك ورتسي، اللذين أبلغاه بأن مطالبنا تتمثل في الإفراج عن المعتقلين السياسيين والاستقلال، ثم افترق الجميع. لكن أشياري قام بعدها باستدعاء منظمي المظاهرة وحذٌرهم من القيام بأي مسيرة أخرى مستقبلا، مهددا بأن ردٌه سيكون عنيفا في المرة القادمة. * * كيف عشتم يوم الثامن ماي 1945؟ * = بعد استدعاء اشياري لقادة المظاهرات وتحذيره لهم، كنا كمناضلين نسعى لتجنيد وتعبئة أكبر عدد من الجزائريين لمطالبة المستعمر بالالتزام بتطبيق المعاهدات الدولية. وفي الثلاثاء 8 ماي، المصادف ليوم السوق الأسبوعي بمدينة قالمة، وكان عمري 20 سنة و15 يوما، وفي الساعات الأولى من الصباح تلقينا خبرا بأن أحداثا وقعت بمنطقة سطيف وسقط فيها العديد من الشهداء، فحاولنا الاتصال بقيادة الحزب بعنابة لمعرفة رأيها حول تنظيم المسيرة السلمية المبرمجة، وأرسلنا قدور بوتصفيرة، وفي طرق عودته اتصل بنا من عين الباردة في منزل شغيب مصطفى، وهو الوحيد من الجزائريين الذي كان يملك هاتفا، وكان في انتظار مكالمته السعيد سريدي (شرشيل) والذي نقل لنا أمر القيادة بتنظيم مسيرة سلمية. * * وماذا حدث بعدها؟ * = فور تلقينا الخبر شرعنا في تعبئة المتواجدين بالسوق وتوجيههم إلى منطقة الكرمات أعالي المدينة، في تلك الأثناء كان الفرنسيون يحتفلون بانتصارهم على النازية في ساحة سانت أوغستان وسط المدينة، وبعد تجمع الجزائريين بالكرمات حاملين أعلام دول الحلفاء، كما حملنا العلم الوطني لأول مرة رفقة شعارات تطالب بالاستقلال والحرية، وبوصولنا إلى نهج عنونا زاد الحماس في نفوسنا أمام زغاريد النسوة وتصفيقات الأطفال من الشرفات وعلى الأرصفة. أذكر أنني كنت أحمل لافتة وأرتعش لأن شعورا انتابني بأن المسيرة لن تنتهي بسلام، وعند بلوغنا نهج فيكتور بيرنيس، وجدنا في انتظارنا السفٌاح أشياري رفقة الجندرمة وعدد من المعمرين، وبعد توقيفنا طالب أشياري قائد المسيرة الشهيد علي عبدة بتسليمه الراية، لكن علي رفض وقام بتمريريها إلى الصفوف الخلفية، وفي الزحام سقط أشياري فأمر جنوده بإطلاق عيارات تحذيرية في الهواء واستعمال مؤخرة البنادق لصد المتظاهرين سلميا. بعدها تفرق المتظاهرون في اتجاهات مختلفة، ليلاحقهم جنود الاحتلال، الذين أطلقوا النار عشوائيا، وأذكر بأنني أصبت برصاصة قرب المسرح الروماني تسببت في إعاقة رجلي التي توقف نموها ولازال الأطباء يجهلون نوعها لحد الساعة. كما أوقف عدد من المشاركين في المسيرة ك»علي عبدة والسعيد بومعزة والسعيد براهم«... بعضهم تم إعدامه. كل هذا حدث في لمح البصر بين الرابعة بعد الزوال والمغرب. * بعد ثلاثة أيام في المستشفى دخل شاب فرنسي يدعى بيروقياس، معروف بتعاطفه مع الجزائريين، ولأنه كان يعرفني جيدا أخبرني بأن الجيش الفرنسي فتك بأرواح المئات من الجزائريين بأبشع الطرق، وقد تم إعدام ورتسي ولاعب كرة القدم بفريق الترجي القالمي علي عبدة. * * هل تملك معلومات عن عدد ضحايا تلك المجزرة بولاية قالمة؟ * = حاولنا لكننا فشلنا، الأكيد أن الحصيلة كانت جد ثقيلة، وقد أعاقتنا كثيرا في الإحصاء طريقة الجيش الفرنسي في طمس معالم جرائمه، بالحرق في أفران هليوبوليس، أو بالدفن الجماعي لجثث الضحايا. * * هل من إضافة؟ * = أذكر أن والدي وعند عودته في الثامن ماي 1945 من قسنطينة حيث زار شقيقي صالح، الذي كان في الخدمة العسكرية، أخبرني بأن هذا الأخير حذره من أن الأمور ليست على ما يرام عند الفرنسيين الذين جردوا الجنود الجزائريين من السلاح واحتجزوهم في الثكنات، ونصحني بعدم المشاركة في المسيرة المبرمجة ذلك اليوم، فأجابه الوالد بأنه لا يستطيع منعي من المشاركة في المسيرة لأنني »عسكري في صفوف حزب الشعب«، وصدق القائل »الجزائر حملت في 08 ماي 1945 وولدت في 01 نوفمبر 1954«. * * -المجزرة... تواريخ وأرقام * الثلاثاء 01 ماي 1945: -مظاهرات سلمية في المدن الكبرى بدعوة من حزب الشعب. * الأربعاء 02 ماي 1945: -توقيف 32 مناضلا وتشديد الرقابة على الحركة بكافة المدن. * الخميس 03 ماي 1945: -سطيف وعنابة والعاصمة تنظم مظاهرات بعد سقوط برلين وبداية اشتداد الأمر. * الجمعة 04 ماي 1945: نائب حاكم مدينة قالمة يستدعي 20 جزائريا ويستنطقهم بشأن المظاهرات التي قاموا بها ويهددهم بالعقاب في حال عودتهم لذلك. * السبت 05 ماي 1945: -ممثلو الحركة الوطنية يمضون على بيان تنديدي بالإجراءات البوليسية المتزايدة والاضطهادات التي يتعرض لها المتظاهرون. * الأحد 06 ماي 1945: توزيع بيانات ومناشير باسم حزب الشعب وفرحات عباس والحركة الوطنية تدعو المناضلين والمواطنين لحمل الرايات الوطنية واللافتات المطالبة بالاستقلال، وفرنسا تلجأ لتوقيف الناشطين وعزلهم عن الشعب تحسبا للأمر. * الاثنين 07 ماي 1945: -وقوع بعض الاصطدامات بسطيف ووادي الزناتي وتمزيق العلم الفرنسي بعد نزعه من ساحة البريد. * الثلاثاء 08 ماي 1945: -انطلاق شرارة الأحداث بعد المجزرة المرتكبة وسط مدينة سطيف إلى اغلب مناطق وولايات الوطن. * -استمر القصف الجوي الفرنسي للقرى والمداشر والجبال 15 يوما وشاركت فيه 108 طائرة بمعدل 300 غارة يوميا والسطايفية يتذكرون بفزع رهيب رعب »الطيارة الصفراء«. * 18 -طائرة تقنبل قالمة وسوق أهراس ب150 قنبلة تزن الواحدة منها 1000 كغ وتم تدمير نحو 44 قرية. * عدد الأشخاص الذين حكم عليهم بالإعدام 73 مواطنا جزائريا. * عدد الأشخاص الذين اعتقلتهم القوات الفرنسية في مدينة سطيف لوحدها فقط هو 330. * حرق العدو الفرنسي 91 مشتة كما دمر 2586 منزلا بولاية سطيف. * فقد العدو الفرنسي الغاشم في الأحداث 79 عسكريا. * رجحت مصادر إعلامية عالمية حصيلة الضحايا آنذاك وصولها إلى 100 ألف قتيل.