"مات بيجار البطل، مات الرجل الوطني، مات مؤسّس نظرية جديدة في أنماط التعذيب في هذا الزمن المعاصر، مات الرمز الذي خاض حرب الجزائر ما بين (1954- 1962)...!" هكذا افتتح مذيع الأخبار في القناة الرسمية الفرنسية أوراق نشرته. "مات بيجار الأسطورة..." هذا ما جادت به قرائح الصحافة الفرنسية في جريدة .Le figaro "مات الجنزال بيجار المقاوم السابق، مات صاحب الوجه الديغولي الذي قام بعمل مشرّف للغاية جعله مثارا للجدل في أوساط المظليين الفرنسيين..." هذا ما ورد في جريدة Le monde الفرنسية. "مات الوزير السابق صاحب اللقب الكبير في حروب مثيرة للجدل في الجزائر والهند الصينية ...مارسيل بيجار الشخصية العظيمة التي خاضت حربي الجزائر والهند الصينية قد رحل عنا إلى الأبد..." هذه عبارات نعت بها صحيفة L'express الفرنسية جلاد بلادها. هذه هي العبارات الأكثر لفتا للانتباه التي ودعت بها أغلب الصحف الفرنسية مجرما ارتكب مجازر ضد الإنسانية فاعتقد كتاب الصحف بأن دم الأبرياء يمكن أن يمحى بحبر الصحافة؛ وأن التاريخ الوحشي للجلاد يمكن أن يحرق بأوراق الصحف. لقد وردت في مرثيات الإعلام الفرنسي للجلاد عبارات تستوقفنا لأنها لم تكن فقط من أجل طقس جنائزي بحت. إنها تعبّر عن الضمير الفرنسي الذي لا زال يتكلم من خلاله الجلاد من وراء اللثام ويصرخ كلما جزّ رؤوس الأبرياء بالمقصلة: إنني بريئ ووحدهم هؤلاء الذين ثاروا ضد الاستعمار هم المدانون!. إن كيفية نعي الصحافة الفرنسية وكذا الرئيس الفرنسي لهذا الجلاد يحيل ذهننا إلى كيفية نعيها أيضا للجلاد أوساريس؛ فالمجرم أوساريس قد قالها على المباشر قبل موته:" لو عدت إلى الجزائر لفعلت ما فعلته لأني ببساطة قمت بكل ذلك عن قناعة ونزولا عند إملاءات ضميري وبدافع الحب لوطني ... !؟". وكم يشبه المجرم بيجار الجلاد أوساريس لأن المجرم بيجار أيضا قالها بعظمة لسانه : "إن بيجار لم يخضع يوما ما إلا لبيجار. كل ما فعله بيجار هو من إملاءات بيجار". لقد رافق موت الجلاد بيجار إقفال محكم لمعظم النوافذ في الصحافة الفرنسية للحيلولة دون مناقشة الماضي الهمجي لجلادها. وأكثر من ذلك كله راح البعض يحصي الميداليات التي تحصل عليها ظانين أن من أكل لحم البشر يمكن أن يطهر بأقراص من الذهب والفضة؛ وأن هذا يحيل ذهننا أيضا إلى يوم مات أوساريس فأثيرت ضجة في وسائل الإعلام الفرنسية ووصل الدخان حتى إلى قصر الإليزي للإجابة على السؤال التالي: هل يمكن دفن أوساريس بميدالية الشرف (ميدالية الخزي) التي منحها إياّه ديجول أم لا؟ هذه هي الأسئلة النمطية التي أصبح الكثير من الفرنسيين يطرحونها كلما سقط رقم كبير من تاريخهم الاستعماري؛ وإنها لتحمل رسائل عديدة واضحة إلى الشعوب التي وقعت ضحية الاستعمار الفرنسي. إنها تريد أن تقول لنا جميعا: إننا نحمل إرث هذا الرجل ومن يحمل إرثا عليه أن يدافع عنه ويمجّده !. تدل كيفية التعامل مع موت الجلاد على أن فرنسا قد جعلت داخلها تمثالا رمزيا لصورة المجرم بيجار ليعيش بداخلهم. فلم يتبخر الحلم الاستعماري بموت الجلاد أوساريس أو بيجار أو غيره لأن ثمّة روح هؤلاء لا زالت تسكن داخل الضمير الفرنسي؛ وإنها روح شريرة تتحيّن الفرصة لتعلن من جديد عن مطامح الجلاد الاستعمارية. إن التشدق بسيرة المجرم بيجار ليست هي الهدف بحد ذاتها بل الهدف يكمن في التشدق ببيجار الصوري؛ ذلك الملثم الذي يخفي وجه فرنسا برداء يحمل شعار حقوق الإنسان وفي نفس الوقت يمجد التعذيب واستعمار الشعوب. ليس شخص المجرم بيجار الذي مات هو الذي تدافع عنه فرنسا، ليس ذلك الذي وقع أسيرا لدى ثوار الهند الصينية إثر معركة ديان بيان فو؛ وقضى في المعتقل نصف عام يرضخ فيه لأوامر الثوار الذين نظروا إليه بحقارة بعيونهم الضيقة التي رأت أفق الحرية الواسع. إن ما يهم فرنسا هو الدفاع عن ماضيها الوحشي وإصرارها على تبرئة نفسها. و لاوة على هذا كله، فإنها تؤكد لنا مرة أخرى التطابق والتماهي الحاصل بين ماضيها وحاضرها. لقد تماهت صورة بيجار الصوري وصورة بيجار الحقيقي المجرم الذي أصبح اليوم يُقدم لنا على أنه البطل الذي لم ينهزم يوما ما. ذلك الذي وقع أسيرا لدى ثوار الهند الصينية استدعي على عجل لقمع الثورة الجزائرية لأن فرنسا اعتقدت بأنها لما تمطرنا من السماء بجلاديها المظليين سيسجد لها أجدادنا ويقولون لها : لبيك يا فرنسا يا ربنا الأعلى. ها نحن بك آمننا فكفّي عنا هذا الطير الأبابيل؟ ! ولأن فرنسا وجلادها بيجار لم تفهم مقولة الجنرال "جياب" الذي قال : "إن الاستعمار كالتلميذ الغبي لا يفهم الدرس". وبالفعل لم يفهم الجلاد بيجار التلميذ الغبي الدرس من ثورة الهند الصينية فأتى ليتحول في الجزائر الى أستاذ يلقن أصول التعذيب!. مات المجرم بيجار الذي قال بعظمة لسانه : "لو أن لي ثلة من أمثال العربي بن مهيدي لفتحت العالم". قالها الجلاد لأن العربي بن مهيدي فضّل الشهادة على الوشاية بأسرار الثورة المباركة؛ وذلك رغم التعذيب الوحشي الذي تعرض له من جلاده الذي أفشى الأسرار العسكرية عندما وقع أسيرا في الهند الصينية؛ والمثير للسخرية أنه فعل ذلك بمجرد ترهيبه لفظيا! مات الجلاد الذي قال بأن العربي بن مهيدي تحداه قائلا وهو يذيقه أشد أنواع التعذيب : "إنكم لن توقفوا عجلة التاريخ". مات المجرم بيجار فحاولت الصحافة الفرنسية تخليده ففشلت لأن الشيطان لا يمكن أن يخلد في صورة ملاك؛ ولأن الجلاد لا يمكن أن يخلد في صورة الشهيد. لقد فشلت الصحافة الفرنسية رغم ما جادت به من مراثي وألفاظ جميلة لأن هذه الصحافة لم تعلم بانها قد هزمت منذ سنين من طرف الصحافة العالمية. تلك الصحافة التي تناقلت عبر العالم صورة العربي بن مهيدي يبتسم وبيده الأغلال ولقّن للعالم حكمة مفادها : أن الرجل الذي يقاد الى مركز التعذيب وهو يبتسم وبيده الأغلال هو رجل لا يمكن أن يخون وطنه. لأن ابتسامته عبارة عن حالة من الوجد الصوفي الذي انتصرت فيها الروح على الجسد. مات الجلاد بيجار وخلّد الشهيد العربي بن مهيدي لأن التاريخ لا يخلّد إلا الرجال العظماء من طينة بن مهيدي ونساء عظيمات من طينة لويزة إغيل أحريز. مات المجرم بيجار وخلّد كل شهداء ثورتنا لأن التاريخ لا يخلّد إلا محبي الحرية ويرمي الى قمامته أمثال المجرمين : أوساريس وبيجار ومونتانياك ...و غيرهم لأن التاريخ لا يعترف بالمحاباة أو الميداليات أو ما شابه ذلك. جيجيكة إبراهيمي جامعة بوزريعة