بعيدا عن جلد الذات أو الحسرة على سنوات الاستقلال في معظم أقطارنا العربية، وتجنبا لخوف من وحدة وطنية قطرية أصبحت بديلا عن وحدة قومية أو حتى إقليمية لم تتحقق ولن تتحقق، وابتعادا عن المناخ العام، الذي يستمد أصحابه طغيان آرائهم من قوى ذات مشروعية قائمة على القوة ووهم المرحلة.. كيف يمكن لنا أن ننظر إلى مسار حركة التاريخ لحيانتا العربية في ظل التواجد الأمريكي؟! * * من الإطلاع على التحارب في تراكمها وفي تميزها وخصوصيتها أيضا، يمكن القول: ليست هناك لحظة زمنية معينة يمكن لنا من خلالها تحديد مسار حركة التاريخ لجهة الانطلاق أو التراجع، لكن بعد حدوث التغيير السلبي أو الإيجابي ومرور زمن طويل، يتم تصنيف البدايات، وتأسيس مواقف وإعطاء أحكام، ولست هنا بصدد العودة إلى حالات الضعف التي مرت بها أمتنا على طول تاريخها لأن مشاهد الواقع اليوم دالة وكاشفة، وتتجاوز في بعض محطاتها ما حدث في الماضي، لدرجة نرى عودة مكشوفة للحقبة الاستعمارية بطلب منا واستحضار للآخر وباعتباره المنقذ لنا من الضلال السياسي والثقافي والاقتصادي، ولم يعد البحث عن دور للذات الفردية أو الجماعية، ما يعني دخولنا الهوينى في مرحلة السقوط، علما بأن الأمم السابقة لم تندثر بشكل مباشر.. لقد أخذت دورتها في السقوط تماما مثلما أخذت نصيبها من الرقي في الأزمنة الغابرة، وكانت أشد منا قوة، ولم يخلق مثلها في البلاد، ومع ذلك لم يغن عنها وجودها المادي في شيء. * على العموم، فإن القول ببداية السقوط على مستوى المنطقة العربية، ليس ضربا من التنظير أوالتحليل، لأننا نراه جليا في كل دولة عربية بشكل نسبي مصحوبا بالنسيان أوعدم المبالاة أو تبرير الأحداث، مع شعور بمتعة اللحظة المعتمدة على السلطة الزمنية، مصحوب بالدفاع من رجال الحكم وأتباعهم من مختلف القطاعات في هذه الدولة أوتلك عن تطورات المرحلة وأحداثها، بغض النظر عن تضاربها أو تناقضها مع مصير الأمة وهويتها ومستقبل وجودها، وهي حالة معاصرة لها امتدادها في التاريخ العربي، والحالة الأكثر ألما ووضوحا قديما هي: سقوط الأندلس، وفي التاريخ المعاصر: هي احتلال فلسطين وقيام دولة العدو الإسرائيلي. * وهناك حالات أخٍرى معاصرة لم نتخذها عبرة لندرك الخطر المحدق بنا، فمثلا حين انتهت الدولة في الصومال تصور كثير من القادة أن دولهم بعيدة عن الوقوع في فخ المأزق الصومال، وإذا بنا نواجه بما هو أكبر فقد انتشر الإرهاب في عدد من الدول العربية، ودعم دوليا، ثم استعمل وسيلة للضغط لجهة إصدار قرارات تخدم المسألة الديمقراطية، ثم اختطفت منا العراق احدى الجبهات العربية الفاعلة في الصراع الدولي، وانتهى بنا الأمر إلى رفض المقاومة بكل أشكالها، وبعدها اعتبرنا الخلاف بين الفلسطينيين وحصار غزة أمرا عاديا بل مطلوبا ويخدم المصالح العربية والدولية، نتيجة لكل ذلك دخلنا في نفق مظلم، يصحب الخروج منه، لكون الغالبية مؤيدة له، إن لم يكن على مستوى الفعل فعلى مستوى القناعة، أو أملا في الحصول على موقع في ظل زيادة مساحة الفساد. * الملاحظ أن كثيرا من المهتمين بالشأن العام يقللون من الترويج لثقافة السقوط، على اعتبار أننا لسنا بمعزل عن حركة دول العالم، وما يحدث لنا يأتي في سياق الأحداث التي تواجهها معظم الدول، بما فيها الدول الكبرى، وينتهون إلى القول: "أن السقوط المنتظر عالمي وليس محليا أو إقليميا أو قاريا، لهذا علينا النظر إليه من زاوية مشاركتنا مع الآخرين للخروج من الأزمات الكبرى، ومنها الأزمة العالمية المالية الراهنة"وهذا القول مقبول إذا نظرنا إليه من ناحية الصياغة والتنظير، لكن عمليا ليس صحيحا، لأن دورنا في حقل الحضارة العالمي لا يتعدى التصنيف العددي، ويظل مقتصرا على حسابنا ضمن الكائنات الموجودة في هذا العالم، لدرجة جعلتنا نخرج من عالم القيم، حتى إذا أعاد رجل مثلا الرئيس باراك أوباما تذكيرنا بها،عرفنا أنها موجودة، مهمة وفاعلة، واثنينا على ما قام به، حتى لو كان الهدف السياسي من ذلك تطويعنا في المرحلة المقبلة. * قد يبدو الحديث السابق مجرد تخويف من الحاضر في شقه الجغرافي والعملي والقيمي، حيث احتلال الأراضي والصراع على الحدود أولا، والاختلاف حول الثوابت ومنها الجهاد ثانيا، وإدخال معايير جديدة للحكم على العلاقات بيننا ثالثا، لكن في الحقيقة وبناء على حالات السقوط في الماضي القريب والبعيد يمثل تنبيها للغافلين من نهايتنا المأسوية، التي تشكل العراق في الذاكرة الجماعية بدايتها، فما أن تسقط حتى يسقط معها العالم الإسلامي كله، وهذه المرة سقط معها العلم كله في قيمه وعلاقاته، ومثلت مشكلة عجزت كل القوى عن حلها بما فيها الولاياتالمتحدة التي تود أن ترى العالم من دون العراق، حتى البعض يرى في حربها هناك نهايتها حتى لو انتصرت في أفغانستان وذلك حلم بعيد المنال، غير أن هذا لا يعني سقوط أمريكا فقط، وإنما معها العرب والمسلمين أيضا، مع فارق في قوة السقوط وزمنه وباختصار فانتصار المشروع الأمريكي لتقسيم العراق هو السقوط المشترك للبشرية في عصرنا.