سوف أخصص بعون الله تعالى فصولا فيما يأتي من الحلقات لمناقشة هذا العنوان غير مكتف بحلقة واحدة، أملي في ذلك أن أبرز ما يمكن إبرازه من خصوصية وانفرادية في تحديد هذا المفهوم أو ذاك، تكون قد ترسخت في أدبيات حزب جبهة التحرير الوطني، وبخاصة ما تحصّن منها عبر التجربة والممارسة على مرّ السنين، إن مساهمتي المتواضعة هذه والتي ارتأيت بسطها للاطلاع والتأمل وعلى أوسع نطاق ممكن من الرأي العام المهتم، والمتتبع لما يعرفه الحزب من نشاط، آخذا في عين الاعتبار انطلاقة هياكلنا الحزبية في توفير الجو الملائم للشروع في التحضير المسؤول لإنجاح أشغال المِؤتمر التاسع. تعتبر هذه الحلقة مكملة وموضحة لموضوع سبق بحثه تحت عنوان: نداء أول نوفمبر والاختيار الاشتراكي، والذي انتهينا فيه إلى أن أولوية ثورة نوفمبر وهدفها الأساسي كان يتمثل في تحقيق الاستقلال وطرد المستعمر من الجزائر، وأن الدولة المناسبة للمجتمع الجزائري بعد الاستقلال تتمثل في إقامة دولة ديمقراطية اجتماعية ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وأن وثيقة مؤتمر الصومام زادت من توضيح طبيعة هذه الدولة الديمقراطية الاجتماعية، من أن يسودها العدل والإنصاف إلى أقصى حد ممكن.. وأنهينا الحلقة بما يفيد أن المبادئ التي يقوم على أساسها المجتمع الجزائري أو المنطلقات الفكرية والاختيار الإديولوجي بات مؤجلا، ولم يظهر إلا من خلال برنامج طرابلس، ومؤتمرات حزب جبهة التحرير المتلاحقة. وما يمكن إضافته إلى هذه الحلقة في شكل أسئلة وتصورات بالنسبة لمستقبل الاشتراكية على الأقل في الجزائر التي لها تجربة جدية ثرية ومتميزة، أعطت ثمارا مازالت قواعدها المادية شاهدة من أن التطبيق الاشتراكي مرّ من هنا ذات يوم، فهل زمن الفكر الاشتراكي قد ولّى والى الأبد بدون رجعة؟ وهل النمط الاشتراكي الذي قام في أوروبا الشرقية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي والصين وبعض الدول التقدمية والثورية حديثة الاستقلال من دول العالم الثالث، قد جانبت الطبيعة البشرية وميولها والقيم الإنسانية وخلودها؟ هل انكسار التجربة ناتج عن حتمية وصيرورة تاريخية لا مفر منها؟ أم أن النموذج الاشتراكي كان ثمن الصفقة التي انتهت بها الحرب الباردة لفائدة معسكر المذهب الفردي الحرّ؟ وهل إقحام الفكر الديني الإسلامي للنفخ في نفوس شباب الأمة العربية والإسلامية باسم الجهاد في سبيل الله لتشديد الخناق على الإتحاد السوفيتي صديق الدول العربية والدول التقدمية للإسراع باسقاطه له ما يبرره؟ هذه بعض الأسئلة الإجابة عليها تحمل بعض الجوانب مما نحن بصدد عرضه ومناقشته، وإذا كانت الإجابة على مثل هذه الأسئلة وقتها لم يحن بعد بالنسبة لما نراه من وجهة رأينا الشخصية، فانه مع ذلك يبقى الارتباط مفيدا من باب التصورات والنتيجة عن طريق التلميح وفي جانبها الفكري على الأقل حتى لا نضل الطريق.. إن الاختيار الاشتراكي الذي أرست عليه قيادة الثورة منذ مؤتمر طرابلس وأثرته بالممارسة إطارات وكوادر حزب جبهة التحرير لاحقا إلى غاية تعديل الميثاق الوطني عام ,1986 لم يأت من العدم بل جاء متلائما وعاكسا لمنطق الثورة التحريرية، وروح رسالة الإسلام وتقاليد الشعب الجزائري المّيالة إلى المساواة والتضامن الاجتماعي والنفور من استعمال قوة ونفوذ جبروت المال في إذلال كبرياء الشعب والدوس على كرامته وعزّته.. إن الديمقراطية الاشتراكية القائمة على التوزيع العادل للإمكانيات المادية المتوفرة وفق مخططات مدروسة، من أجل التنمية الشاملة خدمة للشعب الجزائري قد كانت إحدى محوّلات السرعة التي راهنت عليها السلطة والتي قفزت بالمجتمع الجزائري من وضع كان فيه في أسفل سافلين إلى موقع مشرف بنهج وسياسة الحزب والقيادة الثورية، إذ في سنوات قليلة أصبحت الدولة الجزائرية تضاهي بعض الدول العريقة في الحضارة والمطلة على حوض البحر المتوسط والعريقة في الاستقلال والتنمية، وعلى رأي أحد الأوروبيين المختصين في دراسة حضارات هذه الدول والدارسين لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وحينها توصل إلى نتيجة مفادها: أن الدولة الجزائرية كانت عام 1979 على مرمى حجر من أن تصبح دولة متقدمة بكل المقاييس، وبالتدقيق على بعد مسافة 16 سنة تفصلها على بلد متطور مثل إيطاليا... إن الأسلوب الثوري والاختيار الاشتراكي لاختزال المسافات والزمن والإسراع للنهوض بالمجتمع كان أصعب الحلول وأعقدها، إذ هو يصطدم بالعادات والعقليات والنفسيات البالية من جهة، ومع المعارضين وأصحاب المصالح التي تختلف مصالحهم عن المصلحة العامة للشعب، لذلك كان نظام السلطة الثورية جادا وصارما عندما فرض التصحيح والتغيير الجذري العميق بالقوة منذ 19جوان ,1965 وهذا تجنبا للسلطة الإصلاحية التي تكتفي عادة بالتغيير الجزئي التدريجي الذي كثيرا ما يتحول مع مرور الوقت إلى عدم تغيير، بل ويكتفي بالقشور أو المظهر الذي غالبا ما ينتهي بالالتجاء إلى دولة المستعمر بالأمس للمعونة فيرتمي في أحضانها ويصبح منفذا وحارسا لمصالحها التي لم تتحقق لها بالأمس.. لقد كان نهج البناء الاشتراكي النهج الصحيح والشاق وهو الذي يجب أن يعتمد كإستراتيجية واختيار..، فاعتمد رغم ما تطلبه هذا الاختيار من تضحيات وتقشف وصبر، تحملها قلة من المخلصين من أبناء حزب جبهة التحرير العاقدين العزم على مواصلة التضحية ومتابعة النضال، وهذا أمام شعب خرج من معركة الكفاح منهك متعب مّيال إلى الراحة والاستهلاك إيذانا بانتهاء عهد الحرمان، وبدء نعمة التمتع والارتخاء والاستقلال.. لقد برهنت المرحة التي سبقت عهد التعددية الحزبية والسياسية منذ الدخول تحت سلطان دستور,1989 بأن التجربة التي خاضها حزب جبهة التحرير في مجال صيانة وتعزيز السيادة الوطنية، وفي ترجمة الشعار السرمدي الرائع.. الثورة من الشعب وإلى الشعب.. وفي بعث دولة قوية في خدمة الشعب ومصالحه، كل ذلك وفي زمن وجيز ورغم المرحلة القصيرة التي لم تسمح بتبلور حتى المفهوم الاشتراكي المنتهج آنذاك في الجزائر، وما يمكن أن نقوله بشأنها أنها كانت تمثل مرحلة الإعداد للدخول في مرحلة الانتقال الاشتراكي، والتي يسميها منظرو الاشتراكية ب (رأسمالية الدولة)، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم النظام الرأسمالي الذي يعود فيه الربح والفوائد إلى أصحاب رؤوس الأموال من المساهمين والشركاء.. إن مفهوم رأسمالية الدولة هو نوع من الاشتراكية يعد مرحلة ضرورية قبل الانتقال إلى التسيير الذاتي أو الاشتراكي للمؤسسات من طرف المنتجين أنفسهم، والذي يعتبر النظام النهائي للدولة الاشتراكية.. إلخ إن التحامل بعد مؤامرة 1988 والهجمة الشرسة التي شنها الخصوم التقليديون الناقمون على ما أصبحت عليه الجزائر من تطور وتمدن وما تحقق في ظرف قصير في ظل الاختيار الاشتراكي بقيادة حزب جبهة التحرير قد يكون له ما يبرره، أما أن نجد من يسير في الموكب بشعور أو بدونه، وهو من كان مستفيدا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الاستقرار والسلم الاجتماعيين والتعلم في المدرسة الجزائرية والتخرج منها، ومن العلاج المجاني، والإنارة، والشغل، والطريق والسلع المدعمة والرخاء المعاشي بصفة عامة. كل ذلك وغيره يحتاج إلى معالجة أوفى وأدق لمعرفة موطن الخلل وأغوار نفوس هؤلاء القوم على الأقل الخ.. إن المنبهرين بالانكسار الذي مسّ أغلب الدول الاشتراكية، والاضطرابات والمؤامرات التي لحقت بمعظم الدول الثورية والسائرة في طريق النمو، التي وجد فيها هِؤلاء الرحل فرصة الانتقام والتبشير بالعهد الجديد: عهد الديمقراطية والتعددية الحزبية والسياسية والإعلامية، وقد أعجبني وصف لأحد رفاق الدرب لهذه الموجة أو الزوبعة التي عرفتها المرحلة فسماها..، بعهد الديمقراطية العرجاء، والحرية الإعلامية الهوجاء.. لقد بلغ العبث بعقول المواطنين البسطاء أن وجدت في ذلك بعض الصحف الناشئة الفرصة المواتية للانتشار والشهرة بدغدغة العواطف والمشاعر والإثارة، ونشر الأوهام وتوزيع الوعود وتفريش الطرق بالورود، وتحقيق جنة النعيم، إذ صورت هذه الوسائل أن الشعب قد حرم من فردوسها طول المرحلة التي سبقت التعددية والتي عرفت بنظام الحزب الواحد، وكأن استقلال الجزائر انفلق فجره مع أكتوبر 1988 وأن هناك رزقا وخيرا وفيرا ينتظر التوزيع على الجميع.. تفننت أغلب الصحف في السماح لنفسها بوعي أو بدونه بتوجيه الرأي العام ضد كل ما تحقق من إنجازات ومكاسب وتنمية في معظم بلديات وولايات الجمهورية بأسلوب الهزل وبتتفيه هذه الإنجازات، والتقليل من أهميتها وجدواها وتسويد صورتها وكأنها رأس مال آو ثروة من حرام، وكأن الأفعال إجرامية، والإنجازات محرمة لا بارك الله فيها، وأن المسؤولين على تخطيطها وإنجازها كأنهم ارتكبوا خيانة عظمى تجاه الشعب والوطن والبقية معروفة.. لم يستيقظ الضمير ويعود شبه الوعي إلا بعد أن نشبت ما يشبه الحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس، فحصدت الآلاف من الأرواح البريئة الآمنة، وطالت الأيدي الآثمة تدمير وتخريب الاقتصاد الوطني وأصبحت الدولة الجزائرية في مهب الريح، ولولا أن يسّر الله الظروف وجاء من يرجع للجزائر أمنها واستقرارها وعزتها ويضمد جراحها بفضل تطبيق سياسة المصالحة الوطنية لحلت التهلكة ولكان الوضع كارثيا حفظنا الله منه. .../... يتبع