ضمن رؤية شاملة للتغيير والتجديد، طرحت في منتصف القرن الماضي على مستوى العالم الإسلامي إشكالية السلطة ضمن فضاء الإسلام أو طبقا للشريعة، وبلغ ذلك الطرح ذروته في كتابات كل من أبي الأعلى المودودي بباكستان والسيد قطب في مصر. * * وكان واضحا أن محاولات تبذل على مستوى الصياغة النظرية لإعادة تطبيق الدين باعتباره كلا متكاملا، لكن تلك المحاولات ظلت مقصورة على مسألة التنظير ولم تتعدّاها إلى الممارسة على مستوى أنظمة الحكم، بل على العكس من ذلك واجهتها بأشكال مختلفة. * كان من الطبيعي إذاً نتيجة لذلك أن تظهر جماعات متطرفة بدأت بهجرة المجتمع ثم انتهت بعد محن السجون والتعذيب إلى تكفير المجتمعات، وما نعيشه من ويلات الإرهاب، ما اندثر منه وما بقي وما هو قادم، يمتد بجذوره إلى ما يزيد عن ستين سنة على الأقل، أي إلى البدايات الفكرية التي قامت على مسألة علينا ألا نتجاوزها ونظل متابعين لها ومحتاطين أيضاً، لكونها تدفعنا دائما إلى أن نكون فرقا متخاصمة ومتصارعة في الغالب، وهي مسألة "الحاكمية". * لقد اكتفيت بالتذكير هنا بما هو قريب، لست ناسيا أو متناسيا أو حتى متجاهلا أو متجاوزا لتلك الخلافات التي بدأت منذ منتصف القرن الأول الهجري، واختلف فيها المسلمون حول طبيعة السلطة ونظام الحكم، وبالرغم من أن ما هو ماض قريب وما هو ماض بعيد لقرون خلت تحرك ضمن اجتهادات فلسفية حينا وعقدية أحيانا كثيرة، إلا أنه ظل، وإن تمكنت الأهواء من السلطة، خلافا داخل مجال الإسلام وليس خارجه، مع اعترافنا بوجود شطط من بعض الفرق وطغيان التوظيف السياسي على الاجتهاد لصالح هذا الحاكم أو ذاك. * اليوم، أرى عودة إلى مسألة الحاكمية وإن لم يتم الإعلان عنها، لكنها حملت أوزارا وجاءت بمسميات مختلفة، أما الأوزار فهي تخص ذلك التنافس الشديد للوصول إلى السلطة، من منطلق أن التغيير يتم من أعلى وليس من أسفل المجتمع، وهذا نابع من ثقافة متراكمة ترى في الشعوب آتية طوعا أو قهرا للحاكم، بغض النظر عن الأفكار التي يطرحها أو البرامج التي يطبقها، لهذا كثيرا ما وقع احتدام بين الحكام والمحكومين وانتهى إلى تطبيق ما يريده أهل الحكم، حتى لو أثبتت كل الدلائل والقرائن، وأحيانا التطبيقات، عدم صحته.. أوزار الحكم هنا لم تعد كما كانت في الماضي البعيد رهينة التحايل على الدين، إنما تمكنت بعد طول تربص من دوائر السوء بجعل الفكر السياسي والموقف السياسي هما الأعلى. * أما بالنسبة للمسميات فقد اختلطت بالثقافة العالمية لجهة أنظمة الحكم، وغدت مفردات الخطاب السياسي داخل دول العالم الإسلامي هي المفردات نفسها التي يطرحها الغرب، بالرغم من عجزنا الواضح عن أن نكون مقلدين له في الأمور الإيجابية. ليس هذا فقط، بل إن ذلك التقليد سبّب لنا كوارث نهايتها القتل والدمار، وسيادة لغة العنف ثم الاشتراك في التصدي للإرهاب، لدرجة تعذر علينا فيها التفريق بينه وبين ما سواه من أوجه المقاومة أو التغيير . * في الواقع، لم يعد هناك تساؤل حول مسألة الحاكمية للأسباب الثلاثة التالية: * أولها: أن الحكم لم يعد في خطابنا السياسي معتمدا على مرجعية دينية منطلقة من التوحيد، حيث ما يحدث من اختلاف لا يرد إلى المولى عز وجل، ولا إلى سنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم- والتي هي بالتبعية مردها إلى الله. * ثانيها: أن الدساتير والمواثيق في الدول الإسلامية حلت بديلا عن القرآن لجهة الحكم أو إصدار الأحكام، مع التأكيد أحيانا في المواد الأولى لتلك الدساتير والمواثيق على أن أنظمة الحكم وقوانينها وطبيعتها مستمدة من الشريعة الإسلامية.. باختصار، أصبح لدينا نتاج بشري نحتكم عنده، يتغير بسرعة حسب الأهواء وحسب حاجاتنا وحسب أطماعنا أيضاً. * ثالثها: أن الحكم يتم باسم الشعب، وإن لم يحكم في بعض الدول بذلك، فإن ما يصدر دائما من قرارات ومواقف، حتى لو كانت ضد مصالح الشعب، تحسب عليه وله وبموافقته، ويتم الذهاب بعيدا في الترويج لحاكمية مهزومة مسبقا مصدرها الشعب وللشعب وعلى حسابه. * تبعا لما سبق، فإن المرجعية التي نحتكم عندها أو نعول عليها للحسم في المواقف، أخذت تعابير مختلفة وحددتها حركة المجتمعات المسلمة وما حدث فيها من تغيرات؛ فتارة تكون مرجعية مؤسسة على الفعل التغييري، من ذلك المرجعية الثورية، أو تتميز عن باقي أطروحات المجتمع فتصبح مرجعية دينية غير متفق عليها من الجميع، أو تعلو فيها الجغرافيا على حساب الأيدلوجيا وتطرح من منطلق الحيز والمكان وتسمى مرجعية وطنية، أو يحتويها الزمان، وهي هنا تخص جماعة بعينها حققت انتصارا خصوصا ضد المستعمر، وهو ما نراه جليا في المرجعية التاريخية.. إلخ. * تعدد المرجعيات إذن لا يمثل اجتهادا في رأيي ولكنه يعد حالا من العجز، لجهة تقديم رؤية يستند عليها ثابتة تتغير في الجزئيات، ولكنها صالحة في كل الأزمنة لكونها تحمل من الثوابت ما يؤهلها للبقاء مع التغير مهما كانت عواصف الآخرين. * تعدد المرجعيات من ناحية أخرى ينتهي ليس إلى التكامل أو التعاون أو السير نحو الاشتراك لإيجاد حلول، ولكنه ينتهي في الغالب إلى الإقصاء لأنه كلما حلت جماعة بمرجعيتها لعنت سابقتها، وأذاقتها من الهوان ما كرس في الأنفس ضغائن لم تمحَ ولن تمحى في تقلبات الزمن، بالرغم من الرهان على أن هذا الأخير هو خير علاج. * ترى، ما السبيل للخروج من هذه الأزمة، إن اعتبرناها كذلك؟، ليس هناك من إجابة واضحة أو وصفة سحرية، غير أننا في حاجة اليوم إلى إعادة تثوير مسألة الحاكمية، ليس من منطلق إيجاد حلول لطبيعة الأنظمة وطرق الحكم عبر الدين فحسب، ولكن لتجديد العلاقات بيننا؛ فلا الدولة الدينية التي ينادي بها البعض ويعبدون الطريق للوصول إليها بالدماء حتى غدت حلما بعيدا هي حل يمكن التعويل عليه، ولا الدولة المدنية التي تحل مشكلاتها اليومية بصراع وهمي أهله يبنون من منظورهم الفكري مواقع في السلطة والمجتمع هي أهون من بيت العنكبوت، يمكن أيضا اعتبارها بديلا مقبولا. * لاشك أن هناك منطقة وسطى تتجلى فيها الحاكمية لله مع تطبيقات واعية من البشر، إن أرادوا الخروج من ظلمات البر والبحر، والأكثر من هذا من ظلمات الأنفس التي أضيء كل ما حولها ومع ذلك لا تزال في داخلها مناطق ظلم وظلام تعذر اقتحامها، أو البحث عن عدل يتحقق ما لم يكن خالق الكون حاضرا في كل قرار يصدر لبناء الفرد أو الجماعة أو الشعب أو الدولة.. الحكم لله من قبل ومن بعدُ، وسيظل كذلك إلى يوم يبعثون، واستخلافنا في الأرض ليس إلا لتنفيذ حكمه طبقا لما جاء في دستوره الخالد، القرآن. قد لا يقبل غيرنا بهذا الطرح، لكن مع اتساع مساحة الظلم في عالمنا المعاصر لا ملجأ من الله إلا إليه.