نشر موقع الجزيرة نت مؤخرا مقالا للسيد لطفي زيتون تحت عنوان "هل تتصالح الجمهورية التونسية مع الإسلام؟" وذلك من وحي زيارة الشيخ القرضاوي لتونس مؤخرا. هذه الزيارة أعادت الأمور إلى نصابها لأنه من حق القرضاوي أن يزور أي بلد يريد. لكن نظرا لما ورد فيه من معطيات وتحليلات تبدو لي مغلوطة أرى أنه من الضروري رفع الالتباس الذي شاب هذا الموضوع وخاصة في الصحافة المشرقية. تيار التحديث (الانفتاح) في سياقه التاريخي ينطلق السيد لطفي زيتون في مقاله من مسلمة الصدام بين الجمهورية التونسية والإسلام ويرجعها عبر قراءة كاريكاتورية للتاريخ إلى فترة بداية بناء دولة الاستقلال من خلال تعارض بين أتباع صالح بن يوسف الممثلين لتيار الهوية العربية الإسلامية، وبين أنصار التحديث الملتفين حول الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. كان الأمر في الواقع يتعلق بشرعية قيادة الدولة الجديدة بعد أن أصبح الاستقلال التام عن الاستعمار الفرنسي شبه مؤكد. ويشهد العارفون أن بن يوسف كان الأقرب للثقافة الغربية، حيث دخل بين سنتي 1950 و1952 في مواجهة مفتوحة مع الطلبة الزيتونيين. إذ ينقل عنه أنه كان يقول إنه في حال الاستقلال سيغلق جامع الزيتونة ويضع مفتاحه في متحف باردو. من جهة أخرى، يعلم كل مطلع على التاريخ التونسي والمغاربي الحديث والمعاصر أن مسألة التحديث وتيار الانفتاح غير مرتبط بظرف الاستقلال، بل له جذور ضاربة في القدم. وما أورده السيد زيتون من ربط بروزه ب"بواكير الاستقلال" ليس إلا محاولة لاستئصاله من سياقه التاريخي المحلي وإبرازه في ثوب الدخيل على واقع البلاد. فمن المعروف لدى جمهور المؤرخين أن جانبا من الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب طبعتها مسحة من العقلانية تعود إلى شدة التأثر بالفوران الثقافي للأندلس. في هذا السياق الثقافي المحلي العام نفهم حركية الفكر الفلسفي وكذلك بروز رموز مثل ابن رشد، وابن طفيل، وابن خلدون. فهذه الرموز تعد تواصلا للفكر الفلسفي المعتزلي الذي أعدم في فضاء الخلافة المشرقية. وهذا لا يعد حالة شاذة لأن الفضاء المغاربي حافظ على تنوع ثقافي ومذهبي كبير في إطار هيمنة المذهب السني المالكي وذلك خلافا لحالة المجتمعات الإسلامية الشرقية التي سادها الإقصاء.فإلى اليوم توجد مظاهر ثقافية ودينية شيعية وخارجية قل أو انعدم وجودها في المشرق. ولعل أبرز تعبير عن هذا الانفتاح الثقافي رفض علماء تونس، للرسالة التي أرسلها محمد بن عبد الوهاب إلى أهل تونس سنة 1803. فقد رد عليها شيوخ مثل إبراهيم الرياحي وعمر المحجوب وإسماعيل التميمي (كتاب: المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية). وقد دافع هؤلاء بشدة عن الولاية والصلاح، هذه العلامة المميزة للإسلام المغاربي إلى اليوم. ربما مهد هذا السياق الأبستيمي العام إلى بروز حركة التحديث والإصلاح خلال القرن التاسع عشر في تونس التي حافظت على تواصل التقاليد الثقافة العالمة من خلال مؤسسات عتيقة تم دعمها بمدارس جديدة زمن الإصلاحات منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد تميزت هذه الحركة نسبيا بدقة موقفها من مسألة البناء "الدولتي" الحديث وبعدم سقوطها في نظرة استعادية لأمجاد غابرة واندفاعها على العكس نحو بناء حديث يستفيد من ثقافة الآخر ومن تجاربه. وهذا واضح في أفكار خير الدين باشا وأحمد بن أبي الضياف ومحمد قبادو ومحمد بيرم التونسي. بقيت أفكار هذه الأعلام فاعلة على مستوى النخبة المثقفة خلال بداية القرن العشرين من خلال حركة الشباب التونسي، خريجي المدرسة الصادقية والزيتونية على السواء. وقد انبلجت هذه الأفكار التحديثية أوضح خلال العشرينيات من الفترة الاستعمارية من خلال شخصية الطاهر الحداد، الزيتوني التكوين، الذي نادى بإعادة النظر في وضع المرأة في المجتمع من خلال كتابه الرائد، آنذاك، "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". وكذلك عبد العزيز الثعالبي، أبو الوطنية والعالم التحديثي. كما برز على الواجهة الأدبية شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي الذي أحدث بلبلة في صفوف العناصر الفاعلة في مؤسسة الزيتونة عندما عبر بجرأة عن تصوراته الأدبية في "الخيال الشعري عند العرب". حيث عدت أفكاره من طرف بعض رموز التقليد الزيتوني بمثابة تعد على الوحي القرآني. إشكالية العلاقة بين بورقيبة والإسلام يستعيد الكاتب لطفي زيتون بطريقة انتهازية، صورة رئيس على مقربة من الكفر كان همه الأول محاربة الإسلام. إنه خطاب دعاية سياسية خطيرة أكثر منه إنتاجا لمجهود معرفي ولو على أسس دينية. حول الرئيس بورقيبة يعلم كل من أزاح عن نفسه الكسل المعرفي وانخرط في مراجعة الدراسات المختصة (راجع كتاب لطفي حجي)، أنه أسس فكره على ثوابت لعل أولها الوطن التونسي، أو الأمة التونسية كما يحلو له تسميتها، ثم الواقعية السياسية التي توظف عن طريق قيادة كاريزمية قادرة على كسب ثقة السكان. فلا بد من دراسة توظيفه للإسلام على ضوء ثنائية الوطن والواقعية السياسية. في هذا السياق نفرق بين مرحلتين. أولا زمن الاستعمار والحركة الوطنية، حيث انفرد الحبيب بورقيبة عن بعض قياديي حزب الدستور وحتى عن بعض رواد التحديث بدفاعه عن الإسلام كعنصر مكون للهوية الإسلامية التونسية في وجه الاستعمار الفرنسي. وهذا ما أكده خلال ملتقى حول المرأة سنة 1929 حيث دافع بشدة عن حجاب المرأة التونسية المسلمة باعتباره مقوما من مقومات الشخصية الوطنية التونسية، في الوقت الذي كانت فيه بعض الحاضرات تنادين برفع الحجاب كرمز من رموز تخلف المجتمع. نذكر كذلك أن الطاهر الحداد لم يجد أي سند من بورقيبة حين تم فصله عن مؤسسة الزيتونة بسبب أفكاره حول المرأة في الشريعة وفي المجتمع. فمن داخل الحزب الدستوري ككل لم يسانده سوى محمود الماطري. مثل هذه المواقف التي تتعارض مع الصورة التي ألصقت ببورقيبة تجد تفسيرها في واقعيته السياسية. فالمسألة الاجتماعية كانت بالنسبة له آنذاك ثانوية أمام المسألة الوطنية. بعد مرحلة العمل الوطني، جاءت فترة تأسيس الدولة التونسية التي لم تكن لتشذ عن التوجه التاريخي العام نحو الانفتاح والتحديث. كان بورقيبة مجسدا لهذا التوجه الذي أثمر إصلاحات جوهرية مست المجتمع والدولة. لم تفرض هذه التحديثات بالقوة كما حصل في تركيا. فقد كان بورقيبة نفسه يعيب على كمال أتاتورك عنف إصلاحاته وتطرفها. بصفة عامة، كان هناك نوع من الاستعداد والقابلية لدى المجتمع لتقبل الإصلاحات، بما فيها مجلة الأحوال الشخصية، حيث استفادت من مساندة شيوخ زيتونيين معروفين. ربما فهم الإسلاميون في تونس هذا الإشكال وهو ما يفسر سكوتهم عن مسألة تعدد الزوجات مثلا. لم يكن هاجس بورقيبة ضرب الإسلام، بل بعث دولة حديثة أولا ثم الاستناد على إسلام منفتح في بلورتها. الحقيقة أن بورقيبة قام بتحييد المؤسسة الدينية وتهميش القائمين عليها أكثر من تهميشه للإسلام، لأن الإسلام الممؤسس كان سيحد من فاعلية جهاز دولة حديثة. وزيادة على ذلك لم يغفر لبعضهم من رموز الزيتونة تخاذلهم، حسب رأيه، عن مساندة الوطنيين في أحداث التجنيس في الثلاثينيات مثلا. في هذا البناء الحداثي ألغي التعليم الديني، الذي لم يعد له مبرر للوجود في ظل دولة توفر مجانية التعليم الوطني للجميع. لكن هذا يعني في نفس الوقت رفع يد المؤسسة الدينية بما فيها الزوايا عن هذه المهمة. كما تم تحييد المؤسسة الدينية من خلال إلغاء الأوقاف، وذلك بالتزامن مع حل الأراضي القبلية الاشتراكية. كما تم توحيد القضاء على أسس وضعية وأقر الزواج المدني وحق المرأة في الطلاق وتحديد السن الأدنى للزواج وخاصة إلغاء تعدد الزوجات. هذا الإجراء الأخير أثار جدلا واسعا ولا يزال، رغم مبرراته العملية والفقهية كذلك. فالآية الثالثة من سورة النساء "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا"، تطرح العديد من الإشكالات على مستوى التفسير خاصة أن مبدأ التعدد مرتبط بشرط عدل مستحيل حسب الآية 129 من نفس السورة "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". وقد أورد ابن كثير في تفسيره: "أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس...". أضف إلى ذلك أن الآية الثالثة التي تتيح إمكانية المثنى والثلاث والرباع، بغض النظر عن شروط ذلك، تجيز أيضا إمكانية اتخاذ عدد لا يحصى من الجواري "أو ما ملكت أيمانكم". فهل يعني هذا حق المسلم اليوم في اتخاذ جوار؟ كانت هذه الإصلاحات في مجملها تحديثية لكن صاحبها كان يبررها من خلال الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي استنادا إلى عقلية الاجتهاد والتغيير من الداخل أكثر من استعماله لمراجع حداثوية غربية. ففي لقاء مع التلفزيون الفرنسي، وفي رده على سؤال حول عدم التطابق بين الدولة التونسية اللائكية والإسلام، رد بورقيبة بأن تونس ليست دولة لائكية بل هي دولة إسلامية تقدمية. كما أضاف أن الإسلام لا يمثل حاجزا أمام الحداثة، بل هذا راجع إلى تحجر بعض عقليات المسلمين وليس تحجر الإسلام نفسه. فما ذكره السيد لطفي زيتون في مقاله حول رغبة بورقيبة في مسح ذكر الإسلام من الدستور غير صحيح، كما أن المفتي الأكبر الشيخ جعيط لم يتدخل إلا في مسألة الصوم في فتوى 13 مارس/آذار 1960، حيث اعتبر دعوة الرئيس إلى تليين واجب الصوم منافية للإسلام. وفي إحياء ذكرى المولد النبوي في مدينة القيروان سنة 1975، قال بورقيبة :"إن كان النظام الرئاسي هو أحد الأنظمة الديمقراطية المتبعة في البلدان الغربية، فلهذا النظام جذوره الإسلامية. فالشريعة الإسلامية لا تعرف غيره، وهذا ما يسميه الفقهاء الإمامة، أو القيادة العليا. والرئيس هو إمام منتخب من طرف المجموعة الوطنية".تتفق الدراسات المختصة على أن بورقيبة وظف الإسلام في سياق مشروع الدولة الحديثة كما كان يراه. والمؤكد أنه لم يحيد الإسلام بل المؤسسة الدينية ورموزها. يضاف هذا إلى توظيفه للخطاب الإسلامي لبناء كاريزما شخصه (المجاهد الأكبر) والانفراد بالحكم. السياق الجديد بعد نوفمبر 1987 نأتي بعد هذا العرض إلى سياق إقصاء الإسلاميين بعد الفترة البورقيبية. فالكاتب لطفي زيتون يرى أن جحافل العلمانيين هبت لمساندة السلطة الجديدة لمواجهة الإسلاميين في إطار سياسة تجفيف الينابيع وأن هذا التوجه بدأ يتراجع اليوم من أجل نوع من المصالحة بين الجمهورية والهوية الإسلامية، وما زيارة القرضاوي الأخيرة لتونس إلا شاهد على الانتصار في "معركة الهوية". مثل هذا الخطاب يحمل الكثير من التجني على التاريخ وعلى التيارات والشخصيات الفكرية والنقابية من بين من يسميهم بالعلمانيين الذين نددوا بإقصاء الإسلاميين وخاصة بمحاكماتهم الاعتباطية وغير النزيهة وبتعرضهم للتعذيب. فلا يذكر السيد زيتون دور الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، العلمانية، في الدفاع عن الإسلاميين. كما لا يذكر دور بعض الوجوه مثل المحامية راضية النصراوي من حزب العمال الشيوعي التونسي وأسماء أخرى من اللائكيين لا يسع المجال لذكرهم.أما حديثه عن سياسة تجفيف الينابيع، وإبرازها في شكل حرب سياسية لاستئصال الإسلام، فمغالطة كبيرة. لا ينكر أحد أن البعد السياسي كان واضحا لدى النخبة الجديدة الحاكمة بعد السابع من نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1987. أي عزل الإسلاميين من خلال حصر تأثيرهم الثقافي بهدف تركيز شرعية السلطة الجديدة، إلا أن هذا لا يبرر معارضة حركة النهضة بعض البرامج الناتجة عن إصلاح التعليم، التي عارضتها في البداية وجوه من هذه السلطة الجديدة. مثال ذلك إدراج باب الاجتهاد والمنزع العقلي المعتزلي في مادتي التربية الدينية والتفكير الإسلامي. لقد أخفى الإسلاميون حقيقة ضجرهم من العلوم الإنسانية والاجتماعية، عن طريق حصر دور البرامج الجديدة في بعدها السياسي "الاستئصالي". أما ما يعتبره الكاتب عودة للوعي وانتصارا في معركة الهوية، فيندرج في حقيقة الأمر ضمن تهرم النظام الحالي بعد أن استنفذ كل أوراقه. فالديمقراطية غائبة والواقع يعطي تجربة ثانية للحكم مدى الحياة.كما أن مفهوم الأمن والاستقرار اهتز من خلال أعمال عنف أعادت إلى أذهان التونسيين حوادث مدينة قفصة الأليمة خلال الثمانينيات. أما على المستوى الاجتماعي فتعطينا أحداث الحوض المنجمي بالجنوب، التي غاب عنها الإسلاميون قاعدة وقيادة، مؤشرا على عمق الأزمة.هذا هو السياق الصحيح الذي يجب أن نفهم ضمنه توجه الرئيس بن علي إلى "إعادة أسلمة المجتمع" من فوق عن طريق إذاعة قرآنية وعن طريق التقرب من رموز الإسلام المعتدل مثل القرضاوي. إنه توجه لاستعادة شرعية الوجود السياسي لسلطة بدأت ترى شدة الهوة بينها وبين المجتمع.