حينما لا يكون هناك ضيف غريب، كانت مائدتنا، مائدة الإفطار مشتركة، كنا نتحلق حولها كما اتفق، ذكورا وإناثا، باستثناء مكان الوالد فذاك مجلس لا يمس، فهو في الصدارة دائما. مبتسم يطعم الآخرين قبل أن يطعم نفسه، على الرغم من أن الأيام الأولى في رمضان كانت /تغلبه/ وكان لا يخفي ذلك ضاحكا من نفسه. * يكون الإفطار هكذا، نبدأ بتناول بعض حبات التمر، أذكر أنه كان تمرا يابسا وعصيا، لكنه كان لذيذ المذاق، وكان والدي يشتريه مرتين أو على الأكثر ثلاث مرات، خصيصا لهذا الشهر، حبتين أو ثلاث حبات للصائم وحبة واحدة لنا نحن الأطفال، تقوم أمي بتوزيع ذلك علينا، ثم تلم "الكاغط" الذي يلف فيه ويوضع حيث يجب أن يوضع، في دولاب بمفتاح وثلاث دورات. * * .. وتجيء القهوة، وأجمل ما في القهوة أريجها ورائحة الفلفل التي تعبق في الدار وهي تغلي بهدوء مدة نصف ساعة على الأقل قبل موعد الآذان. لم يكن هناك حليب يضاف إلى القهوة، كنا نشرب القهوة سوداء بألقها وبهائها دون دخيل أبيض، على الفناجين رسوم طيور الطواويس الخرافية بألوان مدهشة، كنت أتأملها حتى لأراها تتحرك من على الفنجان الساخن. كانت هذه الفناجين خاصة برمضان أو استثناء عند استقبال بعض الضيوف، كان الكبار يشربون قهوتهم في الفناجين بالطواويس، أما نحن الصغار فكنا نشربها في كؤوس من زجاج. وكانت أمي تحرص أن يكون على مائدة القهوة صحن سمن بقري أو عنزي مملح قليلا، تكون قد قضت في تحضيره وإخفائه شهورا قبل هذا الموعد، كان السمن يذوب بطريقة مثيرة على الخبز الساخن الذي يكون قد نزل قبل بعض دقائق من فوق التنور. مثير ومدهش ذوبان السمن على الخبز الساخن، كان ريقي يسيل لذلك سيلانا. * * كنت عاشق القهوة السوداء بامتياز، في شهر الصيام، كما في الأيام العاديات، حتى أن جدي كان يطلق علي اسم /السي موح القهوة/، و كنت سعيدا بهذا اللقب. * * بعد طقوس شرب القهوة ينحنح والدي ترفع واحدة من أخواتي الصينية بفناجين البورسلين المطوسة وكؤوس الزجاج بتلوتها الراسية في القاع. * * تنزل/ الحريرة/ بأريج آخر، فجأة تمتلئ الغرفة الصغيرة التي نحن بها بعطر /رأس الحانوت/ المنعش. كنت أفضل أريج القهوة على رائحة توابل رأس الحانوت. لم أستطع فهم ما تعنيه كلمة /رأس الحانوت/ وحين سألت أختي الكبيرة التي كانت بمثابة الأم الثانية عن ذلك، قالت لي: "سميت التوابل برأس الحانوت لأنها توضع في أكياس كبيرة عند بوابة الحوانيت أي في الرأس". لم يقنعني جوابها. * * .. وكانت غراريف الحريرة تصفف قريبا من مجلسنا على طاولة لوحية صغيرة مهترئة، ثم توّزع على الحاضرين، أذكر أن أبي و أخي الأكبر وجدتي وأمي، كانت لهم صحونهم الخاصة من الخزف أو البورسلين، أما الباقي فكنا نأكل في غرفيات من زجاج. كانت غراريف أو /غرفيات / هي الأخرى مزينة برسومات أشجار وطيور متداخلة أقل جمالا من أشكال الطواويس التي على الفناجين. كانت الحريرة لا تؤكل إلا بقنينة الخل التي لا تغيب عن المائدة ومرات قليلة كان الكبار يستعملون الليمون، ولكن ذلك كان نادرا. كان أبي مثل الآخرين لا يحب عصير الليمون في الحريرة، أما أنا فكنت أحب شرب الخل، أغافل الحضور، فأفرغ من قنينة البلاستيك في فمي. كان ذوقه رائعا. حموضته العالية تتحوّل في فمي إلى حلاوة زائدة. * * كيف، لست أدري؟ يقدم مع الحريرة بعض صحن الفلفل المشوي والمقلي في الزيت. * * لم يكن الإفطار أكثر من هذا وكان بالنسبة لنا شيئا غير عاديا ومناسبة عظيمة، ربما كنا نحتفل بالجو الحميمي وبهذا الطقس السنوي، أكثرمما كنا نفكر في الأكل. * * لم تكن هناك فواكه ولا معلبات مصبرات، ولا أجبان هولندية أو فرنسية، ولم تكن هناك حلويات باللوز أو الفستق أو حتى الكاوكاو، مرات نادرات كان والدي يحضر لنا من سوق أربوز أو سوق الثلاثاء علبة حلوة الترك التي تقسم علينا طيلة رمضان بالتقسيط. كانت تعجبني علبتها المعدنية برسومات المسجد الأقصى والكعبة المشرفة وكثير من النجوم الخماسية وكتابة متعرجة بالعربية كأنما لمبتدئ. كنت أقول في نفسي إن خطي أجمل من خط صانعي حلوة الترك. كنت أقول لوالدي إن الأتراك لا يحسنون كتابة الخط العربي. كان والدي يضحك مني أو معي. * * حين يقوم والدي متبوعا بأخي الأكبر فذلك يعني نهاية مائدة الإفطار وأن ساعة صلاة التراويح قد حلت، يلتحق بمسجد العائلة تباعا أعمامي وبعض أبنائهم وبعض الجيران. لم أكن أذهب باستمرار لهذه الصلاة، ولكن المرات التي حضرتها أدهشت بقدرة والدي على قراءة القرآن غيبيا وبصورة عالية ومن خلفه أعمامي وأبنائهم وبعض الآخرين مندهشين أكثر مني لذاكرته القوية. * * وبعد صلاة التراويح، نتعشى، مرة أخرى نتحلق جميعنا حول المائدة، كان علينا أن نوقظ جدتي التي تنام بعد الإفطار مباشرة. كان عشاؤنا مرقا بسيطا من البطاطا وقطعة من لحم الدجاج. * * كانت جدتي هي التي تشرف على تربية الدجاج ولها في ذلك علم كثير، وأغرب ما شاهدته في علم جدتي أنها /حررت/ ديكا من ديكتها، وتحرير الديك في منطق جدتي أنها لا تذبحه، فهي تتركه هكذا حتى يموت الموت العادي. وهكذا كنا نرى ديكا هرما بين ديكة ودجاج وفراخ كثيرة، وكانت جدتي تعامل / الديك المحر/ معاملة خاصة، تطعمه لوحده وحين يمرض تدهن بطنه وتشربه بعض قطرات زيت الزيتون. وحين مات/ الديك المحرر/ رأيتها حزينة وبعيني رأيتها تغسله كما يغسل المبيت من بني آدم وتضع جثته بعناية فائقة في كفن أبيض وتدفنه على أطراف مقبرة الأسرة، وقد حضرت بنفسي مراسيم الدفن. كانت جدتي حزينة لموت الديك ولكنها كانت سعيدة لأنه مات في شهر رمضان، وكانت تتمنى أن تموت هي الأخرى في رمضان. ولم يكتب لها أن تموت في رمضان. * * أما فراخ دجاج رمضان فكانت أمي هي التي تتولى الإشراف على اختيارها صغيرة منذ أن تكون كتاكيت ثم تتولى بنفسها تربيتها، يكون اختيار دجاج رمضان بعد الانتهاء من الاحتفال بعيد الأضحى، حيث تحدد بشكل نهائي فراخ رمضان، ومن يومها لا يسمح مطلقا بذبخها مهما كان الطارئ ومهما كان السبب، كانت فراخ رمضان تعلم بقلادة من ورق الدوم أو بلطخة حناء على الرأس أو الجناحين حتى لا تختلط بالدجاج الآخر فيحدث ما لا يحمد عقباه. كانت أمي وجدتي تعتنيان بدجاج رمضان أيما اعتناء وكنت أعرف وأستطيع أن أميّز ديكة أو دجاج رمضان من بين السرب الكامل دون تعب. * * الحقيقة أن عائلتنا مكوّنة من ست أخوات وستة إخوة، أما الأخوات الثلاثة فقد كن غادرن بيت العائلة في زواج سعيد وكلاسيكي، كان ذلك قبال أن أجيء إلى هذه الحياة أو لربما كنت صغيرا إذ لا أذكر زواجهن على الإطلاق. الآن أعيش بين ما تبقى من أفراد في بيت العائلة، ثلاث أخوات وستة إخوة، أنا أوسط الذكور، وأكثرهم رومانسية وتعلقا بالكتب وبالاستماع إلى الراديو. * * كنت متعلقا بوالدي شغوفا بما يقرأ في رمضان، أجلس بجنبه، قبالة ضوء الباب، ما بين العصر والمغرب، في غرفة منعزلة دون نافذة وبسقف هابط مصنوع من الخشب والدوم والديس، يغرق والدي في القراءة وأغرق أنا في تأمل يديه وماء عينيه اللوزيتين الغارقتين بدورهما في كتب كبيرة، مجلدة تجليدا تقليديا. وأتشمم الروائح القادمة من المطبخ وكلما زادت قوة الروائح فذاك إيذان باقتراب ساعة الآذان، ومعنى ذلك أن يوما آخر من رمضان قد غاب وأننا اقتربنا من العيد بنهار آخر. * * ومن هذه الجلسات المفعمة بالفضول والإعجاب تعلمت الكتابة والقراءة والحساب حتى قبل أن أدخل المدرسة الرسمية. * * كان عمي الحسين وهو أصغر أعمامي حين يلقاني في باحة الدار الكبيرة، أول ما يطلبه مني هو أن أفتح فمي وأخرج لساني ليعرف فيما إذا كنت مفطرا أو صائما، كنت أدلق لساني، كان، حتى قبل أن ينظر إلى لونه، يعلق: إنه أحمر، إذن أنت مفطر. تحديا لهذا العم الذي أحببته كثيرا والذي عبر حياته ضاحكا وساخرا من الحياة، قررت أن أصوم أول يوم في حياتي، كان عمري سبع سنوات ربما أقل بقليل. * يتبع