هذا كتاب شبه سيروي في تفصيل إيقاع رمضان داخل الأسرة وما تميزت به حياة البساطة من نعم الاحترام وفضيلة ثقافة الروح. فيه، سأتعرض أيضا لواقع الثقافة والمثقفين المسلمين العرب وغير العرب في شهر رمضان، بوصفه موسما ثقافيا متميزا من خلال ما عشته، وما رأيته، وما سمعته من والدي ومن جدتي ومن المحيط العائلي جميعه. * * رمضان ليس موسما للأكل والبطن واللهفة والمضاربة والتستر باسم الدين، من أجل أكل لحم الناس من المؤمنين الفقراء، والتلاعب بإيمانهم العميق والصادق، بغية سرقة أموالهم القليلة والشحيحة، التي ربما اقترضوها. إن رمضان موسم متميز ومختلف في كل شيء. في السلوك، والمواعيد، واللغة، واللباس، والعلاقات، والسيكولوجيا الفردية والجماعية. متميز في التعامل مع الزمن، ومع الذات، ومع الآخر. وفي هذا التميز وهذا الاختلاف يكمن ما هو إيجابي وما هو سلبي أيضا. * كان لرمضان، رمضان الأجداد طعم آخر، كان انتظاره احتفالا واستقباله احتفالا. أكبر من الأكل والشرب والاقتراض والمضاربة. كان لرمضان سلطة الروح التي غابت اليوم تاركة مكانها للهفة والاستهلاك. * كان يجيء رمضان! * الاختلاف يبدأ، والجديد يزحف على الأيام وعلى الأماكن. البيت، بيتنا البسيط يتغير في تفاصيله الصغيرة، بيتنا وكذا بيوت أعمامي وأخوالي والجيران. يأخذ البيت فجأة شكلا آخر في الترتيب والتنظيم والرائحة، ضد الروتين أحد عشر شهرا. فجأة تعبق من جنبات الغرف البسيطة المطلية بالطين عطور الشهر، من مسك وعنبر وأريج قهوة الإفطار المفلفة وروائح التوابل التي نسميها "رأس الحانوت"، تقتنى بعناية وفن من بائع جوال يدور على القرى والمداشر لهذا الغرض مرة في السنة، وغالبا ما يكون ذلك قبل انطلاق رمضان بأسبوع. * كان موعد وصول بائع رأس الحانوت الجوال إيذانا بأن رمضان على الأبواب. كان البائع رجلا أسمر اللون يركب بغلة هزيلة، يجيء من أعماق الصحراء حسب رواية جدتي التي لا يخفى عليها علم أو تفصيل من تفاصيل الناس. أكدت لنا بأنه من مدينة بشار. لم أكن أعرف أين توجد هذه المدينة، ولكني كنت متأكدا أنها بعيدة لأن الرجل لا يستطيع الوصول إلينا إلا مرة واحدة في السنة، بمعنى أنه يقضي سنة في الطريق إلينا؟؟؟ * بمجرد مرور بائع التوابل، يتغير كل شيء، أو يبدأ في التغير المتسارع دون أن يصدم. يتبدل كل شيء من حولنا فيبهرنا نحن الصغار ويثير الكبار. * يدخل رمضان، وإذا لأصوات الناس في أذن الناس إيقاع آخر. أصوات الرجال الخشنة الناهرة الناهية، الزاجرة، المزمجرة: أبي وأعمامي وأخوالي وبعض الجيران. سبحان الله. رنينها عند الظهيرة ليس هو ذاته عند ساعة الإفطار، ولا عند السحور، ولا عند المنام. يغير الرجال كل ساعة من ساعات النهار حبال أصواتهم. وكانت تعجبنا نحن الصغار هذه اللعبة التي في حناجرهم والتي ربما لم يكونوا حتى لينتبهوا إليها. للنساء ذوات الصوت الخافت الناعم القوي في ضعفه: جدتي وأمي ونساء أعمامي ونساء أخوالي وأخواتي... كان لهن بهاء آخر في أصواتهن وهن يتابعن الشمس وهي في كبد السماء، ثم وهي تهوي قليلا قليلا جهة الغروب في انتظار الأذان. كانت لهن النظافة، والملبس، واللغة، وحكايا الانتظار عند ظل السور المحوط للدار. * لصوت الأواني الخزفية والحديدية والنحاسية موسيقى لا تشبهها أية موسيقى. لأصوات صحون الإفطار إيقاع خاص في الغسيل وفي الاستعمال وفي نقرات الملاعق عليها. لصوت أواني السحور إيقاع آخر حين يجيء في النعاس الفجري، مضمخا في عسل السفة، وكؤوس الشاي بالنعناع. * للكسكسي والسفوف والحريرة والخبز في بساطته الشعرية، إبهار ودهشة لنا نحن الصغار لا يستثنى منها الكبار أيضا. * كان لصوت المؤذن نغمة أخرى، صوته عند إعلان الإفطار، ساعة المغرب، فيه كثير من اللحن والنغم والسحر والرهبة، ففي صوته تتعلق شهوتنا للأكل وللخوف من الله ومن شيء غامض ينهض فينا. وكان لصوت المؤذن عند الفجر في النفس موقع آخر لا يفسر إلا بالنوم المفاجئ. * كان أبي من مسجدنا الصغير، مسجد الأسرة، الذي لا تتجاوز مساحته الخمسين مترا مربعا، يرفع صوته بالأذان واضعا كفه على أذنه اليمنى، دون مكبر صوت، أذان الإفطار، كان صوته يصلنا على الرغم من البعد. يصل الأذن ويدخل القلب، دون مكبر صوت. كنا ننظر إلى الساعة ولا ننزل عينا من على رقصة عقربيها، ولكننا كنا لا نفطر على رقصة عقارب الساعة مهما كانت دقيقة. وحده صوت الوالد المؤذن والإمام، كان يملك سلطة إعطاء إشارة الإفطار. * كثير من الرجال كانوا يملكون ساعات ومنبهات، ولكنها جميعها تسكت ولا تنافس ساعة والدي. ساعة والدي الوحيدة التي تعرف الوقت بدقة، وتعرف حركة الشمس، وهي الوحيدة التي تصحح جميع الساعات في قضمها لبعض الثواني أو الدقائق القليلة. كان الكبار من أعمامي وأخوالي حين يريدون ضبط ساعاتهم، خاصة مع قدوم رمضان، يرسلوننا نحن الصغار حاملين ساعاتهم أو منبهاتهم إلى والدي ليضبط جميع العقارب على ساعته، عقارب الساعات والدقائق والثواني. وكان والدي يقول لبعض الصغار: قل لفلان إن ساعتك متقدمة بدقيقتين، ويقول للآخر: قل لوالدك إن ساعته متأخرة بدقيقتين ونصف. كنت أجلس قبالة والدي أتأمله منهمكا في ضبط عقارب الساعات، والمنبهات، واحدا واحدا، بشغف وحب وعمق وحرص. * كان يخرج ساعته الجيبية ذات السلسلة الفضية المربوطة بعلبة هي الأخرى من فضة ناصعة البياض، يفتحها وإذا الساعة تنام يقظة في العلبة المفروشة بقطن أبيض رطب حتى لا تنزعج عقارب الساعة العظيمة. كان أبي يعتبر توقيت ساعات الأعمام والأخوال مهمة كبيرة تساوي مهمة ومسؤولية إطلاق كلمة "الله أكبر" إيذانا بالإفطار. * كان أبي لا يفارق أذنه جهاز المذياع الصغير الوحيد في الدشرة، يسمع الإذاعة ويعرف مواعيد إفطار العواصم، فحين يجيء موعد إفطار أهل مكة يخبر من حوله، جدتي وأمي وأخواتي: * - هذا وقت أذان مكةالمكرمة. * كانت جدتي لا تخفي استنكارها لمثل هذا الكلام، إذ كيف يمكن لبعض المسلمين وخاصة من أهل مكة منبع الإسلام ومدينة الرسول الأعظم أن يفطروا والشمس فوق رأسها لا تزال مصعصعة. كان والدي يحاول، بقدر ما يستطيع، إفهامها فتسكت قليلا وهي تستمع إلى شرحه حتى النهاية ولكنها تقول له بمجرد ما ينهي حكايته غير المقنعة عن الليل والنهار ودوران الأرض حول الشمس: * - ولكن الشمس لا تزال مصعصعة فكيف يفطر هؤلاء؟؟ * يسكت والدي ويبتسم ابتسامته الملائكية المليئة بالعمق. * يمر الوقت قليلا، وأذنه على الراديو، يلقي بنظرة على عقارب ساعته النائمة في القطن ويقول: * - هذا موعد إفطار أهل القاهرة، أحفاد الفراعنة. * فترد عليه جدتي بجملتها المعروفة، * - الشمس لا تزال مصعصة، الناس كفروا؟؟؟ * تسكت جدتي ثم تضيف: * - .... إنهم "بنو فرعون" الذي طغى وتجبر وعامل سيدنا يوسف وسيدنا موسى شر معاملة. * ينظر إليها والدي، يهز رأسه قليلا ثم يبتسم ويعود إلى المذياع لمتابعة الأخبار على محطة إذاعة لندن "ب.ب.س". * لم يكن الناس يتحدثون عن غلاء اللحم لا الأبيض ولا الأحمر، ولا أتذكر إن كنا نأكل اللحم أحمره أو أبيضه. كنت أشتم من حين لآخر رائحة قطع القديد وهي ترسل رائحتها بمجرد نصب قدر الحريرة. كنت أكره رائحة القديد. كنت أعثر بين الفينة والأخرى، حين يصادفني الحظ، على بقية من شحم في صحني. * كانت جدتي تجلس قبالة أمي حين تبدأ في ملء صف غرفيات الحريرة قبل تقديمها لتعرف بالضبط أين تذهب قطع القديد: القطعة الكبيرة لوالدي، ثم ما تبقى يوزع على بقية الصحون دون كبير اهتمام من جدتي. كان والدي حين يغطس ملعقته في غرفيته ويعثر على قطعة القديد الكبيرة، يفتتها قطعا قطعا صغيرة ثم يوزعها علينا مبتدئا بجدتي التي ترفض وتقسم ألا تذوق منها لأن ولدها هو الأولى بها، لكنه يوزعها بين أمي وإخوتي وأخواتي ويمصمص هو العظم معلقا: إني أحب مصمصة العظام. * كنا نجلس إلى المائدة جميعنا، ذكورا وإناثا، للكبار من الصائمين الأولوية في تناول الفطور. كنت أحب رائحة الخبز المطهي على النار الهادئة المعجون بيدي أختي الكبرى التي توفيت بغتة ذات شتاء وهي في الثلاثين من عمرها دون أن تتزوج. كنت أحب أيضا رائحة القهوة التي تغلي على نار حطب هادئ. أما الحريرة، والمرق، والسفة، والكسكسي، فلم يكن يثير فيّ أي شيء. * قبل موعد أذان الإفطار بساعة، يخرج والدي إلى مسجدنا الصغير، مسجد العائلة الموجود على بضعة مئات من الأمتار من بيت العائلة، بعد أن يتأكد بأن الروائح تجيء من المطبخ، وأن الحركة التي فيه نوع من العجلة أو التلهف قد بدأت تسري بين إخوتي وأخواتي. * يخرج إلى مسجده وهو يقرأ القرآن مهموسا بعد أن يتفقد للمرة الأخيرة أفراد العائلة، ويتأكد من وجود ضيفة أو ضيف سيجلس معنا على مائدة الإفطار. * مرات كنت أضحي برائحة القهوة والخبز، وأصحب والدي إلى مسجد العائلة. أجلس قبالته، يأخذ مجلسه في الركن، يخرج كتابا من كتبه التي يعيد ترتيبها فوق رفوف لوحية يتم نفضها من الغبار مرة واحدة في السنة، في الأسبوع الذي يسبق حلول شهر رمضان. يبدأ في قراءة من كتاب "تنبيه الغافلين". أراقب شفتيه وهما ترتجفان ملاحقتين الحروف والصفحات. وبعد أن يقرأ بعض الوقت من هذا الكتاب يفتح علبة ساعته ينظر إلى عقاربها، ثم يغلق العلبة، ويغلق الكتاب أيضا. يتناول المصحف الشريف ويبدأ في قراءة بعض آي من الذكر الحكيم بصوت عال. وبمجرد أن يشرع في قراءة القرآن يلتحق أعمامي بالمسجد، واحدا بعد الآخر. يجلسون قبالته باحترام، فهو حافظ كتاب الله ، حامله في صدره، وهو أكبرهم سنا. * كان أبي الوحيد من إخوته الأربعة الذي يعرف القراءة والكتابة باللغتين العربية والفرنسية، فقد درس في مساجد ندرومة، ودرس على مشايخها. درس أسبوعا واحدا في المدرسة الفرنسية ثم تركها. تعلم من الحياة بعد أن يمم شطر الشمال الفرنسي ليعمل في مناجم الفحم بلاستوري. * يجلس أعمامي للاستماع لأخيهم الأكبر وهو يرتل القرآن، كانوا في حضرته كلهم خشوع وأطفال. * قبل الأذان ببعض الدقائق، يصل بعض الرجال من الجيران في الدشرة المجاورة ويلتحق أيضا بعض أبناء أعمامي وأخي الأكبر. * ينظر والدي إلى ساعته نظرة أخرى وأخيرة، ثم يغلق المصحف ويقوم إلى الخارج حافيا، يقف عند ركن المسجد الصغير، يصمت قليلا، يخيم سكون، وكأنما العالم لا ينتظر إلا صوته، وكان العالم فعلا ينتظر صوته. يرفع والدي الأذان بصوت هادئ دون مكبر صوت، ودون تقعير أو صراخ. صوت فيه خشوع ونغمة ومحبة. * ينهي رفع الأذان، ثم يعود إلى المسجد ليصلي بالحاضرين. * بعد الصلاة، ينتفض الجميع دون تأخر، بل بشيء من السرعة، بينما كنت أستعجل الالتحاق بالمائدة. * يتبع