يعيشون خارج الزمان والمكان.. تصوير الشروق بيت من القش وأغصان النخيل وسقف بلاستيكي ممزق فراشهم من الشوك وسحورهم من نبق السدر عندما شدينا الرحال إلى صحراء دائرة سيدي خالد غرب ولاية بسكرة لمعاينة أوضاع عائلة العجوز الضاوية وأبنائها الثلاثة المقيمين في قفار موحش، اعتقدنا أننا سنقف على حالة مثيلاتها موجودة في جهات أخرى مادام الأمر يتعلق بحياة الحل والترحال لتربية المواشي. * * فحالة هؤلاء الموالين، متشابهة من حيث بساطة معيشتهم في خيم لا تلفاز فيها ولا ثلاجة ولا مطبخ ولا إنارة وكل ما يملكونه أفرشة وأغطية وبعض أواني الطبخ على مواقد تقليدية. وبناء على هذه الخلفية، لم نكترث بما رواه لنا دليلنا إلى المنطقة عبد الرحمان الذي لخّص كلامه في القول "مهما رويت لك حجم المأساة، فإن المشاهدة بالعين تغني عن كل تعليق". * * ورغم تطوّر نمط معيشة سكان البادية من حيث توفر الإمكانات المناسبة لحياة محترمة ولو تحت الخيمة، ثمّة من لايزال يعيش في البادية حياة التيه والتشرّد كما لو أنه يعيش في عالم آخر لا قارورات غاز فيه ولا أسرة حديدية ولا حتى قدور معدنية، شيء من هذا القبيل ترثه العائلات الفقيرة أبا عن جد في البادية ولا ترضى له بديلا غير أن ثمة من يتمنى تغيير واقعه، لكن لا حول له ولا قوة وهو حال العجوز الضاوية التي تواجه مصاعب الحياة. * * المسلك عنوان المأساة * * انطلقنا من سيدي خالد، رفقة الدليل نحو جهة الغرب عبر طريق معبّدة وما كدنا نقطع مسافة 10 كيلومترات، حتى طلب مني مرافقي تغيير الاتجاه إلى اليمين عبر مسلك ريفي وكان قد نبهني إلى صعوبة المسلك الذي تقطعه شعاب وأودية. * غير أن الواجب المهني، دفعنا نحو المغامرة بسيارة سياحية لا حول ولا قوة لها أمام طبيعة قاسية لا تقاومها سوى سيارة رباعية الدفع أو شاحنة. ولحسن الحظ، كانت الحجارة متوفرة لردم تلك الحفر في الشعاب واجتزنا العقبات لتنتهي بنا الرحلة عند ربوة تعلوها كومة، أدركنا أنها عنوان إقامة العائلة المقصودة وعلى بعد أمتار قبل الوصول، هرع نحونا شاب ترافقه كوكبة من الكلاب كسرت بنباحها هدوء المكان، إنه الشاب معيوف قال دليلنا الذي سبق له أن زار العائلة في سياق عمل خيري، وقتها كانت الساعة تُشير إلى الثالثة بعد الظهر ومن بعيد، لاحت أمام أعيننا عجوز عائدة بقطيعها من وادي غير ذي زرع قريب من مقر الإقامة إنها العجوز الضاوية ذات ال78 سنة وقد سبقها صوتها الحاد الذي علا المكان حاملا نبرة الخائف المتوجّس غير أن ابنها معيوف اتجه نحوها ليطمئنها. * * البلاستيك والقش لمواجهة غضب الطبيعة * * رحّبت بنا العجوز الضاوية ذات الجسم الهزيل وراحت تطلق كلمات وعبارات مختصرة جدا بعضها مفهوم وآخر غير مفهوم، كانت تتحدث بسرعة متفاعلة مع انهماكها في شد أوتاد الخيمة حتى لا تقتلعها الرياح، وقتها كان المطر ينزل وقطراته تنفذ بين مسامات كومة القش المغطاة ببلاستيك ممزّق بفعل حرارة الصيف ورياح الخريف وما كان دليلنا قد رواه لنا أثناء الرحلة شاهدناه بأم أعيننا، كوخ هش للإقامة مفتوح من كل الجهات، منصوب على أوتاد خشبية علوها 1 م على الأكثر، في داخل الكوخ أفرشة رثّة وأكياس فوق بعضها بعض، وفي الداخل موقد تقليدي وبعض الأثاث لمسنا منه أن العائلة لاتزال تحافظ فقط على المهراس الخشبي، مثلما حافظت على خيمة رثّة لا تصلح للإقامة لاتزال العائلة تحتفظ بها لأنها الرفيق الدائم لها منذ تأسيس الأسرة إلى ميلاد الأبناء تحتها. * * وفي الجوار، خيمة بلاستيكية مبطنة بالقش أشبه بحجر أو خم دجاج لا يزيد علوّه عن نصف المتر مخصّص للبنت مبخوتة الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من بنات العجوز الضاوية. * انزوينا تحت القش اتقاء للمطر الذي بدأ يتهاطل فور وصولنا وكأن الطبيعة ترافع لصالح هذه العائلة البائسة لننقل شهادة حية عن مأساة لمسناها ونحن نتقاسم مع الغلابى صعوبة الحياة في ذلك القفار. كانت قطرات المطر تنفذ إلى داخل الخيمة مع هبوب رياح باردة في عز صيف، حتى أننا شعرنا بالبرد ثمّة تخيلنا حال العائلة في فصل الشتاء بلياليه الطويلة، بجانبي كان يجلس محمد البالغ من العمر 37 سنة، منكمشا وبجواره شقيقه معيوف، البالغ من العمر 31 عاما. * * وفاة الأب منعرج نحو تعقد الوضع * * قبل حوالي 5 سنوات، لم تكن حياة عائلة توام معقدة مثلما هي عليه الآن، فرغم صعوبة الحياة في البادية وقلة الإمكانيات، كان ربّ الدار بمثابة الركيزة التي تحمل السقف على الأقل من حيث الإحساس بالآمان والإطمئنان، كان يملك قطيعا من الغنم والماعز يرعاها ويسترزق من عائداتها وكان يتولى شؤون أبنائه الذين أنجبهم جميعا تحت الخيمة في البادية. وبعد وفاته، وجدت العجوز الضاوية نفسها وحيدة لمواجهة متاعب الحياة اليومية بعد أن ترمّلت ب3 أيتام غير أصحاء أكبرهم البنت مبخوتة التي يبدو أنها غير مبخوتة فشلت في زواجها لتعود إلى أمها وتقيم تحت البلاستيك ملازمة إياه ليلا ونهارا والابن محمد الذي طال جسمه الهزال بفعل سوء التغذية حتى صار لا يقدر على المشي والابن الثالث معيوف الذي يبدو أحسن حالا من الاثنين من حيث الفطنة. * كل هؤلاء الثلاثة، التقيناهم داخل الخيمة يلازمونها على مدار الساعة، حيث معيوف يقوم بدورين أساسيين، حراسة الحرمة ورعي الغنم بالتناوب مع والدته التي لا معين لها في تدبير شؤون الخيمة والمطبخ، لقد تشبثت العائلة بالبادية رغم قساوة الحياة، فهي مسقط رأسها من حيث المولد والنشأة، فالأبناء لا يعرفون من المدن سوى ما جاور مقر إقامتهم من تجمعات عمرانية لا يلجونها إلا عند الضرورة القصوى، خصوصا محمد ومبخوتة اللذان لا يزالان يجهلان التلفاز والمذياع وحتى الياغورت يجهلونه ويرفضون تناوله، وحتى زيارات الأقارب منعدمة تماما، لأنهم أصلا فقراء حسب دليلنا أما العجوز الضاوية، فتحدثت عن شقيقها الذي يزورها ناذرا لبعد المسافة بينهما ولمسنا من كلامها أنه الشخص الوحيد الذي تكن له كل الحب والتقدير. * ازداد تهاطل المطر وانخفضت درجة الحرارة نسبيا بفعل الرياح الباردة ولم نعد قادرين على تحمّلها، كحال محمد الذي شرد بذهنه بعيدا متأملا في ما يحدث بجانبه وفي محيطه محافظا على انكماشه، كان يرتدي قميصا بلا أقفال وسروالا ممزّقا وكان عاري القدمين، كلما حدثناه ردّ بابتسامة هو فقط من يعلم كنهها. * * العائلة تبيت على الطوى والنبق للصور * * سألنا العجوز الضاوية، عما تدخره من مؤونة وخضر فأزاحت الغطاء عن 3 حبات بطاطا وحبتين من الطماطم وقالت "هذا كل ما نملك، والليلة لن نطبخ شيئا، فالحطب مبلل والطاجين الذي أطهي عليه الكسرة مكسر منذ أيام". * رأى دليلنا، كيسا نصف مملوء، فدفعه الفضول لمعرفة محتواه، ليكتشف أنه معبّأ بحبات النبق، جناه معيوف من شجر السدر، لتقديمه كعلف للحيوانات في فترات الجفاف، لكنه تحوّل إلى وجبة صحور بالنسبة لمعيوف هكذا قالت والدته وهي تؤكد سلامة رؤوس الماشية هذا العام من الأمراض وسوء التغذية بفضل توافر العشب في سنوات سابقة، اجتاح الجفاف الصحراء، فلم تجد العائلة ما تقدمه للماشية سوى النبق، أما زيارة البيطري لفحص المواشي فلا تحدث إلا خلال حملات ذات المنفعة العامة. * * مبخوتة في إقامة جبرية * * تبلغ البنت مبخوتة، 50 سنة، مطلقة منذ سنوات، وجدناها داخل جحر بلاستيكي مبطن بالقش، تدخله عن طريق الحبو ولا تبارحه إلا عند الضرورة، تنام فيه وتقضي فيه باقي أوقات النهار وهي جالسة صامتة، عندما ألقينا عليها نظرة داخل خيمتها المنفردة، بدا لنا وكأننا أمام مختل عقليا، عزله أهله حتى لا يؤذيهم، غير أن واقع الحال يفيد بأن العائلة البدوية محافظة جدا، لكن لا حول لها ولا قوة سوى القش والبلاستيك للفصل بين الجنسين. * كان مظهرها مؤلما جدا، خصوصا بعدما اشتكت من أوجاع في بطنها تلازمها منذ مدة، تتجرعها في صمت كحال شقيقها محمد، الذي يخفي هو الآخر معاناته خلف صمته الذي يلازمه تماشيا وصمت الصحراء الذي تخترقه أصوات نباح الكلاب وثغاء الخراف والنعاج، أما مبخوتة فيلازمها أيضا (كوشمار) قيل إن سببه تعرّض العائلة إلى اعتداء منذ عدّة سنوات من طرف مجهولين انهالوا عليهم ضربا أثناء مواجهتهم لهم دفاعا عن العرض والشرف. * سألنا معيوف: ما العمل عند إصابة أحدهم بمكروه؟ فأفادنا أنه يقطع عدّة كيلومترات مشيا على الأقدام لاستجداء أحد السواق يجده عند منقب مجاور أو متوقف على قارعة الطريق ويعلم الله من يتولى أمري إذا مرضت قال معيوف واضعا علامة استفهام لا جواب لها. * * العجوز: اليد قصيرة والعين بصيرة * * لم تكتف العجوز الضاوية بشرح حالة عائلتها وأوضاعها في ذلك المكان المنسي بالألفاظ، بل استعملت حركات يديها دون أن تتوقف قهقهتها المترجمة لشدّة مللها من رتابة العيش في فضاء مقفر، حيث البرد الشديد شتاء والحرارة الحارقة صيفا والخوف الأبدي؛ لا مساعدات ولا قفة رمضان ولا فحوصات طبية، حتى عند إصابة أحدنا بلسعة نعالجه تقليديا، أي نعم تقول العجوز الضاوية نملك بضعة رؤوس من الأغنام والماعز هي رأسمالنا، لكن اليد قصيرة والعين بصيرة، أنا كما ترون، عجوز على مشارف المغادرة وأولادي كما ترون، غير أصحّاء حتى معيوف الذي أعول عليه يستغل التجار بلاهته فيشترون منه الرأس بثمن زهيد، لقد سئمت من هذه (الميزيرية)، أريد الاقتراب من التجمّعات العمرانية، لكن أين هو السكن؟ * * كررت العجوز هذه الأمنية عدّة مرات على مسامع أبنائها الذين التزموا الصمت في مقطع درامي مأساوي، حيث لا نار في الموقد ولا كسرة ولا شيء آخر يوحي بأن العائلة ستفطر بشيء آخر غير كمية من الحليب وحبات النبق تتقاسمها مع الماشية. * وقتها، اقترب موعد الإفطار، غادرنا المكان ومعنا صورة حيّة لمأساة عشنا جانبا منها وشاهدناها على بعد كيلومترات من دائرة سيدي خالد القريبة وعلى بعد مسافة طويلة عن بلدية شعبية التي تنتمي إليها العائلة إداريا وعلى بعد مسافة أقل عن بلدية البسباس التي تقيم في ترابها هذه العائلة، وأمام هذه الحواجز الجغرافية، دخلت العائلة عالم النسيان لتخفي مأساتها عن وكالة التنمية الاجتماعية والسلطات. * لكن مهما يكن، فإن الحاجز الجغرافي لن يكون حائلا أمام قلة من فاعلي الخير يجودون بما استطاعوا في انتظار تدخل أولي الأمر، خصوصا وزارة التضامن. *