السّجن عادة وضع لأولئك الذين ارتكبوا الجرائم، سرقوا ونهبوا وأزهقوا أرواح الأبرياء، لينالوا عقوبات رادعة على صنيعهم هذا، إلا أنه على العكس تماما ما يحدث مع عشرات العائلات الحرّة "بحي بلانتير" بوهران التي لم تقترف إطلاقا أشياء من مثل هذا القبيل، تعيش حياة أقل ما يقال عنها أنها مأساوية، قدرها أن يحكم عليها بالسجن مدى الحياة خلف قضبان سجن يعود إلى الفترة الاستعمارية، لا لشيء إلا أنها لم تجد مأوى لها، فاتخذت زنزاناته وقاعات التعذيب الفسيحة فيه مساكن لها. إنه "غوانتنامو جديد" بكل المقاييس في بلد يعيش بحبوحة مالية وصلت احتياطات الصرف فيه إلى أكثر من 70 مليار دولار، عشرات العائلات المسجونة بهاته المؤسسة العقابية، فضّلت الزج بنفسها طواعية في الزنزانات على أن تبقى في العراء تواجه مصيرا مجهولا. غبن، حڤرة، تهميش... كل هاته العبارات تبقى عاجزة عن وصف معاناة هؤلاء الأحرار الذين سجنوا في غياهب هذا السجن الذي أذاقهم الويل، وذلك بإرادة السلطات المحلية وصمتها التي برعت فقط في توزيع الوعود الكاذبة التي طال أمدها، "سنجد حلا لمعاناتكم... سترحلون إلى مساكن جديدة هذا الشهر..." هاته هي الوعود التي يطلقها المسؤولون كلما وطئت أقدامهم المكان الذي تسجن فيه هاته العائلات، التي أحسسنا ونحن نتحدث مع أفرادها بأنهم يشعرون أنهم مواطنون جزائريون، لكن من الدرجة الثانية، فكل واحد من نزلاء هذا السجن لديه قصته التي يرويها بمرارة مع هذا المكان الموحش، فعلى الرغم من اختلافها إلا أنها تلتقي عند مصير واحد يكابده الكل، وهي صورة المعاناة التي نال كل واحد منهم قسطا وفيرا منها. حياة ضنكى لعشرات العائلات التي حُشرت في الزنزانات وقاعات التعذيب! تعاقبت العديد من الحضارات على المكان الذي شيّد به السجن "بحي بلانتير الشعبي"، الذي اتخذت زنزاناته وقاعات التعذيب فيه مأوى من قبل عشرات العائلات التي لم تجد سقفا يلم شملها، أحد العارفين بالإرث الحضاري الذي تزخر به المنطقة، صرّح بأن ذات المكان كان مسرحا لتعاقب حضارات عديدة تركت بصماتها واضحة، سيما الأتراك الذين وفدوا إلى المنطقة مع الإنتداب العثماني الذي بسط هيمنته على البلاد العربية والإسلامية، واستطاع أن يدحض الحملات الإسبانية للنيل من المنطقة لما لها من موقع استراتيجي هام، إلا أن دخول المستعمر الفرنسي بعقليته الاستيطانية، سعى من خلالها إلى طمس معالم الهوية الوطنية المستمدة من الموروث العربي الإسلامي، والأخطر من ذلك أنه راح يشيد السجون التي ملأها بأولئك الذين قاوموا الاحتلال، حيث أذاقهم أبشع أنواع التعذيب والتنكيل، السّجن أو "غوانتنامو الجديد" بوهران الذي هربت إليه عشرات العائلات واتخذته مأوى لها، تركه المستعمر الفرنسي غداة الاستقلال، ليقوم الجيش الوطني باستغلاله كثكنة إلى غاية 1975، أين غادره، ليشهد فيما بعد هجوما كاسحا من لدن العائلات الباحثة عن مستقر لها حتى ولو في سجون المستعمر التي تركها وراءه. انطلقنا في رحلتنا لاستكشاف "غوانتنامو وهران الجديد" الذي ذاع صيته بالمنطقة وبات حديث العام والخاص، لأنه ارتبط بفترة تاريخية تعود إلى قرون خلت، سلكنا طريق "سيدي الهواري" الذي يعد بحق إرثا حضاريا وثقافيا، خاصة ضريح الإمام "سيدي الهواري" الذي تفتخر به الباهية، ويعتبر مقصدا للسياح من الداخل ومن الخارج، رحنا نتجول بين أزقته العتيقة التي لا تخلو من الحركة الدؤوبة، إلا أن ما شدنا هو وضعية البنايات التي صنفت كمعالم أثرية، إذ أصبحت مترهلة، تآكلت جدرانها وسقطت أجزاء منها، أما الأخرى أصبحت مرتعا للمنحرفين لممارسة شتى أنواع الفساد الأخلاقي وتعاطي الخمور والمخدرات، سكانه يحيون حياتهم بصورة طبيعية من خلال ممارسة التجارة، واصلنا مسيرتنا والتقينا بجحافل السكان القاطنين به وهم ينهمرون من الأعلى، خلنا أنفسنا ونحن نمشي وكأننا نتسلق أحد الجبال، وما إن وصلنا إلى المكان المقصود حتى تفاجأنا بحجم الكارثة، في بادئ الأمر ظننا أنفسنا أننا أمام مداخل أحد الكهوف التي تعود إلى العصور الغابرة، فالمكان ورهبته توحيان بذلك، خاصة ذلك القوس الكبير ذي الإرتفاع العالي الذي يزين المدخل الرئيسي ويخفي وراءه الظلام في عز النهار، لكن سرعان ما تبدد هذا الشعور برؤية أعداد غفيرة تخرج من ذلك السجن وهي تستقبلنا بتلك الثغور الباسمة التي تخفي وراءها معاناة كبيرة لا تسع عبارات الأسى وصفها، وما إن كشفنا لهم هويتنا حتى رحّبوا بنا وراحوا يسردون لنا مسلسلهم اليومي الذي يتواصل مع مشاهد دراماتيكية لم تكتمل بعد حلقتها الأخيرة في ظل تماطل السلطات المحلية، "...اكتبوا عنّا وانقلوا همومنا إلى عديمي الضمير الذي عمّقوا معاناتنا... لم تبق إلا الصحافة لتخفف آلامنا... مللنا الانتظار وإطلاق الوعود..."، هكذا عبّرت لنا بعض العائلات عن مأساتها في ذلك السجن بنبرة مليئة بالحزن والتذمر. ولجنا إلى عمق السجن الذي اتخذته عشرات العائلات مأوى لها واستوقفتنا أكوام الخردة وبقايا الفولاذ وصفائح الزنك التي حاصرت البيوت عند المدخل، ناهيك عن الحجارة والأتربة الناجمة عن الإنهيارات الجزئية للمبنى المؤلف من عدة أجنحة، فالجناح الأول الذي يصادفك وأنت تدخل المكان تقطن به تسع عائلات اتخذت من قاعاته الكبيرة وزنزانته الضيقة مساكن، وقامت بإجراء تعديلات عليها من أجل توسيعها، لكن سرعان ما اصطدموا بواقع مر لن تجدي معه نفعا تلك العمليات التجميلية، فالسقوف ارتفاعها عال جدا بلغ 30 مترا، وبإمكاننا تخيل حجم المعاناة في فصل الشتاء، حيث تتحول تلك المساكن أو بالأحرى الزنزانات إلى فيضانات تترك وراءها بركا وبحيرات جراء الأمطار المنهمرة من أعلى، إذ كل محاولات احتوائها باءت بالفشل، فلم تسعها الدلاء والأواني ولا حتى أكوام الجبس التي وضعت من أجل سد ثقوب السقوف. دخلنا إلى مسكن "عائلة شعيب" الذي تآكلت جدرانه وبات خطرا وشيكا على حياة قاطنيه، وراحت إحدى السيدات تحكي لنا وضعية العيش في ذلك السجن الموحش، أطلعتنا على غرفة اتخذتها للطبخ وكم كانت مفاجأتنا كبيرة، إنها لا تسع حتى لشخصين، وهي على حد تعبير تلك السيدة "علبة كبريت"، وعلى الرغم من أن الإضاءة كانت موجودة، إلا أننا شعرنا بظلمة المكان، إذ تضطر العائلات إلى ترك الإنارة مشغلة في وضح النهار نظرا للظلام الدامس، وبإمكاننا تخيل حالة نزلاء هاته المؤسسة العقابية في الفترة الاستعمارية الذين لقنتهم السلطات العسكرية الفرنسية كافة فنون التعذيب والتنكيل. أرباب عائلات قضوا بعد أن أصيبوا بأمراض مزمنة ولم يجدوا تكفلا طبيا "عائلة شعيب" كانت تحيا حياة طبيعية، إلا أن تكاليف الكراء أفرغت جيوبها لتجد نفسها مضطرة تحت ظروف قاهرة إلى مغادرة منزلها السابق، لتقع في جحيم آخر لا يقل إيلاما عن سابقه، كيف لا...؟! وقد سرق منها حياة رب العائلة، مصدر رزقها الوحيد، إذ نال منه مرض الربو وألزمه الفراش مدة طويلة إلى أن وافته المنية، وهو الذي كان يتمتع بصحة جيدة لتجد الزوجة وأبناءها الثلاثة أنفسهم يكابدون وحدهم مرارة العيش، 13 سنة هي مدة العقوبة التي قضتها هاته العائلة بين جدران زنزانات السجن المترهل، وماتزال تنتظر وتعد الساعات التي تمر عليها وكأنها أعوام، متشدقة بآمال طال أمد تحقيقها وباتت من المستحيلات السبع في ظل غياب التفاتة من الجهات الوصية التي عمقت معاناة هؤلاء الذين أصبحوا لاجئين جدد في وطنهم. قصة أخرى لا تقل إيلاما عن سابقتها، كتبت فصولها المريرة عائلة "بن حامد" الذي قضى معيلها الوحيد إثر مرض عضال نال منه بعد فترة زمنية كابد فيها آلام المرض، حيث ازدادت حالته الصحية سوءا في غياب التكفل الطبي وظروف السكن المزرية، حياة زوجة السيد "بن حامد" ازدادت مأساوية برحيله عن الدنيا، تاركا وراءه 3 بنات في عمر الزهور وزوجة لم تقو على تكاليف الحياة، يقطنون قاعة فسيحة كانت مخصصة لتعذيب السجناء تصلح لكل شيء إلا للسكن، وكم كانت دهشتنا كبيرة عندما رحنا نتأمل في أرجاء المكان الغائر في الظلمة الدامسة، السقف يبعد عن الأرض حوالي 30 مترا، مليء بالثقوب التي تصبح في فصل الشتاء شلالا تنهمر منه مياه المطار المتجمعة على السطح، وبإمكاننا تخيل حالة المسكن بعد غرقه بالمياه، أين تتبلل الأفرشة والأطعمة ويصبح البحث عن جو دافئ في عز الشتاء من المستحيلات السبع التي لن يتم تحقيقها نظرا لشساعة مساحة القاعة التي اتخذتها هاته العائلة مأوى لها منذ أزيد من 15 سنة، هاجس آخر بات يقض مضجعها ألا هو خطر الإصابة بالأمراض الجلدية كالحساسية نظرا لدرجة الرطوبة العالية، "... لقد نال هذا المكان المشؤوم من زوجي، بعد أن كان ينعم بصحة جيدة في السابق... لقد وجدت نفسي وحيدة أمام متطلبات الحياة الكثيرة..."، هكذا عبّرت لنا زوجة "بن حامد" الراحل بنبرة مليئة بالحزن والأسى، إلا أن هذا الوضع السوداوي لم يثن عزمها في توفير الجو الملائم لبناتها الثلاث وراحت تتدبر شؤون المسؤولية التي أثقلت كاهلها، لا لشيء إلا ليتابعن الدراسة وينعمن بتكوين جيد يقيهن نوائب الدهر، ومن بينهن "مخطارية" التي حصلت على أحسن العلامات في الدراسة، فهي تزاول تعليمها في السنة الرابعة ابتدائي وتمكنت من الصعود إلى السنة الخامسة، استقبلتنا بابتسامة بريئة تخفي وراءها أمنية كبيرة في الخلاص من الجحيم الذي سرق منها والدها، أخبرتنا بكل عفوية عن الوضعية التي يعيشونها في السجن، وأول ما شدنا هو الخوف الذي ارتسم على تقاسيم وجهها وهي تحدثنا على معركة الجيران مع الأفاعي السامة التي باتت تقاسمهم حياتهم اليومية، سيما الأطفال الذين أصبح ينتابهم الفزع والرعب بمجرد ذكر إسمها، حتى الجرذان والحشرات السامة تحالفت وتجمعت لتنغص حياة قاطني هذا المكان الموحش، وذلك نظرا للروائح الكريهة المنبعثة من قنوات الصرف الصحي المهترئة التي خلفت سيولا من المياه القذرة، وكذا أكوام الأوساخ المتناثرة التي لم تجد لها العائلات حلا نهائيا، أما الطامة الكبرى هو أماكن قضاء الحاجة التي باتت تشكل عقدة لسكان الجناح الأول من السجن الذي تقطن به 9 عائلات، إذ يقطعون أشواطا من أجل بلوغها وسط ممرات ضيقة مليئة بالحفر والنتوءات، ناهيك عن الأشواك وما قد يصادفهم من أفاعي وجرذان سامة، سيما في المساء، أين يرخي الليل سدوله المظلمة، ليصلوا إلى هذه المراحيض الموجودة في الهواء الطلق والمكشوفة أمام المارة، فهي في الحقيقة عبارة عن خنادق، وكأننا نعيش في أحد العصور الغابرة لا في عصر التكنولوجيا والثورة الرقمية، هكذا يعاني "أحرار وهران" في السجن الذي على الرغم من محاولاتهم المتكررة لأنسنته، إلا أنه بقي مقفرا ينفر منه الكل، حيث يقضي الشباب وأرباب العائلات جل يومهم خارجه علّهم يهربون من هذا الكابوس المرعب ولو للحظات، أما النساء والفتيات فإن عزاؤهن الوحيد هو الإستماع إلى الإذاعة أو مشاهدة برامج الفضائيات عبر الأطباق اللاقطة التي نصبت على السطوح، فهن يقضين سائر يومهن في التنظيف وغسل الملابس التي لن تصبح صالحة للإرتداء في اليوم الموالي، سيما تلك الخاصة بالأطفال الذين يلعبون بجانب بقايا الزنزانات التي انهارت جدرانها مخلفة أكواما من الأتربة والحجارة. "ما بقاتش قعدة..." هاته كلمات مقتطفة من إحدى أغاني الراي التي كانت تنبعث من إحدى الزنزانات التي اتخذتها إحدى العائلات مسكنا لها، وكأن صاحبها كان يرثي حال هؤلاء الذين كتب عليهم الشقاء في وطنهم الذي لم ينعموا فيه حتى بمسكن لائق مثل سائر الناس، يقيهم الحر والقر ويجنبهم حياة الغبن، "...حيين وصابرين..."، هكذا اختصرت زوجة السيد "هديبلي" مأساتها في هاته الكلمات التي صورت حياة البؤس التي تعيشها، إنها عائلة متكونة من 7 أفراد، تواجه خطر الإنهيار الوشيك في أية لحظة بصدور عارية، سكنت هذا السجن منذ أزيد من 17 سنة، فالسقف متآكل وينذر بسقوط لا يبقي ولا يذر، استوقفتنا "سارة" الصغيرة بنظراتها البريئة، فهي تحضر لدخول المدرسة العام المقبل، لا تحمل من المكان الموحش الذي حتمت عليها الظروف القاسية أن تعيش فيه رفقة والديها وإخوتها، إلا الذكريات السيئة، فصورة الأفعى السامة التي بثت فيها الذعر لاتزال محفورة في ذاكرتها ولم يستطع أحد أن يمحيها، أما حالة الرضيع الصغير "إلياس شوشان" الذي يبلغ من العمر 10 أشهر يعبر بحق عن مدى فظاعة العيش هناك التي أرَّقت الكبار ولم يسلم منها حتى الصغار، لقد أصيب بحساسية حادة في العين سببت له آلاما حادة، حيث انتفخت عيناه الجميلتان، لتتعقد حياة الأم التي لم تصبح تقوى على صراخ فلذة كبدها الذي شغف بحبه جميع الجيران، هكذا يفتك هذا "السجن الملعون" بصحة البراءة التي كتب لها أن تأخذ هي الأخرى حظها من حياة الغبن، إلا أنه رفع بعضها راية التحدي وأبان على نتائج علمية جد مرضية على الرغم من الظروف القاهرة عجز عن تحقيقها أولئك الذين يسكنون في القصور المشيدة، تعالت زغاريد الفرحة بمناسبة النجاح في شهادة التعليم الابتدائي، عزاء العائلات المسجونة بإرادة المسؤولين وصمتهم هو تفوق أبنائهم في الدراسة. عبير... رضيعة عضّها جرذ فقطع أصبعها وأختها تكسرت عظام ساقها إنها الحياة بحلوها ومرها تتقاسمها 36 عائلة أخرى تقطن في الجناح الثاني من السجن الذي يحتوي على زنزانات ضيقة وقاعات فسيحة بالإضافة إلى بهو تحاصره هضبة من الأتربة وأكوام من الحجارة، اتخذته 4 عائلات أخرى للصعود للطابق الأول الذي يشدك إليه الوضعية الكارثية التي هي عليه جدرانه الخارجية، وأي صعود يتم بواسطة سلالم هشة مصنوعة من الخشب، أوقعت بالعديد من الضحايا، ولنا أن نتصور حجم المشقة التي يكابدها هؤلاء في نقل قارورات الغاز والمقتنيات إلى مساكنهم أو بالأحرى إلى زنزاناتهم، الوضع هناك لا يبشر بالخير في ظل معاناة الأطفال مع الأمراض وفي مقدمتها ضيق التنفس والسعال، الخوف أصبح يعتري السكان عن مصير فلذات أكبادهم الذين باتوا يخشون تركهم وحدهم في ظل الحركة الدؤوبة للأفاعي السامة والجرذان، هاته الأخيرة التي أرعبت عائلة "دحلوس"، التي استفاقت ذات يوم على أحد الجرذان وهو يهاجم ابنتهم الرضيعة، إنها البرعمة "عبير" التي كانت تبلغ من العمر 3 أشهر والآن مرّت 8 أشهر عن الحادث المأساوي الذي وقع لها مع ذلك الجرذ الملعون، لقد حزّت في أنفسنا وضعية "عبير" التي فقدت أحد أصابع رجلها التي قطعت مباشرة بعد أن باغتها ذلك الجرذ وهي في غمرة النوم، الدكتور الذي أجرى لها العملية الجراحية لم يجد من حل سوى بتر الأصبع بالكامل بعد أن أتت عليه أسنان ذلك الجرذ، خشية إصابتها بمرض خبيث قد يأتي على كامل رجلها، "عبير" حتمت عليها الظروف القاسية أن تترعرع في بيئة أحدثت لها تشوها خلقيا سيبقى يلازمها، وأكيد أنها ستكبر وتسأل في يوم من الأيام عمن فعل بها ذلك، شقيقتها كذلك البالغة من العمر عامين ونصف أصيبت بكسور على مستوى ساقيها جراء سقوط مميت، لقد تسلقت ذلك السّلم الهش المصنوع من الخشب الذي يتوسط بهو الجناح، كانت تريد بلوغ الطابق الأول، أين يقيم جيرانهم الأربعة، لكن سرعان ما فقدت التوازن لتسقط من الأعلى على رأسها، لقد دوى صراخها في أرجاء المكان، لأنها لم تقو على تحمل آلام الكسر الذي أصاب ساقيها النحيفتين، حالتها النفسية أصبحت سيئة، فهي لا تتذكر إلا تلك السقطة التي كادت أن تودي بحياتها، إلا أن ما يبقى يثير الرعب لديها تلك الأفاعي التي يتعارك معها الجيران يوميا، حيث صرحت إحدى السيدات بأن الجيران قضوا في ظرف شهر على 16 أفعى. وفي نفس الجناح أين تتقاسم ال36 عائلة حياة الغبن، تطل علينا قصة أخرى دراماتيكية لاتزال تتجرع فصولها بمرارة عائلة "جيلالي"، كيف لا، وأن ابنتهم "منال" البالغة من العمر 8 سنوات، صاحبة الوجه المشرق الذي سرقت منه الابتسامة، ولدت في ظروف عادية، إلا أنه وبعد عامين بدأت تظهر عليها أعراض المرض والإعاقة، لم نستطع تمالك أنفسنا ونحن نقف على حالتها وهي سجينة في غرفة أو بالأحرى في زنزانة وكأنها محكوم عليها بالسجن المؤبد، ملقاة على سرير لا تقوى على الحركة، فإعاقتها وصلت إلى 100 %، "منال" كان يجدر بها أن تكون رفقة نظيراتها في السن تزاول دراستها، إلا أن الإعاقة حرمتها من حمل المحفظة والتوجه لطلب العلم، إنه المكان المشؤوم الذي سرق من البراءة الأحلام الجميلة، وعلى الرغم من الصّرخات التي أطلقتها والدتها والملفات الطبية التي أودعتها للتكفل بها، خاصة وأن رب العائلة لم يعد يستطيع التكفل بمصاريف البيت المتزايدة، إلا أن ذلك لم يشفع لها، وها هي اليوم تطلق عبر "الشروق اليومي" نداء استغاثة للقلوب الرحيمة والجهات الوصية وفي مقدمتها وزير التضامن للتكفل بحالة ابنتها. أطفال هلكوا، ونساء تشوّهن خلقيا... لكن... لا حياة لمن تنادي...!؟ ملّ أحرار وهران من الانتظار، فأووا إلى سجن الغزاة سنين عددا، بعد أن عضت عليهم الدنيا بأنيابها وراحوا يطرقون أبواب المسؤولين، ويا ليتهم وجدوا إجابة تشفي غليلهم أو على الأقل تخفف من آلامهم، هاته الظروف المأساوية التي تعيشها هاته العائلات في ظل "جزائر العزة والكرامة" لم توقظ المشاعر الإنسانية لدى المسؤولين المحليين الذين ماتت ضمائرهم منذ أمد بعيد، وبترت أيديهم عن إيجاد حل نهائي لمشاكل المواطنين، هذا وبعد أن صدت جميع الأبواب في وجه "العائلات المسجونة" بإرادة المسؤولين وصمتهم اختاروا خيار التصعيد وراحوا يعتصمون ويحتجون أمام المباني الإدارية، أمام الإدارة والولاية علّهم ينتشلون من المأساة وينتقلون إلى مساكن لائقة يعيشون فيها كسائر المواطنين بعد أن تقطعت بهم السّبل وسئموا الانتظار، عائلة "بودرهم" روت للشروق كيف اقتادتهم مصالح الشرطة إلى مقرّها، وكان بين أوساطهم الأطفال والنساء، حدث ذلك منذ عام عندما احتجوا أمام مبنى الدائرة، "...لقد فقدنا أعصابنا عندما أصيبت شقيقتنا بفيروس أصابها على مستوى الفم... شوّه شكلها... كيف لا نحتج ونحن نرى ذوينا يموتون ببطء أمام أعيننا..."، هكذا عبرت لنا "لطيفة" عن استيائها وتذمرها من تماطل السلطات المحلية. مأساة عائلة "بودرهم" لم تتوقف عند هذا الحد، بل ازداد الوضع قتامة وحزنا عندما هلكت ابنتهم الصغيرة في حادث سقوط مميت من أعلى سطح "السجن"، لم تكن تدري وهي تلعب أن حتفها سيكون على يد هذا السجن السفاح الذي أوقع بالعديد من الضحايا في صفوف البراءة، لقد هوت من أعلى السطح نتيجة الظلام الدامس الذي يعم أرجاء المكان، إذ وضعت رجلها في الفراغ لتسقط على أكوام الحجارة، لتلفظ أنفاسها الأخيرة، ولم يسلم حتى الأقارب الذي هرعوا إثر تلقيهم الفاجعة لتقديم واجب العزاء، ليفقدوا هم أيضا فلذة كبدهم الذي لا يتجاوز عمره العامين، حيث تدحرج من أعلى السطح ليسقط على الأرض جثة هامدة، العزاء أصبح عزاءين والمأساة تواصلت فصولها... تركنا نزلاء سجن "غوانتنامو الجديد" بوهران من العائلات الحرة، وكلّهم أمل أن تصل صرخاتهم عبر "الشروق اليومي" لمسامع السلطات العليا في البلاد، لعلها ترفع عنهم الغبن وتنتشل أجيال الغد من الضياع في غيابات هذا السجن المقرف الذي سرق منهم حتى الأحلام الجميلة، "...ان شاء الله يرحلونا من هنا... ملينا..."، هو حلم البراءة الذي نطقت به الكتكوتة "سارة"، فهل من مجيب يا ترى...؟ ربورتاج: محمد حمادي