ميناء الجزائر: فتح أربعة مكاتب لصرف العملة الصعبة بالمحطة البحرية للمسافرين "قريبا"    دورة "الزيبان" الوطنية للدراجات الهوائية ببسكرة : 88 دراجا على خط الانطلاق    أمطار رعدية على عدة ولايات من الوطن يومي الجمعة و السبت    فلسطين: الاحتلال الصهيوني يحول الضفة الغربية إلى سجن مفتوح بوضع عشرات البوابات الحديدية    فايد يؤكد أهمية تعزيز القدرات الإحصائية من خلال تحديث أدوات جمع البيانات وتحليلها    اللجنة الاستشارية ل"أونروا" تطالب الكيان الصهيوني بتعليق تنفيذ التشريع الذي يحد من عمليات الوكالة في فلسطين المحتلة    معسكر: الشهيد شريط علي شريف... نموذج في الصمود و التحدي و الوفاء للوطن    رئاسة الجزائر لمجلس الأمن: شهر من الإنجازات الدبلوماسية لصالح إفريقيا والقضايا العادلة    كرة القدم/الرابطة الأولى "موبيليس": مباراة "مفخخة" للمتصدرواتحاد الجزائر في مهمة التدارك ببجاية    فلسطين: غوتيريش يطالب بإجلاء 2500 طفل فلسطيني من غزة "فورا" لتلقي العلاج الطبي    انتخابات تجديد نصف أعضاء مجلس الامة المنتخبين: قبول 21 ملف تصريح بالترشح لغاية مساء يوم الخميس    وزير الاتصال يعزي في وفاة الصحفي السابق بوكالة الأنباء الجزائرية محمد بكير    السوبرانو الجزائرية آمال إبراهيم جلول تبدع في أداء "قصيد الحب" بأوبرا الجزائر    الرابطة الأولى: شباب بلوزداد ينهزم أمام شباب قسنطينة (0-2), مولودية الجزائر بطل شتوي    وزير الثقافة والفنون يبرز جهود الدولة في دعم الكتاب وترقية النشر في الجزائر    تنوع بيولوجي: برنامج لمكافحة الأنواع الغريبة الغازية    بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية, وزير الاتصال يستقبل من قبل رئيس جمهورية بوتسوانا    اللجنة الحكومية المشتركة الجزائرية-الروسية: التوقيع على 9 اتفاقيات ومذكرات تفاهم في عدة مجالات    رياح قوية على عدة ولايات من جنوب الوطن بداية من الجمعة    وزير الصحة يشرف على لقاء حول القوانين الأساسية والأنظمة التعويضية للأسلاك الخاصة بالقطاع    وزير الصحة يجتمع بالنقابة الوطنية للأطباء العامين للصحة العمومية    رسالة من تبّون إلى رئيسة تنزانيا    لصوص الكوابل في قبضة الشرطة    تعليمات جديدة لتطوير العاصمة    عندما تتحوّل الأمهات إلى مصدر للتنمّر!    بوغالي في أكرا    توقيف 9 عناصر دعم للجماعات الإرهابية    محرز يتصدّر قائمة اللاعبين الأفارقة الأعلى أجراً    فتح باب الترشح لجائزة أشبال الثقافة    التلفزيون الجزائري يُنتج مسلسلاً بالمزابية لأوّل مرّة    الشعب الفلسطيني مثبت للأركان وقائدها    الأونروا مهددة بالغلق    فلسطين... الأبارتيد وخطر التهجير من غزة والضفة    شركة "نشاط الغذائي والزراعي": الاستثمار في الزراعات الإستراتيجية بأربع ولايات    تحديد تكلفة الحج لهذا العام ب 840 ألف دج    السيد عرقاب يجدد التزام الجزائر بتعزيز علاقاتها مع موريتانيا في قطاع الطاقة لتحقيق المصالح المشتركة    مجموعة "أ3+" بمجلس الأمن تدعو إلى وقف التصعيد بالكونغو    غرة شعبان يوم الجمعة وليلة ترقب هلال شهر رمضان يوم 29 شعبان المقبل    اتفاقية تعاون بين وكالة تسيير القرض المصغّر و"جيبلي"    لجنة لدراسة اختلالات القوانين الأساسية لمستخدمي الصحة    الرقمنة رفعت مداخيل الضرائب ب51 ٪    4 مطاعم مدرسية جديدة و4 أخرى في طور الإنجاز    سكان البنايات الهشة يطالبون بالترحيل    توجّه قطاع التأمينات لإنشاء بنوك خاصة دعم صريح للاستثمار    رياض محرز ينال جائزتين في السعودية    مدرب منتخب السودان يتحدى "الخضر" في "الكان"    السلطات العمومية تطالب بتقرير مفصل    شهادات تتقاطر حزنا على فقدان بوداود عميّر    العنف ضدّ المرأة في لوحات هدى وابري    "الداي" تطلق ألبومها الثاني بعد رمضان    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    أدعية شهر شعبان المأثورة    وهران.. افتتاح الصالون الدولي للشوكولاتة والقهوة بمشاركة 70 عارضا    صحف تندّد بسوء معاملة الجزائريين في مطارات فرنسا    العاب القوى لأقل من 18 و20 سنة    الجزائر تدعو الى تحقيق مستقل في ادعاءات الكيان الصهيوني بحق الوكالة    عبادات مستحبة في شهر شعبان    تدشين وحدة لإنتاج أدوية السرطان بالجزائر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التحديات التي تجدد الرهان على الإتحاد المغاربي
حلم رومانسي لم تقتله الأنظمة عند الشعوب
نشر في الشروق اليومي يوم 12 - 12 - 2009

بماذا وكيف سيحكم التاريخ على شعوب، ونخب، ونظم الحكم في دول المغرب العربي، وهي تفوت الفرصة تلو الأخرى لبناء اتحاد مغاربي، يمتلك جميع المقومات التاريخية والجغرافية، والموارد البشرية والمادية التي تؤهله لتبوء المقام المحمود بين الأمم، كقوة إقليمية وازنة، تشارك بندية كاملة مع جيرانها في الشرق والشمال والحنوب، في زمن تتسابق فيه الدول والشعوب على فرص بناء التكتلات الكبرى، وتقفز على الحدود الجغرافية الوهمية، والآفاق الضيقة للنظم القطرية؟
*
*
حالة التضامن بين شعوب المغرب العربي التي برزت بقوة على هامش تأهل المنتخب الجزائري للمونديال، كشفت إخفاق النظم القطرية في تكريس الفرقة بين أبناء شعب واحد، لا يعترفون بتلك الحدود الاصطناعية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، وأعطت في الوقت نفسه إشارة قوية لنخب المغرب العربي، تحفيزها على البحث مجددا عن صيغ عقلانية مبتكرة لبناء المصير المشترك، والبحث مجددا في سبل تطوير مقدرات ومقومات بناء الإتحاد المغاربي وهي كثيرة، والعمل على تجاوز المعوقات، وهي على الأكثر ثلاث معوقات: معوقات نظم الحكم، والمثبطات الخارجية، والنزاع القائم في الصحراء الغربية.
*
*
مقومات قوة إقليمية وازنة
*
بعيدا عن التذكير بما يعلمه الجميع، بشأن العوامل التاريخية والحضارية والثقافية التي تؤهل إقليم المغرب العربي لبناء كيان وحدوي مندمج، دعونا نقف عند بعض المقومات الاقتصادية لهذا الفضاء، ونتوقف عند بعض المحطات، منها جغرافية المغرب العربي الممتدة على قرابة ستة ملايين كيلومتر مربع، تضع المغرب العربي في المرتبة السابعة عالميا، مباشرة بعد قارة أستراليا. وهي جغرافية متنوعة مطلة على ساحل بحر ومحيط، يمتد لأكثر من سبعة ألاف كيلومتر، وتحتوي على الجزء الأكبر من الصحراء الكبرى التي لم تستكشف بعد كل ثرواتها، وتمنح عمقا جغرافيا استراتجيا يعد بفرص غير محدودة لنماء قوة إقليمية ودولية ذات شأن.
*
على صعيد الموارد الطبيعية، ومع ضعف حركة التنقيب والمسح، فإن ما استكشف حتى الآن من موارد طبيعية: من نفط وغاز، وحديد، وزنك، ونحاس، ورصاص، وأورانيوم وذهب، وتصدره عالميا لقائمة الدول المنتجة للفوسفات، يمنحه قدرا عاليا من الاستقلالية في مجال الطاقة، والموارد التي تعتمد عليها الصناعات الثقيلة، ويعد فوق ذلك بهامش واسع من الموارد التي لم تستكشف بعد.
*
*
موازين الكتلة والمساحة والثروة
*
على المستوى الديموغرافي، يضم الإقليم ما يزيد عن تسعين مليون نسمة، بهرم سكاني أكثر من نصفه دون الثلاثين سنة، وبمعدلات تزايد سكاني ما زالت عالية، ونسبة كثافة لا تزيد عن خمسة عشر في المائة.
*
إجمالي الدخل القومي الخام يزيد عن 263 مليار دولار في الدول الخمس، أي بمعدل للدخل الفردي يزيد عن 3000 دولار، يفوق أربع مرات الدخل الفردي في الهند (حوالي 800 دولار للفرد)، ويساوي 1.5 مرة الدخل الفردي في الصين (حوالي 2000 دولار). وعلى مستوى الموارد البشرية، ورغم تعثر سياسات التعليم في معظم دول المغرب العربي، فإن نسبة التعليم تزيد فيه عن 70 في المائة، وتزيد نسبة سكان المدن عن 70 في المائة.
*
وحتى نقرب هذه الأرقام من الأذهان، فإن إجمالي مساحة المغرب العربي تعادل 34 مرة مساحة أصغر قطر فيه، وهو تونس، و12 مرة مساحة موريتانيا. أما تعداد سكانه، فيعادل 26 مرة تعداد سكان موريتانيا، و14 مرة تعداد سكان ليبيا. ويعادل الدخل الخام لمجموع دول المغرب العربي 100 مرة الدخل الخام لموريتانيا، وقرابة 9 مرات الدخل الخام لتونس، ويكاد يتشكل أساسا من الدخل الخام لثلاثة دول هي الجزائر ب 114 مليار دولار، يليها المغرب ب 67 مليار وليبيا ب 50 مليار دولار.
*
ويتضح من هذا اللوح، وجود قدر من التفاوت بين أقطار المغرب العربي الخمس، وبروز الزوج الجزائري المغربي كمحرك لا غنى عنه لقيادة الإقليم، بالنظر إلى العامل البشري، والموارد، والدخل الخام، حيث يشتمل على 74 مليون نسمة، وبدخل خام يساوي 181 مليار دولار.
*
*
قوة واعدة في قلب عالم متغير
*
فنحت إذن أمام إقليم شاسع، يتمتع بكتلة بشرية، يحتل بها المركز الأول عربيا وإفريقيا، وبدخل داخلي خام يتصدر به الترتيب الإفريقي، وموارد طبيعية متوازنة، تأتي في طليعتها موارد الطاقة الأحفورية، ومناجم لا تحصى للطاقات البديلة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، إضافة إلى أهم الموارد التي تعتمد عليها صناعات التعدين. وكميات هائلة من الفوسفات الذي تعتمد عليه الزراعة الحديثة.
*
هذه لمحة موجزة عن الإقليم، بمقوماته البشرية والمادية وموقعه المتميز، الذي يؤهله للعب أدوار إقليمية في قلب العالم، كشريك في معظم ملفات الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ودول العالم العربي، وملفات إدارة القارة الإفريقية. وهي أدوار لن يستطيع الوفاء بها إلا إذا وفق قادته ونخبه في تصور وصياغة مقاربة جديدة لكيان الإتحاد المغاربي، المتعثر بحبل من قادته ونخبه، وحبل من القوى الغربية والأوروبية تحديدا.
*
*
معوقات ثلاث لمسار لا يقبل التأجيل
*
على خلاف واقع دول وشعوب الإتحاد الأوروبي، فإن تاريخ المنطقة ليس فيه ما يعوق أو يمنع قيام اتحاد لدول المغرب العربي، سوى ثلاث معوقات، باستطاعة شعوب ونخب المغرب العربي تجاوزها بقدر من الاجتهاد المخلص، والتفكير العقلاني الراشد.
*
عند بداية بناء الإتحاد المغاربي، ارتفعت أصوات كثيرة تبشر بفشل التجربة لكونها لم تشرك الشعوب، وظهرت أدبيات تنتصر لما سمي وقتها بمغرب الشعوب، وقد كان محض شغب، صرفنا عن النظر إلى المعوقات الحقيقية. ذلك أن مغرب الشعوب، بمعنى الشعور الجماعي بالانتماء لنفس الفضاء، وتقاسم نفس القيم الدينية والثقافية، ونفس العادات والتقاليد، هذا المغرب كان قائما قبل قيام الأنظمة، ولن يزول بزوال أو تغير الأنظمة.
*
ما غاب عنا، هو أن التوافق الذي حصل بين قيادات الدول الخمس، لم يكن نتيجة لإحساسها بالحاجة إلى بناء الإتحاد ككيان يفي بأغراض تنمية العمل المشترك، وتحقيق مصالح مشتركة تمتنع عن أي قطر من الأقطار الخمس بمفرده، وككيان يسمح بتقاسم الأعباء، ومواجهة تحديات عالم جديد كان قد بدأ يتشكل من حولنا. ولأن هذا الإحساس كان غائبا، فقد أخفق القادة في صياغة المؤسسات البنيوية التي تفي بهذه الأغراض.
*
*
الأزمة التي لم تتولد معها الهمة
*
لنتذكر أن الإتحاد المغاربي ولد في وقت، كانت فيه أزمة الصحراء الغربية قد بلغت أوجها، بل كانت من أكبر المحفزات على بناء الإتحاد، غير أن قادة دول الإتحاد اختاروا وقتها تحييد النزاع، بدل البحث عن صيغ مؤسساتية تمنح فرصة مقبولة لحل نزاع الصحراء، وتفسح بالتالي آفاقا واسعة للمضي في بناء الإتحاد المغاربي، إلى أن أصيبت معظم دول المغرب العربي بزلازل داخلية، بدأت بانهيار مداخلها من النفط والغاز بالنسبة للجزائر وليبيا، والفوسفات بالنسبة للمغرب، ودخول المنطقة بأكملها في عين الإعصار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي أصابها مع نهاية عقد الثمانينيات، فانكفأت كل دولة على معالجة مشاكلها الداخلية، وطوي ملف الإتحاد، وجمدت مؤسساته الهزيلة أصلا، ليصل الأمر إلى حد إغلاق الحدود البرية بين قطبي المغرب العربي: الجزائر والمغرب، وعاد ملف النزاع الصحراوي للواجهة، كواحد من أهم معوقات إعادة إحياء الإتحاد.
*
أطراف مغاربية مثل ليبيا وموريتانيا وحتى تونس، لم تقف على مسافة واحدة حيال النزاع في الصحراء الغربية، كما لم تبادر في الوقت المناسب إلى صياغة حلول مغاربية صرفة، وهي تعلم أن إعادة إحياء مسار الإتحاد المغارب مرهون بترميم العلاقات بين الجزائر والمغرب، التي تحتاج بدورها إلى تسوية النزاع في الصحراء الغربية بوسائل مغاربية صرفة، بتوفير ضمانات من داخل مؤسسات الإتحاد المغاربي. فالمغرب، مثل الجزائر وجبهة البوليساريو، يعلمون أن الملف لن يسوى، لا عن طريق الأمم المتحدة، ولا عن طريق فرض الأمر الواقع عبر مقترح الحكم الذاتي كما يقترحه المغرب.
*
غير أن الحل الذي يقترحه المغرب، يبقى مرفوضا من قبل قيادة البوليساريو، كيفما كانت الضمانات المقدمة للصحراويين، لأن ما يمنحه النظام المغربي اليوم باليمنى سوف يأخذه منهم غدا بالشمال، إذ يكفيه تنظيم استفتاء بعد خمس أو عشر سنوات، يلغي منحة الحكم الذاتي، ومع ذلك يمكن البناء على المقترح المغربي وفق صيغتين مبتكرتين تحتاجان، كشرط مسبق إعادة إحياء مؤسسات الإتحاد المغاربي، وإفساح موقع فيه للكيان الصحراوي.
*
*
عين على الحل بجنوب السودان..
*
من غير المستبعد أن تقبل جبهة البوليساريو بالتعاطي مع صيغة الحكم الذاتي كما هي مطروحة من قبل المغرب، تنتهي بعد عشر سنوات باستفتاء على غرار ما اتفق عليه في الحل الذي أنهى النزاع في جنوب السودان، على أن تتولى البوليساريو، وتحت إشراف مؤسسات الإتحاد المغاربي، بناء مؤسسات الحكم الذاتي بتنظيم انتخابات محلية، تكون مفتوحة فقط للصحراويين المعنيين بالاستفتاء كما كانت تنوي الأمم المتحدة تنظيمه. وحتى يطمئن الصحراويون على مستقبلهم، يقوم المغرب بتضمين الدستور المغربي مادة صريحة تضمن لسكان الإقليم تنظيم استفتاء عند انتهاء المدة المتفق عليها، كما تستفيد مؤسسات الحكم الذاتي خلال السنوات العشر من موقع الملاحظ داخل جميع مؤسسات الإتحاد المغاربي، وتسهم في بنائها وفي مشاريعه التنموية.
*
هذه الصيغة لا تهضم ما يدعيه المغرب لنفسه من حقوق، كما لا تتجاهل المطلب الأساسي للبوليساريو، كل ما في الأمر أنها تمنح الطرفين فرصة للعمل معا، في أجواء من الثقة والاطمئنان المتبادل، وتمشيط ساحات الشك والريبة من الألغام التي زرعها الصراع لأكثر من ثل قرن، كما تمنح دول المغرب العربي ومؤسسات الإتحاد فرصة لإقناع الأطراف، بأن ما يعد به العمل المشترك داخل الإتحاد المغاربي يمنح الشعبين المغربي والصحراوي ما هو أفضل للمغرب من ضم إقليم الصحراء الغربية، وما هو أفضل للشعب الصحراوي من إنشاء كيان جديد. وسوف تكون وقتها مهلة العشر سنوات قبل إنجاز الاستفتاء، فرصة لدول الإتحاد لإثبات جدارتهم في بناء ذلك الإتحاد، الذي يكون قادرا، بمنجزاته على نقل طموحات الطرفين المتنازعين، من مشاريع الضم والانفصال، إلى العمل مع بقية دول الإتحاد على مزيد من الاندماج المغاربي، المسقط لما بقي من الحدود القطرية الخرقاء، التي لم تعد تعني الكثير في زمن تشكل المجموعات الكبرى.
*
*
.. وأخرى على صيغة كردستان
*
قريبا من هذه الصيغة، يمكن لدول المغرب العربي أن تقنع الطرفين بقبول تسوية، يمنح فيها الشعب الصحراوي بموجب تعديل في الدستور المغربي، حالة من الحكم الذاتي الموسع، يكون أقرب لما يتمتع به اليوم إقليم كردستان في العراق، من إمكانيات وصلاحيات لبناء حكم محلي، بمؤسسات تشريعية، وحكومة محلية يديرها الصحراويون داخل النظام السياسي المغربي، على أن تمنح العضوية الكاملة داخل مؤسسات الإتحاد المغاربي كشريك في جميع مؤسساته ومشاريعه. هذه الصيغة لا تتجاهل مطالب الطرفين، بحيث تضمن للمغرب بقاء الإقليم ضمن السيادة المغربية، وتضمن في الوقت نفسه للصحراويين هوامش واسعة لبناء مؤسساتهم الديمقراطية، وإدارة أمورهم بأنفسهم داخل كيان أوسع، مرشح في أجل منظور إلى تجاوز الكيانات القطرية، وبناء كيان كفدرالي، أو حتى فدرالي مغاربي تترك صياغته وإنضاجه للأجيال القادمة.
*
*
التحديات التي تجدد الرهان على الإتحاد
*
أمام دول وشعوب المغرب العربي فرصة قد لا تتجدد في المستقبل المنظور، مع وجود متغيرات إقليمية ودولية، يفترض أن تدفع بدول المغرب العربي دفعا إلى إعادة إحياء مسار الإتحاد المغاربي، أو بالأحرى إعادة صياغته للتكفل بالإدارة المشتركة لملفات اقتصادية وتعليمية واجتماعية وأمنية، تفوق قدرات كل قطر، فضلا عن توفير الإطار الأنسب لحل النزاع في الصحراء الغربية وتخليص المنطقة من هذا اللغم الموقوت، الذي قد يفجر في وجه دول وشعوب المنطقة في أية لحظة.
*
من هذه المتغيرات يأتي في طليعتها إغلاق آفاق انفتاح الإتحاد الأوروبي على دول ضفة الجنوب، وعلى كل ما هو غير مسيحي بعد أن صد حتى في وجه الأتراك. نذكر أن الإتحاد الأوروبي، بما زرعه من أوهام عند بعض دول المغرب العربي من إمكانية الالتحاق به، قد كبح مسار المغرب العربي بقوة، كما أشغل دول المغرب العربي في متاهات مسار برشلونة، ثم في مسار الإتحاد المتوسطي، وقد ثبت لدول وشعوب المغرب العربي ما في المسارين من عبث، وإشغال لشعوب المنطقة عن تدبر أمرها ضمن صيرورتها التاريخية المنطقية، كما تأكد لدول وشعوب المنطقة أن مسار العمل العربي المشترك ملغم بألف لغم، ولا يوجد في فضائنا الإفريقي أية فرصة لبناء تكتلات إفريقية ذات جدوى.
*
*
من الحلم الرومانسي إلى الخيار الإستراتيجي
*
هذه المتغيرات كافية لدفع نخب المغرب العربي إلى اعتبار مهمة إعادة صياغة وبناء الإتحاد المغاربي، ليس كحلم رومانسي، وأمنية يحيلها جيل على الجيل الذي يليه، بل كخيار استراتيجي آني للدول والشعوب معا، ينبغي أن تذلل أمامه جميع المعوقات كيفما كانت، ويجتهد أبناؤه في صياغة مؤسسات فوق قطرية مبتكرة، لا نحتاج معها إلى تفكيك النظم القائمة قبل الاطمئنان إلى ما يكون قد وفرته لنا مؤسسات الإتحاد المغاربي.
*
وحده إعادة صياغة الإتحاد المغاربي، بمؤسسات عصرية مرنة، يسمح لدول وشعوب المنطقة الدخول في شراكة مع القوى الإقليمية من باب الندية، والفوز بنصيبهم من التنمية والثروة، لأن إقليم المغرب العربي، بمساحته المترامية الأطراف، وكتلته البشرية المحترمة، وموارده المتنوعة، والفرص التي يمنحها لمحيطه العربي والإفريقي والأوروبي، خاصة في مجال الطاقات البديلة، مؤهل لاستقطاب رؤوس أموال طائلة عربية ودولية، تدفع بها الأزمة المالية العالمية الأخيرة إلى الفرار من اقتصاد المضاربة، إلى المغامرة المحسوبة في الاقتصاد الإنتاجي داخل فضاء واعد مثل الفضاء المغاربي.
*
*
تقصير مصر في حق نهضتنا
*
وبعد أن استثنى الكاتب ثلاثا من الصحف المصرية (مجلة الفتح، مجلة الرابطة العربية، جريدة الشباب) التي اعتنت بالنهضة الجزائرية، أنحى باللائمة على غيرها من العناوين، التي أدارت ظهرها لنشاط جمعية العلماء، رغم قيام هذه الأخيرة بإرسال مطبوعة جيدة حول جهودها الإصلاحية، إلى كل المجلات والصحف المصرية: "... وفي هذا العام طبعت جمعية العلماء -وهي جمعية علمية من أكبر وأشهر الجمعيات في الشمال الإفريقي- سجلا سجلت فيه ما ألقي من محاضرات وخطب وقصائد في مؤتمر من مؤتمراتها السنوية، وهذا السجل في جوهره مرآة وضّاءة وصورة صادقة للنهضة الجزائرية الحديثة، وهو يحتوي على مئتين ونيف وثلاثين صفحة، وقد طبع طبعا متقنا، في ورق جيد وشكل أنيق، وقد أهدت منه الجمعية إلى أشهر الصحف والمجلات الشرقية، لتقرظه ويطلع أصحابها على صورة من النهضة القومية والأدبية في الجزائر. ولكن هذه الصحف لم تلتفت إلى السجل، ولم تتفضل عليه بكتابة كلمة، اللهم إلا كلمة هزيلة جادت بها مجلة "السياسة الأسبوعية".
*
*
تقصير مجلة الرسالة
*
نالت مجلة الرسالة الشهيرة -التي أسسها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات سنة 1933- قسطا كبيرا من العتاب، بحكم وزنها وانتشارها الكبير في الجزائر: "وهذه مجلة الرسالة المصرية، وهي من أكثر مجلات الشرق ذيوعا وانتشارا بيننا في الأوساط الجزائرية، وهي التي جعلت من شعارها أن تجمع على وحدة الثقافة أبناءَ البلاد العربية!! قد أهدت الجمعية إلى صاحبها نسخة من هذا السجل ليكتب عنه كلمة تقريظ بقلمه البليغ، ولكنه -ويا للأسف- لم يفعل، بينما هو يعنى بالكتابة عن راقصات أوروبا، ويفتح صدر رسالته إلى الكتابة عن كلب العقاد، وسنور (القط) المازني".
*
ثم أمعن الكاتب في إبراز تقصير الأديب أحمد حسن الزيات، وتهاونه إزاء النهضة الجزائرية، وهو على دراية بما كانت تعانيه الجزائر -آنذاك- من ضغط الاستعمار: "الأستاذ الزيات -بحكم مهنته- يعلم أن في الجزائر نهضة قومية عنيفة، بل ويشهد لها فهو يقول في افتتاحية من افتتاحيات رسالته (وفي الجزائر رؤوس تدور من خَدَر السياسة، وقلوب تذوب من حرارة الظلم، ولكن هذه الرؤوس التي تدور من خدر السياسة الاستعمارية الجائرة، والقلوب التي تذوب من ظلم الأجنبي الماكر، تبعث الى الأستاذ الزيات بعصارة أفكارها فيما يؤول إلى التخلص من ظلم الأجنبي وسياسته، فيلقي بها في زاوية من زوايا إدارة الرسالة التي (تجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية)، وينصرف للكتابة عن راقصات أوروبا، اللهم إن هذا تمرد من إخواننا الشرقيين على شرقيتهم و(...؟) وهو في الوقت نفسه دليل على عدم أو قلة تقدير إخواننا الشرقيين لقيمتنا وآثارنا".
*
ثم استرسل الكاتب فرحات بن الدراجي في توسيع حلقة تقصير إخواننا الشرقيين، فذكر بعض نماذج تحريف أسماء الأماكن في كتبهم المدرسية: "إن إعراض إخواننا الشرقيين عنا أفضى بهم إلى الجهل بنا وببلادنا جهلا مطبقا، فإنك قلما تقرأ لهم كتابا في الجغرافيا أو التاريخ وتجده سالما من الأغلاط الواضحة في أسماء الأشخاص والبلدان المغربية. فقسنطينة -مثلا- يكتبونها (قنسطنطين) ووهران يكتبونها (أوران)، لأنهم أخذوهما حرفيا عن الفرنسية، مع أن هاتين المدينتين من أقدم وأشهر المدن المغربية... ولو كلف إخواننا الشرقيون أنفسهم شيئا من العناية بهذه البلاد، ورجعوا إلى تاريخها، لوجدوا فيه أسماء هذه المدن سالمة من هذا التحريف".
*
*
زلّة الأستاذ عبد الحميد العبادي
*
أخذ الأستاذ المؤرخ عبد الحميد العبادي، نصيبه من العتاب، بسبب مقال كتبه، واعتبره الكاتب فرحات بن الدراجي مثبطا للعزائم: "ومنذ أمد قريب كتب الأستاذ عبد الحميد العبادي -وهو متخصص في دراسة التاريخ السياسي في الجامعة المصرية، مقالا ضافيا في مجلة الرابطة العربية، تحت عنوان (بلاد عربية تحتضر فيها العروبة) وختمه بالفقرة التالية: (الحق أن العروبة والإسلام ماتا في الأندلس بالسيف، أما في المغرب فإنهما يقضيان صبرا إلا أن يتداركهما الله بلطفه)، وهو يعني بالمغرب هذه الأقطار الثلاثة المتجاورة تونس، والجزائر، والمغرب الأقصى.
*
ولو أن الأستاذ العبادي زار هذه الأقطار واطّلع على ما يقوم به أبناؤها من جهاد وجلاد في الذود عن الإسلام والعروبة، وراقب نهضتنا عن كثب واطلع على صحفها بدقة وقرأ ما يدبّجه أقلام كتابها في مختلف المواضيع، لما جعل عنوان مقاله ذلك العنوان المشؤوم الذي أقل ما فيه أنه مثبط لعزائم أبناء هذه البلاد".
*
*
عتاب وصرخة
*
وبعد أن أشار الكاتب بالعبارة الصريحة إلى ميل المشارقة نحو أوروبا على حساب إخوانهم المغاربة، ذكرهم أن الاستمرار في تجاهل النهضة الجزائرية: "لا يشرّفهم بل يعد طعنا في صميم قوميتهم الشرقية، ولعله يفضي في يوم من الأيام إلى فتور ما بيننا وبينهم من صلات عريقة وروابط وثيقة". وعليه فإن المقال بمثابة صرخة لإيقاظ أهل الشرق من غفوة التقصير والتهاون، وللاستجابة لنداء الواجب القومي: "فإلى قادة الفكر في المشرق العربي نوجه هذا العتاب الصادر من الأعماق، حتى يتداركوا هذا التقصير المتكرر منهم".
*
*
ماذا بعد العتاب والصرخة؟
*
علينا أن نتساءل بعد مرور أكثر من سبعين سنة، على صرخة الكاتب الفذ فرحات بن الدراجي، هل غيّرت مصر موقفها الاستعلائي من الجزائر وقد استرجعت سيادتها واستقلالها السياسي؟
*
من دواعي الأسف أن نلاحظ أن الاستعلاء والاستنكاف قد بلغا مداهما عند أبناء أم الدنيا، الذين استكثروا علينا حتى الانتصار في مباراة كرة قدم، لأنهم يعتبرون أنفسهم الأولى بالريادة والقيادة وبتمثيل العرب في كأس العالم بالوراثة. والأدهى أن الإهانة لم ينحصر أمرها في فئة المشاغبين والغوغاء فقط، بل انتقلت عدواها إلى النخبة، فبالأمس أساء إلينا أحمد حسن الزيات بالإهمال، وعبد الحميد العبادي بالكتابة المثبطة للعزائم، أما اليوم فقد جدد الإساءة وأحياها مثقفون كبار من وزن محامين وعلماء الأزهر وفنانين شتموا أصالتنا، وأهانوا شهداءنا ورموزنا وأحرقوا علمنا. وإن ذلك لدليل على أن عقدة التكبّر والتجبّر مزمنة في أرض أم الدنيا، وأخشى أن تكون قد صارت سمة من سمات أهل مصر بقضهم وقضيضهم.
*
*
من أجل عودة الوعي في مصر
*
إن الحقيقة التاريخية التي يستخلصها الدارس لماضي العلاقات بين المغرب والمشرق، هي أن هذا الجناح الأخير كان يستصغر دائما مآثر المغاربة على عظمتها، وقد أشار ابن حزم الأندلسي إلى ذلك حينما قال:
*
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
*
إن الغاية من هذا المقال ليست في شحن الجماهير بالانفعال والغضب، فذلك ليس من شيمة العقلاء والمثقفين، بل تكمن الغاية في دحض بهتان (نحن المصريين حرّرنا الجزائر وعرّبناها) الذي يشهره حتى بعض المثقفين المصريين الذين أصيبوا بلوثة الغوغاء جراء تنازلهم عن عقولهم. إن الغاية النبيلة منه هي السعي من أجل مساعدة الشعب المصري الشقيق على التحرر من "الضلال الجارف" الذي أشاعه وروّجه نظام سياسي مستبد فاشل، قصد تحويل أنظاره عن مشاكل الفقر والسكن والزبالة والمياه الملوثة، ومن أجل تمهيد الطريق لإقامة نظام سياسي هجين (الجمهورية الوراثية).
*
وما دام هناك مثقفون كبار في مصر، من حجم فهمي هويدي يجاهدون بكتابة "كلمة حق" ولو كره الحاكم المستبد، فإن "عودة الوعي" يوم لا ريب فيه، ولقد علمنا التاريخ أن تعكير صفو العلاقات بين الشعوب بمثابة سحابة صيف سرعان ما تنقشع، ولا أدل على ذلك من العلاقات الفرنسية الألمانية التي صارت لحمة للوحدة الأوروبية بعد حروب مدمرة بينهما، شريطة أن تنتصر الديمقراطية في بلدينا.
*
*
ضرورة تثمين تراثنا الفكري
*
ومن جهة أخرى، فإن ما نصبو إليه من تقديم بعض فقرات مقال المثقف الفذ فرحات بن الدراجي، هو لفت انتباه القائمين على شؤون تربية الأجيال عندنا، إلى ضرورة تثمين تراثنا الفكري الإصلاحي، الذي يستحق عناية قصوى في المنظومات التكوينية والتربوية، باعتباره ذخرا أدبيا وفكريا وسياسيا وتاريخيا، شيّد الأجداد صرحه بشق الأنفس، لذا فمن واجبنا أن نحصّن به أجيال المستقبل، حتى يدركوا حجم الجهود الجبارة التي بُذلت من أجل أن تحيا هوية الجزائر وتعيش شخصيتها الأصيلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.