في العقود الستة الماضية هزم العرب والمسلمون أربع امبراطوريات كبرى. الفرنسية في الجزائر، والبريطانية والسوفييتية في أفغانستان، والأمريكية في العراق، إلا أن النصر في ساحات الوغى انقلب إلى هزائم متلاحقة للعالم الإسلامي فوق البساط الأخضر بموائد وصالونات الشرعية الدولية وتسلط القانون الدولي، الذي فتن الأمة بإنشاء الكيان الصهيوني ودعمه. * ولم يترك بلدا إسلاميا إلا وأخضعه للابتزاز، وقيد إرادات حكامه بمعاهدات وقوانين باتت تحرم حتى الحقوق الأساسية في طلب العلم والمعرفة. فهل يحق للشعوب الإسلامية أن تستعيد سيادتها الكاملة في ظل خضوع دولها لهذا القانون الدولي الجائر ومؤسسات ما يسمى بالشرعية الدولية التي تكيل بأكثر من مكيال، أم تتجه بكل ما تملك نحو حكوماتها وتحريضها على إيجاد بديل إسلامي للقانون الدولي يحقق في الحد الأدنى مبدأين: الموالاة والنصرة بين المسلمين، والتضامن والتكافل ولو بأضعف الإيمان؟ * الحرب الأخيرة على غزة، وما رافقها من خذلان النظام العربي الرسمي للفلسطينيين وللشارع العربي، قياسا مع موقف إسلامي كان أوضح وأقرب إلى تطلعات الشعوب، بات يدفعنا بإلحاح أشد إلى استبدال أفق العمل في المستقبل في اتجاه التعويل أكثر على البعد الإسلامي الديني والحضاري، بدل التمسك بأفق قومي عربي أعيد إلى التاريخ من الأبواب الضيقة، وعلى يد قابلة غربية، أخرجته من رحم الخلافة الإسلامية أشلاء مقطعة، وأعضاء مفككة، وقد أوكل إلى جامعة الدول العربية مهمة تكريس خرائط سايكس بيكو الاستعمارية. * الموقف المتقدم لدول إسلامية كبرى مثل إيران وتركيا العائدة بقوة، وموقف الشعوب الإسلامية قاطبة من موريتانيا إلى إندونيسيا، لم يعد يضغط فقط على النظام العربي، الذي امتحن من قبل، وسقط أكثر من مرة في الامتحان، بل بات يضغط على أنظمة الدول الإسلامية كافة في اتجاه استنهاضها للدفاع عن كرامة المسلم المستضعف في الداخل والخارج. * * فضاء للتضامن في انتظار وحدة الفضاء * ما هو مطروح ليس بالضرورة الاستجابة لطموحات شعبية أكيدة، لم تنسِها الحقبة الاستعمارية الطويلة ما يتوارثه الفكر الجمعي الإسلامي من حنين لأزمنة الخلافة الإسلامية، ولكن في الحد الأدنى البحث عن صيغ حديثة لبناء فضاء تضامني إسلامي، يكون قادرا على التصدي والمواجهة لسياسات قوى الاستكبار العالمي. * معطيات موضوعية من الواقع السياسي الإسلامي في الستين سنة الماضية، تكشف بوضوح طبيعة الصراع والتحديات التي فرضت على العالم الإسلامي، حيث لم تسلم دولة إسلامية واحدة، صغيرة كانت أم كبيرة، من مؤامرات وسياسات كيدية، كان وراءها على الدوام الغرب المسيحي، الذي لم يتخلص لا من عقده الاستعمارية، ولا من العقدة الصليبية تجاه العالم الإسلامي. كبريات الدول الإسلامية كانت مستهدفة على الدوام، من باكستان وبنغلادش إلى اندونيسيا وتركية، مرورا بإيران والعراق وأفغانستان ومصر وسوريا والجزائر والسودان، ولا تكاد واحدة من هذه الدول ذات الثقل السكاني والمقدرات البشرية والمادية، التي تؤهلها للعب أدوار محورية، كمراكز استقطاب لموقف إسلامي متقدم، لا تكاد تنعم بالحد الأدنى من الاستقرار والاطمئنان على وحدتها الترابية، وأكثر من ذلك وحدتها وتماسكها الاجتماعيين، والعيش المشترك بين مكونات الفسيفساء القومية والثقافية الذي كان واحدا من أكبر إنجازات الحكم الإسلامي. ولن تسلم هذه الدول الإسلامية مستقبلا من كيد مماثل ربما يكون أعظم، مع استمرار ذلك الاختلال الفظيع في العلاقات الدولية ومؤسسات ما يسمى بالشرعية الدولية، التي غيب العالم الإسلامي زمن نشأتها، وازداد تهميشه خاصة منذ انتهاء الحرب الباردة، وانهيار مجموعة دول عدم. * * التوظيف الكامل للمقدرات الكامنة * مغالطة كبرى عانينا منها في الجامعة العربية كما في منظمة المؤتمر الإسلامي، تتصل بصعوبة تحقيق الإجماع بين عدد كبير من الدول: 22 دولة في الجامعة و57 دولة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وقد رأينا كيف أن سبع دول في جامعة الدول العربية لها ما يكفي من الثقل في تحديد سياسة العمل العربي، ويمكن أن نحصي من بين الدول الإسلامية ست عشرة دولة لا أكثر، تتوفر على ثقل بشري اقتصادي وسياسي، تستطيع أن تقود العمل الإسلامي المشترك: خمس منها في المشرق الأقصى هي: اندونيسيا وبنغلاديش وباكستان وكازاخستان وأفغانستان، وست في الشرق الأوسط هي: إيران وتركيا وسوريا والعراق والسعودية واليمن، وخمس في شمال القارة الإفريقية هي: مصر والسودان والجزائر والمغرب ونيجيريا. * الدول الإسلامية الست عشرة تمتلك من المقدرات ما يسمح لها فقط بقيادة المجموعة الإسلامية، بل هي قادرة على تغيير موازين القوة في العالم لصالح العالم الإسلامي. تعداد سكانها يساوي مليار ومائة وستون مليون نسمة، مساحتها تزيد عن تسعة عشر مليون كلم مربع، تحتل وسط المعمورة وتقسمها إلى قسمين، تتحكم في خمسة مضائق بحرية كبرى، تطل على ثلاثة محيطات وبحار خمسة، باطن أرضها يختزن ثلاثة أرباع نفط العالم، وفيها من المعادن ما لا يحصى، قادرة على تحقيق قدر عالٍ من الاكتفاء الغذائي بإعادة نشر قسط زهيد من الموارد المالية، تشكل واحدة من أكبر الأسواق في العالم لم يأت عليها الإشباع، أغلبية السكان فيها من الشباب، وتتوفر على أهم مصادر وموارد الطاقات البديلة مثل الرياح والطاقة الشمسية، وبجملة واحدة لها جميع المقومات لتتحول إلى قوة عالمية، تزن بقوة في موازن القوة في العالم، وفي العلاقات الدولية، وهي تجاور خمسة من الأقطاب العالمية الستة: اليابان والصين والهند وروسيا وأوروبا. * * الإنعتاق من إصر الشرعية الدولية * هذه الدول الإسلامية الست عشرة لا تحتاج إلى مشروع وحدوي يبدو بعيد المنال، ولم تنضج بعد شروطه، ولا إلى منظومة إقليمية اقتصادية تحتاج إلى وقت أطول، وإلى جهود أكبر لتحقيق التقارب بين اقتصادياتها وأنظمتها السياسية، وليست مدعوة إلى بناء حلف أمني وعسكري للدفاع الجماعي عن سيادتها وأمنها، ما هو مطلوب منها هو أقل من ذلك بكثير وأسهل، بل هو في متناول اليد متى توفرت الإرادة السياسية عند حكامها، أو أجبرتها شعوبها على تبني هذا الخيار الذي لا يكلفها شيئا يذكر، ولا يحملها مئونة تغيير نظم الحكم أو تبديل النخب الحاكمة. * الدول الإسلامية الست عشرة التي يشكل سكانها 90 في المائة من تعداد المسلمين في العالم، مطالبة فقط بالتحرر من قبضة القانون الدولي الجائر، ومن مؤسسات ما يسمى بالشرعية الدولية التي تكيل بأكثر من مكيال، وقد تحولت إلى مؤسسات استبدادية جائرة مسلطة على الدوام على دول وشعوب العالم الإسلامي. * السبيل إلى ذلك سهل، وغير معقد، لا يحتاج إلى بناء مؤسسة إقليمية إسلامية جديدة، يكفي تبني منظمة المؤتمر الإسلامي كإطار لإنضاج هذا العمل بعد إدخال تعديلات بسيطة على ميثاقها وحصول رضا بقية الدول الإسلامية الصغيرة التي تعفى في المرحلة الأولى من أي التزام، على أن يترك الباب مفتوحا لالتحاقها متى استطاعت الالتحاق. * * مبادئ ثلاث للمعاملات في أمة التوحيد * قبل التفكير في تحريض الحكومات الإسلامية والضغط عليها في اتجاه بناء بديل لهذه المنظمة الكسيحة الضعيفة أو إصلاحها، ثمة مجموعة من المبادئ التي، إن توفرت، وتحقق حولها توافق حكومات الدول الإسلامية الست عشرة، يكون قد أصبح من الممكن الذهاب إلى بناء منظمة إقليمية إسلامية قادرة على التأثير في موازين القوة وفي السياسة الدولية لصالح كافة شعوب ودول العالم الإسلامي. * * المبدأ الأول: التوافق على منظومة تشريعية للعلاقات الدولية مستمدة من الميراث الفقهي والسياسي الإسلامي، تنظم العلاقات بين الدول الإسلامية، وتدخل بها الدول الإسلامية متضامنة في عملية إصلاح للقانون الدولي والعلاقات الدولية. * * المبدأ الثاني: أن يمنح هذا التشريع الدولي الإسلامي الفوقية على التشريعات الدولية القائمة، إلى حين التوافق على إصلاحها، ويتم على ضوئها تجميد العمل بالمعاهدات والالتزامات الدولية للدول الإسلامية، إلى حين قبول الأطراف الأخرى تعديل مرجعيتها القانونية. * * المبدأ الثالث: أن تلتزم الدول الإسلامية عند انضمامها لأية معاهدة دولية بمقتضيات المبدأ الثاني، ويكون التعهد بدسترة المبادئ الثلاث. * هذه ثلاثة مبادئ بسيطة، وواضحة، من شأنها أن تغير العلاقات الدولية، وما يسمى بالشرعية الدولية رأسا على عقب، وتحرر العالم الإسلامي من الظلم والإجحاف اللذين مورسا ضده بموجب القانون الدولي، وتحكم الغرب في مؤسسات الشرعية الدولية. وهي لا تحتاج سوى إلى توفر الإرادة الجماعية عند الدول الإسلامية الست عشرة، والرغبة في الانعتاق، ورفع المظالم عن شعوبها، ومنح العالم الإسلامي مقاما محمودا بين الدول والأمم. * كيفما كانت الإصلاحات التي تشهدها الدول الإسلامية، ومقدار تطوير مقدراتها البشرية والمادية، وتحسين موازين القوة مع الآخر، فإن رضا دول العالم الإسلامي بالمبادئ التي أسس عليها القانون الدولي، وشيدت على ضوئها مؤسسات الشرعية الدولية، فإنها ستظل ضحية لهذا التعسف الدولي والاستغلال الغربي لموقعه المهيمن على المؤسسات الدولية، لمواصلة الحالة الاستعمارية بوسائل أخرى، رأينا في تعاطي ما يسمى بالشرعية الدولية مع قضايا المسلمين كيف تعتدي المجموعة الدولية، دون خجل، على السيادة والحقوق المبدئية للشعوب الإسلامية، وتكيل نهارا جهارا بأكثر من مكيال. * الذهاب إلى هذا الخيار لا يحتاج إلى بناء مؤسسات إسلامية جديدة، فمع ما نعلمه من قصور وضعف في منظمة المؤتمر الإسلامي، فإنه باستطاعة المنظمة أن تكون إطارا لإنجاز هذا التوافق الإسلامي عبر مسار هادئ ومتدرج، قائم على الإقناع، وعلى إشراك الشعوب الإسلامية في تبني التشريعات الجديدة عبر طرق الاستفتاء، وتمنح الدول فترة انتقالية قد تمتد إلى عقد من الزمن، لمراجعة منظوماتها الدستورية والتشريعية والتزاماتها الدولية، ثم العمل وفق مبدإ التضامن لمراجعة شاملة للتشريع الدولي ومؤسسات ما يسمى بالشرعية الدولية حتى تأخذ بعين الاعتبار مصالح شعوب ودول العالم الإسلامي. * * إحياء شريعة الولاء والتضامن * الخطوات اللازمة لإنجاز هذا الفعل التحرري الحقيقي لدول وشعوب العالم الإسلامي، هي إجراءات بسيطة، ولا تحتاج لا إلى أموال كبيرة، ولا إلى مقدرات بشرية ضخمة، كما لا تلزم الدول بتغييرات جذرية في نظم الحكم، أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب، وليس فيها دعوة لإنشاء نظام سياسي فوق قومي، وليست هي دعوة لوحدة إسلامية، بقدر ما تطمح إلى تحقيق مبدأين إسلاميين هما: »مبدأ الولاء بين المسلمين« و»مبدأ التضامن والتكافل«. * المبدأ الأول يستند إلى التحريم الشرعي لموالاة غير المسلمين ضد طرف مسلم، لا تتكرر معه خطيئة موالاة دول إسلامية لدول غير إسلامية ضد دول وشعوب مسلمة، كما حدث في العراق وأفغانستان والصومال ولبنان وفلسطين، وما قد يحدث غدا ضد سوريا وإيران والسودان. * المبدأ الثاني له ما يكفي من السند الشرعي الذي يحرم مشاركة الدول والشعوب الإسلامية في ما يفرض من حالات حصار ومقاطعة لطرف مسلم، كما حدث مع الحصار الغربي الظالم للعراق وليبيا وإيرانوأفغانستان في عهد طالبان، وما يمارس اليوم ضد الشعب الفلسطيني في غزة. * لن نحتاج إلى استفتاء شعبي لمعرفة موقف الشعوب الإسلامية قاطبة من المبدأين، وقد رأينا كيف أن القمع البوليسي والحصار المفروض على الشعوب، لم يكونا كافيين لمنع الشعوب الإسلامية من التعبير عن سخطها على ما تراه من إجحاف في القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية، والتعبير عن تضامنها مع الشعوب والدول الإسلامية التي كانت ضحية لهذا التعسف الدولي. * * احتماء النظم بعقيدة الشعوب * فالكرة إذاً هي في ملعب الحكومات والأنظمة الإسلامية التي تستطيع الدعوة إلى قمة طارئة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدول أعمال واحد هو صياغة وثيقة مبادئ لتشريع دولي إسلامي يضن للعالم الإسلامي، فضلا عن فرصة الانعتاق من ظلم وإجحاف القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية، تحقيق مبدأي الولاء والتضامن بين دول وشعوب العالم الإسلامي. * وقبل الذهاب إلى المرحلة التشريعية الصرفة، تتولى كل دولة عرض وثيقة المبادئ هذه على شعوبها عبر الاستفتاء، تتبع بتعديل لمرجعياتها الدستورية، يليها العودة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لتأسيس هيئة خبراء متعددة الكفاءات والخبرات في القانون الدولي والعلاقات الدولية والاقتصاد، تكون مهمتها إنجاز مسح شامل لمنظومة القانون الدولي، وإجلاء مواطن الغبن فيه، ثم استنباط بدائل فقهية إسلامية للقانون الدولي، ومرجعية من الخبرات والدراسات والحلول التي توضع تحت تصرف المشرع، وأخيرا تتم الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي تشريعي منتخب حسب نظام الاقتراع النسبي في الدول الإسلامية التي تكون قد صادقت من قبل على وثيقة المبادئ، على أن يترك الباب مفتوحا لالتحاق الدول الإسلامية المتخلفة في الوقت التي يناسبها. * وقتها، ووقتها فقط يكون بوسع العالم الإسلامي أن يدخل في حوار جاد مع المجموعة الدولية حول ضرورة إدخال تعديلات جوهرية على القانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية، تأخذ بعين الاعتبار مصالح دول وشعوب العالم الإسلامي، لتنظيم العلاقات بين العالم الإسلامي ودول العالم، مع الإبقاء على المنظومة التشريعية الدولية الإسلامية كمنظومة تسير العلاقات الدولية بين دول العالم الإسلامي تحظى على الدوام بمبدإ الفوقية حين يتعلق الأمر بتحقيق مبدأي الولاء والتضامن. * تلكم مجموعة أفكار مبدئية، لما يمكن للمجموعة الإسلامية أن تنجزه في زمن قياسي وبأقل تكلفة، لتعديل موازين القوة في العلاقات الدولية، وانتزاع مقاما محمودا للعالم الإسلامي لا نحتاج معه إلى استجداء واستعطاف الأقوياء في العالم للدفاع عن حقوق نحن أولى بالدفاع عنها، بتوظيف مقدراتنا التي لم نحصِها بعد، ولم نحسن توظيف ما هو ظاهر منها، والتعامل مع المجموعة الدولية بلغة المصالح وحدها. *