إلى الأمهات بمناسبة إطلالة السنة الجديدة وبدون مناسبة... إنهن مناسبتنا الدائمة والسعيدة. * كم هو ممتع الحديث عن الأمهات، وأمي اسمها: رابحة، وفي أوراقها الرسمية سمتها إدارة الحالة المدنية حليمة، سمتها هكذا دون أن تستشير من له الإشارة. * لست أدري لماذا ثبت اسمها هكذا..!؟ * لم أسألها يوما عن ذلك، ولم تكن تهتم لهذه الثنائية في التسمية، ربما لأنها كانت مقتنعة أن اسما واحدا لا يكفيها. كانت تحب اسمها الذي نناديها به، أكثر من اسمها الرسمي المختفي في الأوراق ذات الأختام والحروف الباردة. * الأمهات جميعهن هكذا، ربما لا يسعهن اسم واحد، لأنهن من فيض حنان و شلال ابتسام دائم. إنهن أكبر بكثير من الأسماء التي لا تعني شيئا. * وأمي الحاجة رابحة، كانت جميلة بل جميلة جدا. خجولة في كلامها وفي صوتها الخافت دائما. لم أسمع لأمي صوتا مرتفعا أبدا. ليس غريبا على والدي أن يختار امرأة كأمي بكل هذا الجمال وهذه الجاذبية، لأنه العالم وهو أيضا الفارس الذي لم يخل بيته يوما من الأحصنة والبارود. كان فارسا بالفرح وللفرح. قضى جزءا كبيرا من حياته على ظهر حصان راقص، تحت الزغاريد وبارود الأفراح. ولم أعرف له من الأصدقاء إلا الفرسان مثله: مسعود هاجوج ورابح دحمان وموح الزاويا وأحمد بوطالب وموحند أوعبدالله وغيرهم. * ليس غريبا على رجل مثل والدي، وهو المحب الوفي، أن يختار امرأة العمر واحدة كأمي الحاجة رابحة، فقد كان في الكتاتيب مجودا متميزا للقرآن الكريم، تجويدا مؤثرا ومثيرا. بمعية شلة من أصدقاء الكتاتيب ثم في حلقات الزوايا، كانوا يتنافسون على من يستطيع منهم أن يجعل سرب العازبات من جميلات القرية العائدات من السقي يتوقفن أطول مدة للاستماع إلى صوته المجود دون أن يشعرن بثقل جرار الماء المليئة على ظهورهن وجنوبهن. كان ذلك الرهان كفيلا أن يدفع بوالدي إلى تدريب صوته أكثر فأكثر على التجويد وإغراق حباله الصوتية، من حين إلى آخر، في أصابع العسل الحر. وحده صوت والدي الحاج السي بن عبدالله كان قادرا على شد انتباه العازبات لأطول وقت، وهن محملات الظهور بجرار الماء الثقيلة، ربما كانت أمي من بين ذاك السرب العالق في كلام المولى تعالى. مؤكد أنها أحبت صوته وهو يجود أعظم الكلام. * كانت أمي جميلة والأمهات جميعهن جميلات، دون استثناء، إلا أن أمي إضافة إلى جمالها واختفائها العجيب في اسمين، كانت تتقن جيدا فنون الحياة. والتي تختار رجلا مثل والدي، فارسا وقارئ قرآن ومسافرا وبشوشا، فلا يمكن إلا أن تكون امرأة من حياة ومن فرح ومن محبة. * لقد أحبا بعضهما البعض كثيرا وبصدق كشفته السنون. * عاشا معا حياة زوجية سعيدة أزيد من ستين سنة، وأنجبت أمي خلال هذا العمر المشترك مع فارسها عشرين بطنا، فرادى وتوائم، سأذكرهم لكم واحدا فواحدا وواحدة فواحدة، من الأكبر إلى الأصغر: كانت الفاتحة ربيعة، ثم جاءت نوارة، ثم خيرة، ثم فاطمة، ثم عائشة، ثم أحمد التيجاني، ثم حفيظة، ثم عبد المجيد، ثم عبد الرحمن، ثم مصطفى، ثم حنيفة، ثم عبد الرزاق، ثم الياقوت، ثم الغالية وأنا.. والذين لم أذكرهم من العشرين بطنا فقد قضيوا ساعة الوضع ودفنوا دون أسماء. هناك من أخواتي و إخواني من قضي صغيرا وبعضهم الآخر رحل في بداية الطريق أو بعد قطع مسافة لا بأس بها في العمر. لكن أغلب من ذكرتهم ذكورا وإناثا ابتسمت لهم الحياة ولهم أولاد وأحفاد وحفيدات وبدور هؤلاء الأحفاد والحفيدات أنجبوا أبناء وبنات. * بلغ من الأبناء والأحفاد و أبناء الأحفاد من ذكر وأنثى للحاجة رابحة ما يزيد عن المائة منهم الأبيض والحنطي، الأشقر والأسمر ولايزال الجميع يتحدثون عنها بإعجاب ويذكرون لها في الذكر الجميل أشياء: حبها لوالدي ذاك الحب الكبير الذي لا يعرفه إلا هي وتعرفه كتب الشعر أيضا. * يتناقلون في أحاديثهم غيرتها على والدي حتى في أيامهما الأخيرة، غيرتها عليه من النساء، فقد كانت لديه تلك الجاذبية التي يخلق البعض بها وتظل معهم حتى النهاية، كان قادرا على الإغراء في كل سنوات العمر، ظل شعاع الجاذبية نابضا فيه وحوله حتى على سرير الموت، حتى في موته. * يذكرون لها أيضا طريقتها الأنيقة في الملبس، حيث أنها كانت تعشق الأبيض والزهري، و فوق ذاك العطور والحنة التي تحافظ على لون شعرها الأشقر المائل للاحمرار، ولم تتنازل عن عادتها هذه حتى بعد أن غزا رأسها الشيب، وماتت بحنتها وبلون شعرها كما كانت تريده، ويذكرون لها رقصتها الخفيفة في أعراس العائلة وحفلات الفرح. * لوالدتي الحاجة رابحة رقصتها الخاصة بها، رقصة على خجل وعفة وفي كبرياء الأنثى، كانت ترقص بحركات متناسقة تشبه حركات الحمامة. تدهش الناظر إليها. * ثم من الغرابة أنني كلما ذكرت أمي الحاجة رابحة بنت عبد الله الخلوي يقفز إلى ذهني الكاتب الفرنسي الكلاسيكي ألفونس دوديه صاحب الحكاية الشهيرة "عنزة السيد سوغان" ولهذا الأمر قصة ممتعة وطريفة سأحكيها عليكم وستقرؤونها في الحلقة القادمة. * يتبع...