الاستماع إلى حكايات أمي هو الذي جعلني أعتقد، ومبكرا، بأن منبع التفكير هي الأذن وليس العقل أو المخ، صغيرا كنت، بها دائما، لاصقا وملتصقا، رادارا يلتقط نبرات صوتها المدهش. كنت أشعر بأن الإنسان يفكر أصلا بأذنيه ولا زلت أعتقد ذلك، فأذني التي تربت على صوت أمي وعلى إيقاع كلامها الهادئ المتزن الموزون هي التي كنت أفكر بها وبها دخلت أسئلة العالم . * واليوم أقول : من لا يحسن الاستماع لا يمكنه أن يحسن الكلام ويستعصى عليه الفهم . * سماع صوت أمي وهي تسرد لي مباهج الحكايات الشفوية وغنائم الثقافة الشعبية أو وهي تدندن أغان دينية صوفية أو شعبية، تدندنها في وحدتها العالية بكل فيوضها الروحانية، هي التي جعلتني مرات كثيرة أجد نفسي أكلم نفسي، في خلوة مثيرة. * هذا الصوت الرخيم الذي جعلني أفكر بأذني هو الذي أسقطني في عشق الراديو. كان لصوت الراديو سحر عجيب. كنت أسمع كل شيء، نشرات الأخبار على رأس كل ساعة، كما يقال، وكان صوت مذيع اسمه علاوة عثماني المجلجل يثير في بهاء العربية وبهجة الفصاحة. كنت أقلده وهو يقرأ أخبارا عن انتصارات الثوار في فيتنام وجنوب إفريقيا وأنغولا وغينيا بيساو. وكانت أسماء الزعماء الأفارقة تعجبني: نكروما ومنديلا ونيريري وغيرهم... كان والدي الحاج السي بن عبد الله معجبا بصوتي ومبتهجا به وأنا أقلد مذيع الأخبار علاوة عثماني. * * أينك اليوم يا علاوة عثماني؟ * كانت برامج الآداب تشدني أيضا : " ناشئة الأدب " ... كان صوت الأديب المذيع الشاعر إدريس الجائي مثيرا وهو الذي قرأ لي أولى نصوصي على أمواج الإذاعة . * نعم الإنسان يفكر بأذنيه قبل رأسه . * كانت أمي الحاجة رابحة بنت الخلوي بصوتها المتميز والإذاعة بأصوات مذيعيها هما من علماني التفكير في ما سأقدم عليه . * كنت أحب ولا زلت صوت عبد الحليم حافظ، كانت أمي تقول لي وهي تنظر إلى صورة بوستر عبد الحليم حافظ التي علقتها على جدار مقابل المكان الذي كنت أنام فيه إلى جانب إخوتي الذكور، إنه يشبهك بهذه السن الأمامية التي تنقصها فتاتة صغيرة. * الذي أسقط فتاتة من سني الأنانية هو أخي عبد الرحمن، سامحه الله، كنا نلعب الكرة في الباحة مع أبناء أعمامي وإذ ضرب الكرة، التي لم تكن سوى فردة جورب محشوة بالكتان والورق وأشياء أخرى، رفع معها وبقوة حجرة أرسلها في اتجاهي أنا الذي كنت أتولى حراسة المرمى، وهكذا فقدت فتاتة من سني لأشبه عبد الحليم حافظ . سامحك الله يا أخي عبد الرحمن . * كم مرة كنت أعتقد في فكرة التناسخ وكنت أشعر أن روح جبران خليل جبران تسكنني. وحين شعرت بأنها تسكنني بدأت أبحث عن مي زيادة وبدأت أفكر في الحب المثالي على طريقة جبران خليل جبران فأحببت كتابة الرسائل. * كان أول كتاب حصلت عليه كجائزة نهاية السنة الدراسية هو حكاية "عنزة السيد سوغان" للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه. كان ذلك في السنة الأخيرة من المرحلة الابتدائية. كنت سعيدا بكتابي هذا، حتى وإن كانت لغته فرنسية. وقد شعرت بمتعة لا تساويها متعة، إذ لأول مرة أضيف كتابا هو لي إلى رفوف كتب والدي المصطفة بانتظام على ألواح بسيطة، كتب في الفقه وقصص الرسل والأنبياء وبعض طبعات من المصحف الشريف كاملة أو لبعض الأحزاب، وبعض كتب في الشعر كالمعلقات السبع للزوزني والفتوحات المكية لابن عربي وألف ليلة وليلة وبعض الكتب القليلة بالفرنسية . * كنت أرى كتابي أكبر من كتب والدي جميعها وكان هذا الكتاب كبيرا في عيني لأن المعلم الذي منحني الجائزة أثنى ثناء كثيرا على ألفونس دوديه مؤلف الحكاية ناعتا إياه بأشهر الكتاب الكلاسيكيين في الآداب الفرنسية. * في اليوم التالي ونحن نبدأ أيام العطلة الصيفية القائظة والتي تمتد من نهاية جوان إلى الأول من أكتوبر، وبحماس كبير تناولت الكتاب وشرعت في قراءة القصة: حكاية عن عنزة عنيدة وذئب وغابة وهروب... ولا سيء؟؟؟ * قرأت الكتاب في اليوم الأول وقرأته في اليوم الثاني وفي اليوم التالي قرأته وقرأته مرات وفي كل مرة كنت أبحث بنهم وفضول عن الكاتب الفرنسي الكبير والعظيم والمهم ،،، عن كاتب بتلك الأوصاف التي كالها له مدحا السيد دحماني معلم الفرنسية، فلم أجد من ذلك شيئا، لست أدري لماذا كلما كنت أعيد قراءة حكاية العنزة والذئب والغابة إلا وسمعت بالموازاة صوت أمي يحكي لي حكايات مدهشة عن لونجة وسالفها وبقرة اليتامى وودعة أخت السبعة و ووو، كان صوت أمي والحكايات تفيض من على ضفافه تغطي على حكاية هذا الكتاب. وبالتالي كان ألفونس دوديه يختفي خلف صورة أمي . * وإذ اقتنعت بأن أمي الحاجة رابحة بنت الخلوي أبدع من ألفونس دوديه وأن ما تقوله وما تحكيه أعمق وأقوى وأصدق ألف مرة مما كتبه هذا الألفونس دوديه في كتابه هذا عن عنزة غبية مثله، أخفيت كتاب "عنزة السيد سوغان"، غيبته من على رفوف كتب والدي، وعدت إلى أمي أسمع حكاياتها المدهشة في التخريف والعجائبية والحكمة. ومنذ سنوات الطفولة تلك قررت أن أكون الكاتب العمومي لأمي التي كانت لا تحسن القراءة ولا الكتابة ولكنها كانت تفقه ما فوق الكتابة والقراءة، لقد كانت تفقه جمال الحياة بعمق وتحسن فنون العيش. وأعترف اليوم بأنني كلما شرعت في كتابة قصة أو رواية إلا وسمعت صوت أمي يدندن بدايتها في رأسي . * لا وجود لكتابة صادقة بدون صوت الأم ولا وجود لإبداع عميق دون التفكير بالأذن في هذا العالم الضاج من حولنا وفينا . * الحلقة الثانية يتبع