خرج أخيرا رئيس حكومة الإصلاحات، مولود حمروش، عن صمته بعد غياب دام قرابة 15 سنة التزم خلالها الصمت المطبق بالرغم مما شهدته البلاد من أحداث وتطورات، وكانت خرجته هذه المرة كمن يرمي بحجر في بركة الرئاسيات الراكدة، أعادت ترتيب الكثير من الأوراق في المشهد السياسي. وبلورت الرسالة مواقف مولود حمروش، بشأن التطورات التي تعيشها البلاد، ولا سيما الدور المنتظر من المؤسسة العسكرية، وما أثير حولها من نقاش تحول فجأة إلى جدال سياسي فجّرته مختلف الأطراف المتناحرة. لكل أزمة ضحاياها وفرصها.. فلنستغل فرصها ولنتفاد ضحاياها من يطّلع على بيان مرشح الانتخابات الرئاسية في العام 1999، يقرأ فيه نوايا الرجل ضمّنها في رسائل تطمينية وجهها لمختلف الحساسيات والمكونات السياسية والمناطقية والعرقية، سيما عندما يقول: "وحتى تستقبل البلاد هذه المحطات (الرئاسيات تعتبر أولها) في كنف الانسجام والطمأنينة والانضباط القانوني والهدوء الاجتماعي، من الضروري الحفاظ على مصالح مختلف المجموعات والمناطق والأقليات وصيانتها". وبرأي رجل الإصلاحات، فإن أقوى ضمان لتعزيز انسجام الصف الوطني، يتمثل في أن تتحمّل الدولة مسؤولية "حماية كل الحقوق وأن تضمن ممارسة كل الحريات. وهذه إجراءات من شأنها توفير قدرة أحسن على حفظ الأمن، وعلى تعزيز المنجزات وعلى تصحيح الاختلالات وعلى مجابهة النقائص"، وهي عبارات لا يمكن أن تصدر إلا عن شخصية تحمل مشروع ترشح تسعى من ورائه إلى تحقيق الالتفاف المطلوب، من جميع الأطياف السياسية والاجتماعية والدينية. وكان ثقل دور المؤسسة العسكرية حاضرا، بل طاغيا، في رسالة حمروش، التي شددت على ضرورة إبعاد الجيش الذي كان دوره حاسما في تجاوز الأزمات التي مرت بها البلاد، عن الصراعات السياسية وتركه على مسافة واحدة من جميع الفاعلين، وفي ذلك دعوة ضمنية إلى هذه المؤسسة كي ترافق البلاد في المرحلة الحساسة التي تعيشها حاليا، إلى مرحلة "بناء دولة عصرية لا تزول بزوال الرجال والحكومات ولا تتأثر بالأزمات". مكونات المجتمع لا يمكن أن تتناغم مع ممارسة سلطات سيادية دون سلطات مضادة وتتضح نوايا الرجل أكثر في خوض الاستحقاق المقبل، عندما يتحدث عن "مواصلة المسار الديمقراطي" و"استئناف الإصلاح"، الذي كان قد بدأه في نهاية الثمانينيات عندما كلّفه الرئيس الراحل، الشاذلي بن جديد، برئاسة الحكومة خلفا لقاصدي مرباح، غير أن أطرافا مغامرة لم تتردد آنذاك، في تعفين الوضع حتى تدفع الرجل لرمي المنشفة خوفا من أن تتلطخ يداه بدماء الجزائريين، كما نقل عنه. ويسترسل رجل الإصلاحات في تسويق مشروعه السياسي الذي يتخذ من اعتبار الآخر مرآة لمعرفة أخطائه: "إن مكونات مجتمعنا لا يمكنها أن تتناغم اليوم مع ممارسة سلطات سياسية بدون سلطات مضادة، كما لا يمكنها أن تتلاءم وممارسة سلطات عمومية أو مهام غير عادية بدون تفويض قانوني وبدون رقابة، إن هذا التناغم وهذا التلاؤم من صميم مصلحة الجزائر وأمنها ومن مصلحة كل الجزائريين وأمنهم، ومن مصلحة كل مناطق البلاد وأمنها". لا يمكن لمكونات المجتمع أن تتلاءم وممارسة سلطات عمومية أو مهام غير عادية بدون تفويض قانوني وبلا رقابة ويعتبر صاحب الرسالة ما قدمه من تصورات، منطلقات لا بد منها كي تقف كل مؤسسة من مؤسسات الدولة المختلفة على حدود صلاحياتها ومساحات عملها، بما يصب في مصلحة الجزائريين الذين يتطلعون إلى تحقيق الإنصاف والرقي والتقدم، وهي العوامل التي يمكن أن "تجعل من دولتنا محل ثقة ومصداقية وجدية لدى شركائها وجيرانها"، كما من شأنها أن توفّر إمكانات أحسن لاستغلال الفرص المتاحة، وتجنّب ما يمكن أن تسببه الأزمات من أعراض غير محبّذة. وتبدو هذه الرسائل وكأنها أعقبت جلسات ومشاورات لتشخيص أزمة أخذت في الأيام الأخيرة طابعا بات ينذر بخطورة الوضع إذا استمر على ما هو عليه، بين أنصار العهدة الرابعة وخصومهم، إلى درجة أن البعض لم يتردد في الانخراط في سياسة التخويف من تداعيات 17 أفريل على استقرار البلاد.
بين الاختيار والاضطرار حمروش.. هل سيكون بديلا جاهزا للخروج من المأزق؟ فجّر البيان السياسي الذي وقعه رئيس الحكومة الأسبق، مولود حمروش، جملة من التساؤلات والقراءات السياسية حول خلفيات هذا البيان وتوقيته وأهدافه، وما إذا كان مجرد مساهمة للخروج من المأزق الذي تعيشه البلاد، أم تسويقا لمشروع سياسي ينوي صاحبه خوض سباق الرئاسيات. ومما زاد من مشروعية التساؤلات التوقيت الذي اختاره "رئيس حكومة الإصلاحات" لإعلان بيانه، وكذا الرسائل السياسية التي تضمنها، والتي غلب عليها طابع التهدئة والتطمين لمختلف الأطراف السياسية المتناحرة، والتي تلتقي جميعها حول العهدة الرابعة، بين مؤيد مستميت في الدفاع عنها، وبين معارض ورافض لها. ومعلوم أن حمروش ليس كغيره من السياسيين، فهو لا يتكلم كثيرا وإذا تكلم لا يبالغ ولا يسترسل في الحديث، أما اختيار الوقت فيعتبر بالنسبة إليه، أهم من الكلام الذي سيقوله، ومن هنا يمكن اعتبار عامل الزمن أكبر الرسائل التي يتعيّن على المتتبعين تفكيك ألغازها بدقة، حتى لا يجانبوا الصواب في قراءاتهم وتحليلاتهم. فقد جاء بيان صاحب أطروحة "الظاهرة العسكرية في إفريقيا" في ظرف حساس جدا، طبعه نقاش حاد حول واحدة من أهم المديريات المركزية في المؤسسة العسكرية، ألا وهي مديرية الاستعلامات والأمن، ومسؤولها الفريق توفيق المدعو محمد مدين، فجّره الأمين العام لحزب جبهة التحير الوطني، عمار سعداني، وما تبعه من جدال سياسي كاد ينحرف بالنقاش السياسي إلى ما لم تحمد عقباه، لولا تدخل الرئيس بوتفليقة ليطوي الصفحة. كما جاء البيان قبل أسبوعين فقط عن موعد انتهاء آجال إيداع ملفات الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، في حين لا يزال مصير ترشح القاضي الأول من عدمه غامضا، مقابل وصول عدد المتسابقين حسب الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية والجماعات المحلية، إلى ما يفوق ال100 مترشح، ليس بين هؤلاء من يعتقد أنه يمثل النظام القائم. وإذا كان هناك من المؤشرات ما يصب في إمكانية ترشح الرئيس بوتفليقة، بالنظر للترتيبات السياسية والإجرائية التي وضعها على الأرض الفريق الداعم للعهدة الرابعة، بالرغم مما يقال عن وضعه الصحي، إلا أن خرجة حمروش، اعتبرها البعض عودة بالنقاش إلى مربع البداية. القراءة السطحية للبيان تشير إلى أن الأمين العام الأسبق لرئاسة الجمهورية، لم يعلن صراحة خوضه السابق، لكن قراءة ما بين السطور لا تسقط احتمال أن يكون الرجل قد حسم أمره، وأن الإعلان الرسمي عن الترشح سيكون في القريب العاجل، وإذا صحّت هذه الفرضية يصبح التساؤل أكثر من مشروع حول ما إذا كان بيان مولود حمروش، يأتي تتويجا لمشاورات موسّعة بين صنّاع القرار تمت خلف الجدران المغلقة. وهل يقبل أن يشارك حمروش، في انتخابات قد يكون الرئيس بوتفليقة طرفا فيها؟ سيما وهو يدرك أن الفريق الرئاسي تمكّن من تشفير كافة المنافذ المؤدية إلى قصر المرادية، منذ التعديل الحكومي الذي أدخل على حكومة سلال الثانية، والذي سيطر فيه رجالات الرئيس على كافة الحقائب الوزارية والمؤسسات الدستورية التي لها وصاية مباشرة على العملية الانتخابية، قبل أن يأتي الدور على المؤسسة الأمنية "صانعة الرؤساء" التي طالتها تغييرات وصفت ب"الثورية". وما علاقة بيان حمروش بالتقارب بين الأفافاس والسلطة، أو على الأقل في شقّها المحسوب على الفريق الرئاسي؟ وهل يلتقي بيان حمروش مع بيان الإبراهيمي وبن يلس وعلي يحيى عبد النور عند الحسابات المتعلقة بموعد 17 أفريل المقبل؟ من يعرف رئيس الحكومة الأسبق عن قرب، يؤكد أن الرجل يعي جيدا كيف يصنع القرار في دهاليز وأروقة النظام، ولذلك فخطواته لا يمكن أبدا أن تكون اعتباطية وغير مدروسة، ولعل الجميع لا يزال يتذكر كيف قرر الرجل العودة إلى بيته ملتزما الصمت طيلة ال15 سنة الماضية. فهل سيكون مولود حمروش، هو المرشح الذي توافقت عليه الأطراف المتناحرة في هرم السلطة؟ أم أن خرجته مجرد لفتة لمن يهمه الأمر، مفادها أن خزّان الجمهورية لا يزال ينضح برجالات قادرين على تجميع الفرقاء حول مشروع سياسي كفيل بنقل البلاد إلى مرحلة انتقالية تأسيسية لجمهورية ثانية؟