التربية الوطنية/الرياضة: تحضير البطولة الوطنية المدرسية للرياضات الجماعية    البرلمان العربي يرحب بقرار الجنائية الدولية إصدار مذكرتي اعتقال بحق مسؤولين صهاينة    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائرتتوج بالذهبية على حساب الكاميرون 1-0    لبنان : ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني إلى 3670 شهيدا و 15413 مصابا    "كوب 29": التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداعيات تغير المناخ    الغديوي: الجزائر ما تزال معقلا للثوار    مولودية وهران تسقط في فخ التعادل    مولوجي ترافق الفرق المختصة    قرعة استثنائية للحج    الجزائر تحتضن الدورة الأولى ليوم الريف : جمهورية الريف تحوز الشرعية والمشروعية لاستعادة ما سلب منها    تلمسان: تتويج فنانين من الجزائر وباكستان في المسابقة الدولية للمنمنمات وفن الزخرفة    مذكرات اعتقال مسؤولين صهاينة: هيومن رايتس ووتش تدعو المجتمع الدولي إلى دعم المحكمة الجنائية الدولية    المخزن يمعن في "تجريم" مناهضي التطبيع    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي عائلة الفقيد    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي في وفاة الصحفي محمد إسماعين    الجزائر محطة مهمة في كفاح ياسر عرفات من أجل فلسطين    الجزائر مستهدفة نتيجة مواقفها الثابتة    التعبئة الوطنية لمواجهة أبواق التاريخ الأليم لفرنسا    تعزيز روح المبادرة لدى الشباب لتجسيد مشاريع استثمارية    حجز 4 كلغ من الكيف المعالج بزرالدة    45 مليار لتجسيد 35 مشروعا تنمويا خلال 2025    47 قتيلا و246 جريح خلال أسبوع    مخطط التسيير المندمج للمناطق الساحلية بسكيكدة    دورة للتأهيل الجامعي بداية من 3 ديسمبر المقبل    نيوكاستل الإنجليزي يصر على ضم إبراهيم مازة    السباعي الجزائري في المنعرج الأخير من التدريبات    سيدات الجزائر ضمن مجموعة صعبة رفقة تونس    البطولة العربية للكانوي كاياك والباراكانوي: ابراهيم قندوز يمنح الجزائر الميدالية الذهبية التاسعة    4 أفلام جزائرية في الدورة 35    "السريالي المعتوه".. محاولة لتقفي العالم من منظور خرق    ملتقى "سردية الشعر الجزائري المعاصر من الحس الجمالي إلى الحس الصوفي"    الشروع في أشغال الحفر ومخطط مروري لتحويل السير    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    اللواء فضيل قائداً للناحية الثالثة    الأمين العام لوزارة الفلاحة : التمور الجزائرية تصدر نحو أزيد من 90 بلدا عبر القارات    السلطات تتحرّك لزيادة الصّادرات    وزارة الداخلية: إطلاق حملة وطنية تحسيسية لمرافقة عملية تثبيت كواشف أحادي أكسيد الكربون    مجلس حقوق الإنسان يُثمّن التزام الجزائر    مشاريع تنموية لفائدة دائرتي الشهبونية وعين بوسيف    بورصة الجزائر : إطلاق بوابة الكترونية ونافذة للسوق المالي في الجزائر    إلغاء رحلتين نحو باريس    البُنّ متوفر بكمّيات كافية.. وبالسعر المسقّف    الخضر مُطالبون بالفوز على تونس    دعوى قضائية ضد كمال داود    تيسمسيلت..اختتام فعاليات الطبعة الثالثة للمنتدى الوطني للريشة الذهبي    الشباب يهزم المولودية    المحكمة الدستورية تقول كلمتها..    وزيرة التضامن ترافق الفرق المختصة في البحث والتكفل بالأشخاص دون مأوى    النعامة: ملتقى حول "دور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض باللغة العربية"    الذكرى 70 لاندلاع الثورة: تقديم العرض الأولي لمسرحية "تهاقرت .. ملحمة الرمال" بالجزائر العاصمة    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة السادسة: تلاميذ المنفلوطي وبن نبي.. ويوم الانتصار الكبير
بدّة عيشوش" مصريون وعرب في مسيرة القدر"
نشر في الشروق اليومي يوم 21 - 02 - 2010

في حركة الأيام المتواصلة للقرية العتيقة التي يحسبها أهلها جامدة، مستقرة، و هي تمر مر السحاب, توحد فعل الطفل الصغير"العربي " مع أفعال الآخرين لكن القلب ظل يهيم شوقا إلى حيث رحلة البحث في همّ سؤال: من هم المصريين؟ و ربما كان يقصد من نحن الجزائريين؟!.كانت سنوات الدراسة في المرحلة الإعدادية المتوسطة كفيلة بوضع مقدمة لإجابات ٍ متناقضة و متضاربة سيعرفها حين يتقدم به العمر و يكبر الجسد و يزيد الوعي، و يندمج في أفعال الآخرين تأثرا ً بظلام بعضهم و بنور بعضهم الآخر ، و ينتهي إلى أن البشر أجسام وأرواح فريقان لا ثالث لهما، فريق مع العرب و فريق آخر ضدهم، و ما يتبع المعيّة أو الضديّة من قرارات هو حالات ناشئة من ثقافات الظلم أو العدل، الحب أو الكراهية، الاتحاد أو التشتت.
ها هو العربي يدخل مرحلة ً جديدة يكتشف فيها أن مكان الفعل و رحلة البحث و محاولة معرفة الآخر ، ليست حالا ً مستقرة ً مثل قريته ، فذهابه مع صديقه" صالح " على متن دراجة قديمة يقطعان بها مسافة العشرة كيلو مترات إلى مدينة " جامعة " من أجل الدراسة، ما هو إلا بداية أولى للخروج من فضاء المكان حيث يوجد بده عيشوش, وحيث تنمو وصيته المفعمة بالحذر و الحيطة من أناس ٍ يراهم اليوم أجسادا ً وأفكارا.. و يعلق داخل نفسه:
إنهم كما قال عمي مثلنا تماما ً، يتحدثون لغتنا و لديهم استعداد للكشف عن جماليات الخط العربي .
كان ذلك بعد أن نبهه أستاذه المصري" شوكت " على أن حرف الهاء له بطنين أو جناحين حين يكون في وسط الكلمة، و ليس كما تعود كتابته، دائرة وسطها خط .. لقد جاء التحذير من الأستاذ مرة ً أخرى على النحو التالي :
اعلموا ( يقول الأستاذ مخاطبا ً تلاميذ الفصل ) إن العربية تمثل الجمال في النطق, و في الكتابة،فحيث وليتم وجوهكم، و حيث قادتكم ألسنتكم و تحركت مشاعركم، و جذبتكم أصوات الآخرين,إلا ووجدتم اللغة العربية عندكم، وإذا لم تجدوها فعليكم أن تعيدوا النظر في مفرداتها.. هي في الكتابة أجل و أوضح .
شدت العبارات السابقة انتباه العربي و دفعته إلى حيث يقوده قلبه و عقله ، قيادتان تلتقيان في التفكير المتواصل عنده و تتفرقان عند نار الشوق و هم السؤال .. و تلتقيان مرة ً أخرى عند النتيجة حيث الانتماء حقا ً و ليس وهما ً يكسر جدار العزلة و ينفض الغبار عن العقل الصغير الذي أوجس في البدء خيفة ً من علاقة ٍ بدت لحظة ذكرها آثمة ً حين كان الولوج إليها من باب السياسة عبر العلاقة الأولى بين"ابن بله" و عبد الناصر"،و المنعكسة على أفعال العاصميين ، و في الصدى المتردد في فضاء القرى والأرياف النائية و منها قريته العتيقة.
في تلك الإعدادية التي توسطت مدينة "جامعة" و مثّلت نقطة لقاء لأبناء سكان القرى الأقل تمدنا ً مقارنة ً بأهلها ، كان اللقاء الأول بالمصريين .. إنهم هنا و ليسوا هناك، و نسي " العربي " في لحظة البحث الأول، الاهتمام بذكريات النصيحة التي أسداها له" بده عيشوش" منذ ست سنوات، و لم يعد مهتما ً بالحذر منهم مادامت لغتهم جذابة و مؤثرة ، و ما داموا وهم ثلاثة أساتذة متميزين في أفعالهم وأقوالهم مقارنة ً بأستاذ ٍ سوري ٍ وحيد ، قذفته الحياة هنا ليعاني في الجنوب الجزائري, بخلاف أهل بلاده الذين توزّعوا في المدن الكبرى.
ماجدولين.. صفقة رابحة
حملت الإعدادية اسم " مالك بن نبي" و لم يعرف تلاميذها قيمة و معنى هذا الاسم إلا بعد أن تقدم بهم العمر ، و وجدوا في أفكاره الخاصة بالثقافة و الحضارة و الإسلام ، مستوى عال ٍ من التحضر لعولمة رآها في فرنسا منذ خمسينيات القرن الماضي، و لغضب الذين جاءوا إلى الحكم بعد أن جعلتهم أفكاره في الحضيض، غير اسم مالك بن نبي ، و حل بدلا ً منه اسم "عبد الحميد بن باديس" ، و كان هذا التغيير يعني للتلاميذ شيئا ً واحدا ً هو المعرفة المسبقة لعبد الحميد بن باديس، بأنه القائل : الإسلام ديننا، و العربية لغتنا، و الجزائر وطننا ، أما "ابن نبي " فإنه بالنسبة لهم لم يقل شيئا ً ما دامت نصوصه غير مقررة ٍ في مراحل التعليم ، و هذا على عكس مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي كان مثار حديث ٍ متواصل من طرف أستاذ اللغة العربية " شوكت " .
المنفلوطي الغائب، الحاضر، سحب التلاميذ إلى عالمه، حتى لم تعد النصوص المقررة كافية ً ، ووجد الأستاذ " عبد الحميد "- الذي تعود أصوله و حياته إلى مدينة " الأغواط " - في رغبة التلاميذ لمعرفة المزيد عنه فرصته للكسب فاتفق مع صاحب مكتبة في مدينة " تقرت" على شراء جميع الكتب الخاصة بمصطفى لطفي المنفلوطي , وهي " في سبيل التاج " ، " العبرات " ، " النظرات "، " ماجدولين " ، و حصل على ثمنها قبل إحضارها .. و كانت صفقة رابحة ، أثارت انتباه مدير المتوسطة " سي أحمد " و فكر بتطويرها بحيث تعود عليه بدخل ٍ أكبر ، فأقنع المسؤولين في الأكاديمية بضرورة فتح مكتبة داخل المتوسطة تبيع الكتب و الأدوات المدرسية للتلاميذ بأسعار ٍ رمزية حتى لا يشترونها من المحلات التجارية ، و استحسنت الجهات المسؤولة الفكرة ووافقت على الفور.
كانت متوسطة " مالك بن نبي " في جامعة, مكوّنة من ثمانية فصول, تتوزع على جهتين آخذة ً الشكل المستطيل، تقع على الشارع الرئيسي، و هو طريق وطني يمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تحاذيها على الجوانب الثلاثة الأخرى بنايات، امتدت هي الأخرى أفقيا ً، تفصل بينها و بين المتوسطة ثلاثة شوارع صغيرة، و بهذا شكلت المتوسطة فضاء ً خاصا ً بها، يفصل بينها و بين المستشفى الرئيسي و الوحيد آنذاك الشارع الرئيس فقط، و على مقربة منها تقع إحدى المدارس الابتدائية الكبرى، و دوائر حكومية أخرى، و تفصلها مسافة تقارب الثلاث كلم على السوق الأسبوعي ، الذي يقام كل يوم أربعاء ، أما السوق الداخلية الثابتة، فإنها تبعد مسافة لا تزيد على كيلومتر واحد عنه.. إنها ذات موقع استراتيجي هام للنشاط التجاري .
الأماكن و حركة الناس و حاجاتهم و المسافات والأبعاد ، كانت جميعها في ذهن مدير المتوسطة "سي أحمد " حين تقدم بطلبه إلى الجهات المسؤولة، و جاءته الموافقة سريعاً ، ولم تكن تحركاته من أجل مصلحة ًالتلاميذ، و إنما للكسب السريع في ظل انشغال الجهات العليا و بعدها عن المدينة.
فوجئ التلاميذ الإعدادية ذات يوم ٍ بباب ٍ جديد يفتح على الشارع الرئيس، كان الفصل الوسط بين باقي الفصول و أكبرها، و عملية البناء و الترميم جارية على قدم ٍ و ساق، كان ذلك في بداية الموسم الدراسي عند نهاية شهر سبتمبر، و كان الجد باد ٍ على عمال البناء و على المدير الذي كان يراقب أعمالهم كل يوم ، محاولا ً أن ينجز البناء قبل حلول شهر رمضان المبارك ، و فعلا ً تم إنجاز العمل ، و تحول الفصل إلى سوق ٍ صغيرة ، بلغة العصر " سوبر ماركت "، لا مثيل لها في المدينة كلها .
عبارة" تكفينا"
انبهر التلاميذ بالفصل الجديد ، السوق الجديد ، المحل الرائع الذي يبيع كل شيء، الحلويات و الخضروات و الفواكه، و حتى اللحم، ناهيك عن اللعب و الدراجات ، كان له بابان يفتح الأول أثناء أوقات الراحة بين ساعات الدراسة غير المتواصلة ، لأنها تتم بنظام الفترتين، و يغلق الثاني عن الجمهور ، ثم يفتح الباب الخاص بالجمهور و يغلق باب التلاميذ ، و بالليل يتحول جانب منه إلى مقهى ، حيث يتم فيه لعب الدومينو .
لم يعلق أحد من الأساتذة على ما حدث ، و لا حتى سكان الحي ، بل أن بعضهم اعتبر ذلك إضافة رائعة, ولم يسأل أحد: لماذا لا يبيع الكتب ,مكتفيا ً ببيع الكراريس و الأقلام ، بحجة أنها بطيئة في التسويق ومكسبها قليل ؟.
حظي والد المدير بالمكانة المرموقة ، فهو المشرف على السوق و ما كان قادرا ً على الوقوف لهشاشة عظامه و كبر سنه ، و لذلك كان يقضي وقته جالسا ً على كرسيه ، يقوم فقط لحظة طلب الزائرين لبضاعة بعيدة ٍعن الأيادي ، تماما ً مثل ابنه المدير الجالس في مكتبه, الذي لا يقوم إلا مهددا أو زاجرا لأستاذ أو تلميذ ، وحين يسكت عنه الغضب يكتفي بالطرد لمن هو في مكتبه .
حين يعود التلاميذ في المساء إلى بيوتهم يروون لأهاليهم قصة السوق الجديد، فيطلب منهم عدم الحديث في هذا الموضوع لأنه يخص المدير ، و سي أحمد لا يتقى شره، رجل طويل القامة، أسود اللون، لا تراه ضاحكا ً أو مبتسما ً أبدا ً، منع الأساتذة من بيع أي كتاب ٍ للتلاميذ، قائلا :
- الأحسن إليهم أن يرفّهوا عن أنفسهم أثناء الراحة بشراء الحلويات و البسكويت و الفواكه والزلابية من أن يشغلوا أنفسهم بشراء الكتب التي تثقل عليهم و تزيد من معاناتهم و تكلف أسرهم الكثير .
لم يكن " سي أحمد " يراهن في تجارته التي يشرف عليها والده على مصروف التلاميذ , و لا حتى أساتذتهم، و إنما الذي كان يعنيه بالأساس هو سكان الحي المحاذي للإعدادية, لهذا كان الباب الخارجي أهم إليه من الباب الداخلي، و حين سأله أحد أصدقائه الذي زاره على حين غرة :
هل يحقق لك هذا المحل أرباحا ً؟
أجابه مبتسما :
- هذا المحل دخله كبير ، و الحمد الله، و هذه المتوسطة وجه خير علي، فهي تكفينا و تكفي الدولة ، فنحن نتاجر و الحكومة تعلم.
كان العربي على بعد خطوات، مسترقا ً السمع ، و دون أن يراه المدير الذي يكرهه كثيرا ً، لأنه لا يشتري من المحل، و لأنه يتحالف مع زملائه الفقراء في رفض ممارسة الرياضة بحجة أنه لا يملك بدلة ً رياضة ً في حين كان يملك بذلتين وليست واحدة فقط، و حذاءين و ليس واحدا ً، و مع ذلك يدعي أنه لا يملك بدلة رياضية ، فيحرم من اللعب و التدريب و يعاقب مع أبناء الفقراء ، فالمدير يراه فقيرا حتى العظم, و لا خير يرجى منه، لذلك كان له بالمرصاد دائما.
عبارة "تكفينا" التي جاءت على لسان المدير ليست جديدة ً بالنسبة للعربي ، فقد سمعها منذ ست سنوات خلت ، و كبرت معه ، و اكتشف الآن أنها ليست خاصة ً بالمصريين فقط ، مع أنه كاد أن يؤمن بذلك بعد المرات العديدة التي طلب منه أستاذه المصري " شوكت " أن يحضر له " قروصة – دزينة-"من علب سجائر، " ريم " من " تقرت " لأنها كانت سلعة ً مقطوعة ً في مدينة " جامعة " .
عبارة المدير وصلت إلى الجهات المسؤولة ، أبلغت بأن الهدف الحقيقي للمدير كان تجاريا ً و لم يكن تعليميا ً، فأرسلت إليه لجنة ً لتقصي الحقائق انتهت إلى غلق المحل، و تقديم تقرير عنه, كانت نتيجته السجن ستة أشهر للمدير مع فصله بشكل ٍ نهائي من سلك التعليم ، و تساءل العربي عند سماع الخبر :
أهذه نهاية عدم الالتزام بالقانون ؟ قانون العلاقة والمهنة و الدولة ؟
واصل أيامه العربي إلى الدراسية منصتا و ملبيا ًو متفاعلا ً مع أفكار و آراء أستاذه " شوكت " ، و نسي الحذر من المصريين ، بل نسي أن من بين أساتذته العشرة هناك ثلاثة مصريين ، إلى أن جاءت حرب أكتوبر، و فوجئ بلقاء آخر مع المصريين .
بومدين.. ويهود أسرى
حين كان " سي أحمد " مدير الإعدادية يسابق الزمن ليفتح المحل التجاري أو المكتبة المزعومة قبل حلول شهر رمضان، كان المصريون بعيدا ً هناك يستعدون سرا للحرب مع إسرائيل.. و ما كان" سي أحمد " يعرف أن محله سيواجه مأزق شح السلع, وندرتها عند نشوب الحرب، مما جعل طموحاته تتراجع.
في الأيام الثلاثة الأولى للحرب استبشر خيرا ً من ذلك الإقبال الواسع على السلع ، خاصة ً الضرورية، و تمنى أن تطول الحرب خصوصا ً بعد أن أقبل الأساتذة المصريون العاملون في المدرسة على الشراء من محله، الأمر الذي كسر لديه حاجز العلاقة المضطربة معهم، فهو يراهم منذ أن عيّن مديرا ً للمدرسة، مصدرا ً للبخل ، يأخذون و لا يعطون، يحبون الفلوس أكثر من أنفسهم، و كان يذكر هذا دائما ً، و ها هو اليوم يرى ضرورة تجديد عقودهم ما داموا قد أصبحوا من زبائنه، غير أن بشرى الحرب لم تتواصل لأنها ضد طبيعة الأشياء، و منطقها ، فالحرب دائما ً طائر نحس ما إن تمر على دولة أو بلد حتى تتركه خرابا، فقد قلّت السّلع من السوق في الأسبوع الأول و في بداية الأسبوع الثاني أوشكت على النفاد ، و في نهايته فقدت تماما، خصوصا الطماطم و الزيت و الزبدة و الدقيق .
اعتبر " سي أحمد " و هو الجديد في مهنة التجارة، أن غياب السلع ذات الاستهلاك الواسع لعبة من ألاعيب التجار لرفع الأسعار، لكن اتضح في وقت ٍ لاحق أن ذلك نتيجة للمساهمة الجزائر في المجهود العربي، حسب ما ابلغه الضابط العسكري الذي أشرف على التحضير لإرسال شحنات من الغذاء إلى مصر بعد إرسال ضباط و جنود جزائريين .
مع الأيام، قل إقبال الناس على المحل في النهار، لكن منذ اليوم الأول للحرب بعد تحطيم خط " برليف " تحوّل محل " سي أحمد "مساء وليلا إلى نادٍ لمتابعة الحرب عبر شاشة التلفزيون، حيث يتم عرض الأسرى اليهود على طول الفترات الإخبارية، بأمر ٍ من الرئيس "هواري بو مدين".
لم يكن توفر التلفزيون في كل البيوت بالأمر السهل ، خصوصا ً بالنسبة لغير أهل المدينة، و لهذا وجد الأساتذة المصريون في محل " سي أحمد " ضالتهم ، فكانوا يأتون إليه تاركين وراءهم يوما ً ثقيلا ً من العمل، و من الشوق لمصر، و في أعماقهم و على وجوههم زهو بالانتصار و خوف من تكرار هزيمة 1967
في المحل التجاري ، الذي أغلق بعد الحرب بشهرين، كان الحديث يدور بالمساء و الليل حول المعجزة المصرية، و حين يحل الصباح ينقلها المدرسين إلى تلاميذهم الذين عرفوا ولأول مرة ٍ أن هناك أمة عربية واحدة تقودها في الحرب مصر و سوريا.. و الحديث عن العرب هنا أنهى و بشكل ٍ جذري الحديث عن مصر الدولة، و أبقى مصر الجبهة، فلا يسمع التلاميذ والشعب الجزائريين خلال أيام الحرب إلا بالجبهة المصرية، و الجهة السورية .. هناك جبهتان إذن لأمة ٍ عربية ٍ واحدة ٍ و ذلك تفاعلا ً من الخطاب الإعلامي الدولي عبر الإذاعات .
أفكار سيّد قطب
غاب الشعور بالملل لدى المدرسين المصريين في تلك الإعدادية و أصبحوا أكثر قربا ً من تلاميذهم .. زاد الود و زادت المحبة ، غير أنهم لم يبدوا فخرهم الذين اتصفوا به على كل مراحل التاريخ، فهم في بلد لا يزال أهله يرون في انتصارهم عن الاستعمار الفرنسي، الإنجاز الكبير الذي لا يمكن أن تضاهيه حرب لأيام حشدت من أجلها كل طاقات العرب مجتمعين، غير أن ذلك لم يحل دون قول عند سماع خبر ٍ جديد " عظيمة يا مصر " و ما كان سكان المدينة يكرهون سماع هذا لأن " مصر " بدت تلك الأيام " عظيمة حقا ً " في نظر الجزائريين و هي كذلك في نظر أبنائها حتى أيام الهزيمة ، التي محت عارها سنوات حرب الاستنزاف .
التفاعل مع الحرب لم ينسي الأساتذة المصريين دورهم التعليمي و لا مهمتهم التي جاءوا من أجلها، تلحظهم متفادين الحديث عن الحرب إلا في فترة الراحة، أو حين يسألون بشكل ٍ مباشر ، أو حتى تكون الحصة خاصة بالتاريخ ، خصوصا ً الأستاذ " شوكت " الذي كان يدرس مواد اللغة العربية، و التربية الدينية والتاريخ, و كلها مواد تسمح بالنقاش في مواضيع لحرب .
الأستاذ " شوكت " بور سعيدي المولد، قاهري النشأة، أزهري التكوين ، إخواني الانتماء، حين يتحدث لك عن مصر تخالها ماثلة أمامك، يأخذك الحنين إلى مآذنها و إلى دور نشرها وإلى قبور رجالها الأوائل ، يسرب أحيانا ً و بشكل ٍ غير مباشر أفكارا ً من كتابات "سيّد قطب" ، و يمر مرور الكرام على ذكر" حسن البنا" غير أنه يتفادى التفاصيل في كلامه، حتى لا يأخذ عنه اتجاهه في بلد ٍ اشتراكي ، ينظر للإسلام من زاوية فعل " أبو ذر الغفاري " فقط .
كان الأستاذ " شوكت "، شابا ً وسيما ً ، متزوجا من امرأته التي تركها في القاهرة مع طفلته ذات العام الأول من العمر، يتفادى الحديث مع التلميذات اللائي بدأن ولوج سن المراهقة, وهناك من التحقت بالمدرسة في سن ٍ متأخرة ، فجاءت إلى المتوسطة و قد تجاوزت سن السابعة عشرة ، فأصبحت أكثر جاذبية ً لهؤلاء الأولاد الذكور المراهقين الذين بدأت عيونهم تتفتح عن استدارة كل شيء لدى البنات .
عرف الأستاذ " شوكت " بكل الخصال الحميدة ما عادا حبه الشره للتدخين، خصوصا ً سجائر " ريم " الغالية و المشهورة في ذلك الوقت, وتقتيره الشديد الذي كان يعتبره وسطية بين الغل والبسط حسب فهمه للقرآن ..عاهدا ً نفسه و أهله و وطنه أنه في حال انتصار " مصر " على إسرائيل سيوقف على التدخين و هو ما فعله حين رأى عبر شاشة التلفزيون علم مصر يرفع على أرض سيناء .
حبه للتدخين لم يكن حالا ً طبيعية جاءت عبر جلسات مع رفاق السوء و لكنها كانت رد فعل سلبي على الهزيمة، و حين كان يسأله العربي الذي أحبه كثيرا ً:
أستاذ، أنت متديّن، فكيف تدخّن ؟
كان يجيبه و هو غير راض عن نفسه :
من رأى مثلي ما حدث لإبني في حرب 1967، الذي استشهد دون أن يطلق رصاصة واحدة بسبب الخيانة، يلجأ إلى غير هذا ولكن أحمد الله ، فقد أراد بي خيرا ً .
يتوقف لحظة ليعيد ترتيب أفكاره بعيدا ً عن سنوات الحرب, ثم يقول :
بكل تأكيد سيأتي اليوم الذي أقلع فيه عن التدخين .
و جاء اليوم الحق و تخلى الأستاذ شوكت عن التدخين، و اكتملت صورته الجميلة في نظر "العربي" الذي كان يشتري خلسة ً كل أنواع السجائر، ليدخنها دون أن يدخلها إلى صدره ، بهدف اكتشافها ، و حين تخلى عنها الأستاذ شوكت قناعة و تأثرا بالنصر ، تركها " العربي " تقليدا ً لأستاذه، و ابتعد عنها بشكل نهائي مدى الحياة .
أيام حرب أكتوبر التي كانت جزءا ً غيرت من ناحية التأثير من أيام دراسية قضاها العربي بين زمنين ، من الصبح حتى العصر في المدرسة وفي المساء بقريته ، التي أصبحت تعج بالحركة ليلا ً على غير العادة .. فالحرب جعلت الساعات أطول و أكثر تأثيرا ً على مجرى الحياة، وعلت الهمم و كثر الافتخار ببسالة الجندي العربي، المصري، السوري .. الخ .
كل أهل القرية العتيقة كانوا على قلب رجل واحد ، مؤمنين أن حرب أكتوبر بقيادة مصرية و جيش مصري و دعم عربي ، إلا شخص واحد كان يراها حرب عربية, للمصريين دور بارز فيها لكنه ليس الأهم ، انطلاقا ً من أن المشاركة العربية الواسعة و الدعم العربي هما اللذان ساهما في النصر .. إنه " بده عيشوش " الذي كان يتحدث داخل القرية العتيقة معلنا ً انتصار العرب ، و من ضمنهم المصريين ، رافضا ً الحديث عن انتصار مصري لصالح العرب .
كانت أقواله تلك مثل خانة سوداء على جسد أبيض في مكان خفي ، لا تفسد جماله لكنها تهز صورته إن كشف للناظرين، و مثل الشجرة الخبيثة التي اجتثت وما لها من قرار ، و مثل قطرة ماء مالحة في نهر ماء عذب ... كلمات لا تفسد طعم الانتصار ، و لا تقلل من قيمته لكنها تحدث نوعا ً من الاضطراب لدى الأطفال ، صحيح أن الذين كانوا يستمعون إليه منذ ست سنوات خلت صار في مقدورهم التمييز الآن ، لكن هذا لا يحول دون التأثير على الأقل سنا .
.. إذا تمصّرت خرّبت
استند " بدّه عيشوش " في تعليقاته عن الحرب، على هزيمة 1967 و اعتبرها هي المرجعية للحكم على انتصار أكتوبر قائلا ً :
لقد هزم المصريون حين حاربوا وحدهم ، و انتصروا اليوم لأن العرب معهم ،و الأصح ليس القول القائل : إذا عربت خربت و إنما إذا مصرت خربت .
أطلق كلماته ثم ولى مدبرا ً ، محاولا ً فيها التميز عن كل سكان القرية , غير أن كلماته تلك كانت مزعجة لمعظم السكان القرية ، خاصة العم مفتاح , الذي ما أن وصلت الكلمات السابقة إلى مسامعه حتى أتى باحثا ً عن " بده عيشوش " مهددا ً بقتله إلا إن لم يتوقف على تسميم أفكار الأطفال ، غير معترف بالتقسيمات العربية على أساس الأوطان ، و لا التقليل مما يقوم به المصريون و لا مساهمات العرب .
حين لم يجده " العم مفتاح " في مجلس كبار رجال القرية أرسل إليه من يطلب حضوره .. جاءه بده عيشوش مسرعا ً خائفا، مطأطأ الرأس، وعند وقوفه بين يديه, رفع رأسه , ثم سأله, وكأنه ٍ غير مبال ٍ بالتهديدات التي أطلقها العم مفتاح معبرا ً عن رفضه و عدم رضاه ومعرباً عن استيائه من الدعوات المتكررة لحلقات نقاش لا يود المشاركة فيها قائلا ً :
واش اجرى " ماذا حدث " غير علا ما كانش تعيطلي " دون أي سبب تناديني "
أنا حذرتك مرارا ً من الحديث مع الأطفال حول قضايا أكبر من سنهم ، فلماذا لم تلتزم ؟
لا أعلمهم الفساد حتى تنهرني ، و ليس هناك اتفاقا ً حول قضية معينة ، و أنت يا سي مفتاح جسمك هنا ، و قلبك هناك .
ماذا تقصد ؟ أفصح عما تعنيه ؟
أقصد أنك في الجزائر و قلبك في مصر .
استشاط العم مفتاح غضبا ً و تساءل داخله : كيف لما مثل هذا أن يحدثني عن الوطن ، و أنا الذي كنت أضحي من أجله في فرنسا، الوقت الذي كان فيه " بده عيشوش " يزرع أرضه .
صهوة جواد الانتصار
في لحظة الانشغال بالأسئلة للذات و بالإجابات الخاصة التي تظل حبيسة صدر العم مفتاح ، يعتقد " بده عيشوش " أنه تمكن من إلزامه الصمت، فيضيف قائلا ً :
لماذا نفتخر بمصر ,و لا نفتخر بالجزائر ، و هي صاحبة أعظم ثورة ؟
لا تتحدث عن الوطنية ، لأن كل الحاضرين يعرفون من أنا و من أنت . ثم أن ذكر مصر فخرا ً أو الجزائر ، يعني ذكر كل العرب ، و هذا لا يمكن أن تعرفه لأنه أكبر من عقلك يا واحد " السوفاج ", متوحش, !
عندما يأتي العم مفتاح على عبارة " السوفاج " في أحاديثه مع بده عيشوش يدرك في الحين كما يدرك الحاضرون أيضا ً أن الغضب بلغ أقصاه عند العم مفتاح ، و يحاول الجميع التزام الصمت ، أو مناقشة موضوع آخر ، و بالفعل يتمكنون من إخماد الفتنة ، التي لا تنتهي حتى يسكت الغضب عنه .
يعرف العم مفتاح من تجارب سابقة أن " بده عيشوش " ليس رجلا ً سهلا , قوته في ضعفه ، ضعفه الجسدي ، و قوته أيضا ً في وضعه داخل القرية ، حيث كان يردد دائما ً:
لماذا تحرقوني ( تحتقروني ) مع أنني صاحب حق ؟
هذه المرة لم يوجه سؤاله ، باكيا ً شاكيا ً كعادته ، لأنه في قرارة نفسه يعرف مكمن أخطائه ، كما أنه دون أن يعترف للجميع ، كان سعيدا ً تلك الأيام الجميلة من حرب أكتوبر و قد أسر بذلك ل " العربي " حين ألتقاه بعد ساعة ٍ قائلا ً :
أنا أيضا ً سعيد بحرب أكتوبر ، و هي عمل مصري عظيم لكن لا أستطيع الاعتراف بذلك أمام عمك ، حتى لا ينتصر علي .
و يسأله العربي مرة أخرى :
هل هذا يعني أن المصريين في حربهم ضد إسرائيل لم يعودوا في نظرك استعمارا ً للجزائر وللعرب ؟
لا أقصد هذا ، فهم مهما فعلوا سيظلون في نظري استعمارا ً ما أن يحلون في بلد ٍ حتى ينهبون خياراته .
لكنهم عرب ، يا سي بده !
أعرف أنهم عرب و لذلك يعتبرون أنفسهم أصحاب حق في كل دولة عربية يحلون فيها .
ما كان " بده عيشوش " يدرك و هو يرد على أسئلة العربي ، أن الزمن غيّر في الطفل الذي كان يستمع إليه منذ ست سنوات مضت .. هو الآن أكبر سنا ً و أكثر نضجا و أوسع معرفة ً من الماضي ، و أن حديثه المؤثر أصبح مجرد تسلية ، و عودة إلى ماض ٍ تغيرت فيه كل الدنيا ، و بقي " بده عيشوش " ثابتا ً ، لا يزال متأثرا ً بحكم ٍ ظالم أفرزه الصراع بين أهل المدينة ، خصوصا ً سكان العاصمة ذوي الثقافة الفرنكوفونية و أولئك الذين اكتشفوا فجأة ً أنهم ليسوا عربا ً ، و أن الجزائر وطن ضيق لا يسع في خيراته و تاريخه و ثقافته الجميع .
تغير تاريخ العرب، و معه تغيرت المواقف، و ظل " بده عيشوش " وفيا ً لزرع العاصمة في القرية العتيقة، لكن ليس في مقدوره كشفه، لأنه لا يملك ماء الفكر الناضج .. ظل متأثرا ً بالهزيمة ، مثل كثير من العرب الآخرين ، دون محاولة المشاركة و لأنه نأى بنفسه بعيدا ً.
الحياة سارت إلى الأمام ، تغيرت, لكن بده عيشوش عنصر واحد فيها من القرية العتيقة ظل متشبثا ًبفكرة التحذير من المصريين , أما العربي فقد ترك الحذر على الزقاق المؤدي إلى بيت " بده عيشوش ، راكبا ً بعدها صهوة جواد عمه، فالوصية لمن يرثها، و هو لم يرث أفكار بده بعد حقائق النصر في حرب أكتوبر .
الحلقة المقبلة
مصريون مسلمون وأقباط في "تقرّت"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.