انتظر"حمّه الصغير بخوف شديد ما سيدلي به بده عيشوش، وكأنه في يوم الزينة حين حشر الناس ضحى، لم يكن هناك سحرة ولا فرعون يطاع ويرجى ثوابه أو يخشى عقابه، ولكن سيفلح من يفوز بجذب قلوب الشباب والأطفال. وكالذي يملك حقائق الغيبيات و ميتافيزيقا الأشياء وجدلية الحياة، أو كالذي يدرك أن لا علم لغيره بما أوتي من أخبار الأولين، استجمع بده عيشوش قوته في كلمات بدت للجالسين والواقفين أمرا,حديثا غريبا، أمنية خاصة به، حلما راوده: لقد رحل بن بله.. انتهت أسطورة الزعامة سأله حمه الصغير متعجبا: هل مات بن بله؟! لا .. إنما جاء الصُحاح، ولما إجي صاحب التمر للسوق يرحل صاحب البلوط لم يكن هذا الخبر يعني شيئا بالنسبة للشباب والأطفال الملتفين حوله، الناظرين لوجه حمّه الصغير الممتقع حزنا.. فهو وحده كان حزينا لهذا الخبر، ذلك لأن ذهابه بعد يومين إلى "جامعة" للتبليغ عن بده عيشوش لم يعد له جدوى. اهتمام بده عيشوش بالخبر جعل الصبية يرقبون حركات معلمهم، وجامعهم.. وهاهو يضحك ملء شدقيه، ويردد أمامهم : الجزائر رجعت حرة من جديد سأله عبد الرحمن: وهل فرنسا رحلت اليوم فقط؟! لا يا عبد الرحمن.. ولكن الجماعة – يقصد الانقلابيين- سيقضون على الاستعمار الجديد استغرب الحاضرون من الشباب والأطفال تعليق بده عيشوش.. فكلمة الاستعمار بالنسبة لهم تعني فرنسا فقط، وقد تعلموا هذا في مدرسة القرية عندما جلس قليل منهم على الحصير – المصنوع من سعف النخيل و حلفاء الجلفة – وأكثرهم على الأرض حيث التراب والغبار المتصاعد، كلما همّ بعضهم بنفضه أو كنسه زادت مساحته اتساعا، ومن قريب بمحاذاة الجدران المشقوقة تزعجهم الخنافس طورا أو ترعبهم العقارب إذا أوشك الربيع عن الرحيل، فيضطرون إلى الاستنجاد بما حفظوه من آيات يتلونها على العقارب حتى لا تؤذيهم إذا عجزوا عن قتلها، و كانوا إذا سألوا معلمهم عن الاستعمار قال لهم: فرنسا فيعلق أحدهم : نحن الآن في عهد الاستقلال . فيرد المدرس : حين تجلسون على الكراسي ويصبح لكل واحد منكم مقعدا، وكتبا وكراريس خاصة غير مشتركة مع زميله, وحين تخلعون هذه الأثواب الرثة, ويهرب منكم القمل لنظافتكم, وتغسلون وجوهكم كل يوم بالماء والصابون, وحين تجدون كل يوم وجبة غداء كاملة,عندها فقط تقولون : نحن في عهد الاستقلال. كان المعلم - المدرس - متأثرا وهو يتحدث للتلاميذ, لأنه جاء في يومه ذاك, ولم يترك في بيته ما يسد رمق أبنائه.. لم يكن يملك نخيلا ولا أغناما, ولا حتى معزة واحدة تدرّ عليه الحليب على عادة أهل القرية العتيقة.. كان أفقر سكانها, رأسماله حفظ القرآن, ولطالما جلس إلى بده عيشوش شاكيا آلامه, وكان هذا الأخير يرد عليه : قريب تزول هذه الغمة.. أصبر نحن في بداية الاستقلال علاقة روحية ربطت بين المعلم" بشير" و بده عيشوش..كان التلاميذ على علم بها, وبمجرد أن سمعوا بعبارة " الاستعمار الجديد"عادت إلى أذهانهم العبارات التي كان معلمهم بشير يرددها على أسماعهم, خصوصا " أحمد " البالغ من العمر أربعة عشرة سنة, الذي حفظ القرآن في سن مبكرة, والتحق بالمدرسة مع الأقل منه سنا .. ففي فصل دراسي واحد اجتمعت كل الأعمار من سن السادسة حتى الخامسة عشر, بنات وذكور في تجمع غير منظم .. عندها كانت "الجزائر- الدولة", تحاول أن تلحق بالتعليم كل الأجيال دفعة واحدة, وأثرت السنوات الأولى عن العلاقة بين الأطفال الصغار والمرهقين في بعض القرى, وأحيانا أدت إلى اهتزاز القيم في تلك القرى, لكن هذا كان يتم خلسة . سأل أحمد : ما الفرق يا سي بده بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار الجديد ؟ اندهش بده لهذا السؤال , لأنه لم يتوعد مثل هذا الأسلوب.. مهمته كانت دائما سرد قصصه وآرائه ونظرياته دون تفسير, وعلى شباب القرية وأطفالها أن يرددوها أيام وليالي فيما بينهم .غير أن اندهاشه زال حين أحس بقدرته على الإجابة التي جاءت من مكان آخر بعيدا عن قريته بمسافة تجاوزت الخمس مئة كيلو متر, فقد روى له منذ يومين قريبه " حشاني " الساكن في العاصمة خبرا, تخمّر لديه, وأصبح مسلّمة, تحرك في أعماقه ثم خرج إجابة واعية: الاستعمار الجديد .. هو كل من يريد الاستيلاء على خيرات الجزائر وهل هناك أحد غيرنا نحن الشعب الجزائري؟ سأل أحمد كل الذين جاءوا من خارج البلاد وحين حاول أحمد أن يطرح سؤالا آخر, أوقفه بده عيشوش عن الكلام مخافة من وعيه الظاهر, ذلك لأن"حمّه الصغير" همّ بالتدخّل, فأوجس منه بده عيشوش خيفة, ناهيك عل أنه لا يستطيع أن يذكر أمامه كل ما يدور بخلده, وليقطع الطريق أمامه قال: الأفضل أن نذهب إلى البيت, ونتابع الأخبار . زعيم العرب.. وسامية جمال تحرك بده نحو بيته، و حين وضع خطواته الأولى في الزقاق العتيق، حيث لم تعد تفصله عن بيته إلا بضع أمتار، سمع "العربي"يناديه : عم " بده ": لم أفهم ما تقول، و قد يسألنا المعلم غدا ًعن الاستعمار الجديد. نظر إليه بده مبتسما ً ثم قال: " العربي " هذه موضوع أكبر منك صمت " العربي "، لكن لم يكن مقتنعا ً بما يقول بده، تسمر في مكانه و لم يتحرك.. همّ " بده" بدخول بيته، ثم التفت إلى الوراء فوجده لا يزال واقفا، اقترب منه، وقال : أنت طفل ذكي، و سأقول لك شيئا، يجب ألا تقوله لأحد. حاضر الاستعمار الجديد هو مصر ولأول مرة ٍ يسمع " العربي"بمصر، فهذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره الست سنوات، ما كان يعرف من العالم إلا قريته و مدينة"جامعة" البعيدة عنها بعشر كيلومترات، أو الجزائر العاصمة، لكنه كان يسمع بزعيم اسمه" جمال عبد الناصر"، لذلك سأله: من هي مصر ؟ سأله بده محاولا ًالتخلص منه: أتسمع بالرئيس جمال عبد الناصر؟ اسمع به، لقد قال والدي أنه زعيم العرب، و يحبه أكثر مما يحب سامية جمال, التي شاهد أحد أفلامها حين كان يعمل في باريس . سأله بده مستغربا: و لكن مما عرفت أن والدك شاهد فيلما ً لسامية جمال لقد استرقت السمع حين كان يروي لأحد أصدقائه حين بات عندنا الليلة البارحة، و لكن ما علاقة عبد الناصر بمصر، و أبي يقول : أنه زعيم العرب ! أليست دولته العرب؟ لا ، العرب دول عديدة منها الجزائر و مصر، و المهم أن تعرف يا" العربي" أن المصريين جاءوا لاحتلال الجزائر بعد فرنسا . يعني يا عم " بده "، نحن الآن تحت الاستعمار المصري . في بدايته ، فحين جاء المصريون إلى بلادنا منذ ثلاث سنوات، قالوا : " الجزائر تكفينا وتكفيكم"، و لم يقولوا الجزائر تكفيكم و تكفينا، أنت لا تزال صغيرا لكن عليك أن تحذر من مصر. حين دلف" بده عيشوش" إلى بيته، القديم، الطيني، الكثير الشقوق , الواقع بين زقاقين، وملتصق بما في البيوت التي تعود إلى عقود ٍ من الزمن، بل إلى مئات السنين حسب روايات أهل القرية، ما كان يعرف أنه قد وضع هما ً ثقيلا ً على عقل "العربي" وعلى قلبه أيضا ً ، فالتحذير الجازم من الاستعمار الجديد، أعاد إلى ذاكرة الطفل تلك المشاهد المروعة التي تحدث عنها أبوه و عمه، و معظم أفراد أسرته، مشاهد حفرت في نفسه أخدودا ً من أهوالها، و نجاة أصحابها في حالات ٍ كثيرة ٍ كانت أقرب إلى معجزات تفوق قدرة العقل البشري . مصر ليست عقربا ولا أفعى ردد العربي, وهو يتجه صوبا ً إلى البيت الواقع في منطقة وسطى داخل القرية.. عند بداية الانحدار، و بداية الارتفاع " احذر مصر ، و تساءل: كيف لي أن أحذرها إذا كنت لا أعرفها؟ وواصل حديثه الداخلي, قائلا : يمكن لي أن أحذر العقارب فأنا أعرفها و مصر ليست عقربا ً، و يمكن لي أن أحذر الثعبان الذي لم أره إلا في حالات ٍ قليلة ٍ يطوف أرجاء بيتنا, أنواعه كثيرة لم أعرف منها إلا" زريق " و مصر ليست ثعبانا ً، و يمكن لي أن أحذر الأفعى العمياء التي يتحدث عنها السكان و مصر ليست أفعى .. و يمكن أن أحذر الكلب الذي كاد أن يعضني منذ أيام ٍ خلت و مصر ليست كلباً, ويمكن لي أن أحذر الكبش أو التيس الذي يهاجمني كلما اقتربت من حظيرة الماشية التي هي جزء من بيتنا، و مصر ليست كبشا ً أو تيسا ً . ردد "العربي" أسماء كل الكائنات و الأشياء التي يحذرها، حتى أشواك النخيل و الورد، والحجارة، و لعب الطعام الفارغة، و الزجاجات المكسورة و المسامير، و لم يجد مصر من بينها .. فهو لا يعرفها و لم يسمع بها، و إن كان قد سمع برئيسها " جمال عبد الناصر" ، وحين وصل إلى البيت، و كان عمه مفتاح و أبوه عمر يجلسان إلى طبق الطعام المملوء بالبربوشة " الكسكسي"، و فيه عثرا على قطع زجاجة وقعت أثناء الطبخ دون أن تنتبه زوجة أبيه" وردة" لذلك . جلس " العربي" إلى طبق الطعام، غير ناظر ٍ إلى ما فيه، فهو سيأكل مهما كان نوع الأكل دون إبداء أي تعليق، فالغالب هو أن تكون بربوشة، و الغالب أكثر أنها"المرشومة " أو " البندراق.. أنهما وجبتان رئيستان لكل سكان القرية، مما يعطيها طابع الثكنة العسكرية. و حين همّ بأخذ اللقمة الأولى، وجد عمّه يوقفه عن الأكل، و أعتقد أن يسأله عن وجوده خارج البيت في الساعة الماضية، فتوجس خيفة, و لم يسأل لماذا ؟ و ما كان يجرؤ على مثل ذلك وإذا بوالده عمر ينادي زوجته: يا وردة ردت وردة: جاية أنت عميا، ما شفتيش الزجاج المكسور في البربوشة كانت لحظة محرجة لزوجة أبيه" وردة "، التي أحبها مثل أمه أو أكثر، و هي بادلته نفس الحب، رغم أنه تسبب لها عدة مرات ٍ في الأذى من والده لدرجة أنه ضربها بسببه .. و لم ترد " وردة" و لكن والده واصل كلامه مخاطبا زوجته: يلعن والديك.. يا بنت الكلب ، يا واحدة الديقولاس سلطة العم "مفتاح" امتقع لون "وردة "، و تغيّرت ملامحها، و بدت و هي القمحية اللون أقرب في إلى السواد، ولم يؤثر فيها الضرب المتكرر خلال السنوات الماضية مثلما أثر فيها شتم زوجها لوالدها، مع أنها كانت ابنة خاله . لقد تزوجها عمر بعد أن طلق زوجه الأولى بسنوات، و كانت هي الأخرى مطلقة، و بدا عمر كأنه فاعل خير، و نسي أنه هو أيضا ً قد سبق له الزواج و أن له ابنا ً، و أنجبت منه عدة أولاد توفوا جميعهم و بقيت تخدمه مع ابنه العربي، الذي كان طفلا ً مزعجا ً دائما، و مدلّعا ً بالأسلوب المتعارف عليه.. هناك في القرية العتيقة . واصل والده حديثه مظهرا ًعزما وحزما ًأمام أخيه الأكثر منه شراسة ً وظلما ً للنساء، و خوفا ً من أن يردد على مسامعه عبارة " طلقها " التي هي قرار ملزم إذا صدر منه عليه تنفيذه دون إبداء الأسباب. جيبينا احضري لنا طبقا آخر، و إذا أخلاصت انتهت البربوشة ديريلنا غداء آخر. ردت وردة والدموع تسبقها: لا، مازال كاين، ذرك نجيبلك سأحضر لكم حالا لم تغب إلا دقائق ثم عادت بطبق ٍ مملوء، و عاد الجميع إلى الأكل, و فجأة ً احتاج العم مفتاح إلى الماء، فنداها زوجها من جديد: يا وه نعم وين الماء يعطيك لعما " العمى " شدة والده على زوجته تخفي وراءها رقة، كان يسمعها في بعض عباراته حين يجن الليل ، ويعم السواد, ويتأكد من أن ابنه قد نام، و من كثرة خوفه عليها، ليس من نفسه، و لكن من أخيه كان يظهر القسوة .. القسوة هنا حماية لها من القرار الجائر و الجاهز دائما ً.. وردة تعرف ذلك جيدا ً ، لكنها ملت من سلطة رجلين في البيت بالإضافة إلى سلطة أمهما و إزعاج الربيب، لكن ما جعلها تحتضن الصبر، و تتحرك في فضائه لدرجة تحولت الذات فيها إلى موضوع, هو خوفها من الطلاق مرة ً أخرى. قلما تتحدث وردة عن تجربة زواجها الأولى، و هذا على عكس والده الذي كان دائما يردد على مسامع زوجته، احترام و طاعة و حب زوجته الأولى، و إنه لو كان الأمر بيده ما طلقها، غير أنه كثيرا ما يبدأ حديثه بالندم على ضياع عمره مع زوجته الأولى التي لم يكن يراها جميلة ومع الحالية التي لا يراها جميلة ً أيضا، و إن كان لا ينكر أنها أحسن منها بقليل, و يعتبر نفسه رجلا ً وسيما، و هو فعلا ً يحمل جمالا ً قيل أنه كان في شبابه أخاذا, ًوطاغياً, و جذاباً. الحلقة المقبلة البحث عن مصر في الأمكنة والعصور.. والليالي الحالكات