كل يوم هي في شأن، تتحرك داخل الأفكار، و تكبر الأشواق فيها، و يزيد عدد الأحبة داخلها، هي الرفض في زمن الخنوع، و هي الفكر عند تراجعه إلى نقطة البدء، حيث كانت مدينتها في الماضي البعيد عاصمة لكل البلاد و صارت اليوم عاصمة الشرق الجزائري فقط . بنيت وكبرت ثم توسعت و ازداد عدد طلابها، و ظلت ملبية لنداء الصوت القادم من بعيد, منذ بدايات نشأتها الأولى، القائل : - يا أيتها الجامعة العظيمة بنت المدينة العظيمة، لقد خلدتك الأسانيد، فلتحافظي على عهدك لدم الصحابة المعجون بتربتك لبّت النداء التاريخي طوعا, متجاوزة لما في أحشاء المدينة من أمم أفل نجمها بدخول الإسلام و حلول العربية، زادها حضور الروح وانتساب عبد الحميد بن باديس للمدينة فخرا ً .. إنها جامعة قسنطينة . في تلك الجامعة عرف العربي معنى الحياة و معاني الفكر و معنى الحب ، و عرف العروبة في سن ٍ مبكرة ، أنها ليست حديثا ً يفترى , إنما هي الحق و العطاء و التاريخ بكل أبعاده ، الحاضر منه و المستقبل . في أيام الدراسة الأولى شغلته الحرية المطلقة عما سواها ، كانت صدمة له و لغيره من الطلبة ، خاصة ً الإناث ، الكل عار ٍ أمام الذات ، فلا سلطة للوالدين، و لا للأسرة و حتى الجيران ، الذين كانوا يرقبون حركات البنات الذاهبات إلى الجامعات و العائدات منها ، و مثلما يذوب أهل القرى في أهل المدن عند النزوح أو الهجرة ، ذاب الطلبة الجدد في جامعة قسنطينة ، و تكيفوا بسرعة مع أجواء الحرية ، و كان أكثرهم قد اتخذ طريقه غرقا حيث الثورة عن المثل و القيم ، و الاستجابة الفورية إلى صوت الجنس الطاغي في سن المراهقة . لم يكن ذك طريق العربي سيرا ً، و إن كان قد تكيف مع أجوائه ، فبدا كأنه شاهد على ما حدث من صراعات ٍ بين الطلبة ، تحركها في الظاهر القيم في الباطن حضور الحزب حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان يمسك بكل الخيوط ، مكرسا ً أساليب الصراع ، مرخيا ً الحبل تارة ً لأهل اليمين ، و تارة ً أخرى لأهل الشمال ، حتى إذا ما تمكن أحد الأطراف من الظهور ،وأظهرت له الحياة الجامعية زخرفها، أتاها أمر الحزب، ليلا ً أو نهارا ً.. في البداية يكون متناسبا ً مع الجو الثقافي والفكري للجامعة متساويا ً مع الفعل ، و في النهاية إذا ما رفض الطلاب القرارات و الأوامر ، أخذوا أحادي و زرافات ، بعد طول جهد لتثنيهم عن أفعالهم ، إلى المتابعة الدائمة ، و قلما يكون القرار قاسيا ً . في تلك الأجواء حيث النقاش الواسع بين كل التيارات كان للعربي حضور.. لقد تفجرت لديه أساليب الرفض المختلفة التي اكتنزها لسنوات ، خصوصا ً سنوات الطفولة ، حيث الحرمان من حرية التعبير ، و القمع المتواصل داخل الأسرة ، ربما كان الآخرون أمثاله من الطلبة ينطلقون في التعبير داخل الجامعة من النظام التربوي في المدن أو حتى القرى ، لكنه كان يعبر عن الأسلوب التربوي داخل الأسرة، بل هو نتاج شخص واحد فيها، منذ أن أصبح يتحرك داخل أجزاء المجتمع الرجالي بعيدا ً عن حضن الأم و حبها و جاذبيتها ، فأصر على أن يكون رجلا ً في سن ٍ مبكرة ، و قد جاءت الفرصة الآن ليظهرها فعلا ً مغيرا ً و مؤثرا ً في زملائه . علاقة العربي بالحرية خليط من عدة تصورات ، فهي ليست علاقة ذات بموضوع ، و لكنها تدخل قسري في حياة الآخرين و ما كانت قوته البدنية هي المؤثرة، و لكن صوته ، و مفردات اللغة العربية عنده التي تأتيه طيعة ، في الوقت الذي يسهر غيره من أجل إتقانها ويختصمون للتأكيد على هذه العبارة أو تلك.. كان حكما ً و نبراسا ً للذين سبقوه و للذين جاءوا بعده أيضا ً .. الحرية عنده لا تلتزم بحدود ، فالوطن في مواجهة الجامعة ، و القوم في مواجهة الوطن ، و الأمة في مواجهة القوم.. رؤيته للحياة الغارقة في عالم المثل تعطيه دفعاً للحركة أو تصعد بها نفسه نحو السماء فيضيق منها صدره ، حين يتخيل إليه تحقيق وحدة إسلامية من طنجه إلى جاكرتا كما قرأ في كتب "مالك بن نبي" . كان الطلبة يقبلون عليه أو يدبرون حسب الحاجة إليه و حسب التأثر بالأحداث أيضا ً ، وهو ما يجعله بين الفرح أو الترح , و هما على طرفي نقيض ، و لطالما تساءل : هل من شريك ٍ يعول عليه في الإقبال دون الإدبار ؟! غير أن سؤاله لا يطرح من اجل تحصيل إجابته ، أو حتى يكلف نفسه عناء البحث عنها لاعتقاده الراسخ بمدى صواب ما يفعل ، و ربما نما لديه شعور بأهمية أفعاله و أفكاره ، ثم تحول ذلك إلى غرور ، حيث دنت منه الطالبات بألوان مختلفة، مثل فراشات الربيع اللائى حرقن بناره حين جاءت باحثات عن اللذة فعدن من حيث جئن محملات ٍ بعذاب الضمير و بلسعات ٍ حارقة نجون منها ، لسعات الفكر ، ذلك لأن المتعة لدى العربي تبدأ من الفكر أولا ً ، و تعلو درجتها حتى تصل بالعقل إلى درجة الشبق , تظهر في إتقان العربية والتعبير بها ، ووضعها في حال من المواجهة الدائمة ضد الفرنسية و العامية الجزائرية . لم يكن " العربي " و هو يركب سفينة بحر اللغة العربية ، محاولا ً النجاة من بحر الثقافة الفرنكفونية السائدة صاحب حيلة أو اختيار ، و لكنه في دفاع عن النفس لكونه يرى العربية هي الذات و الموضوع ، الحاضر و المستقبل ، لهذا كان يصر على استعمال مفرداتها في خطابه اليومي .. هنالك الولاية لها و لا لأحد غيرها ، عاشق متيم ، ولهان بها ، مع أن المعجم اللغوي عنده محدود ، لكن إن قارن نفسه بزملائه رآه مطلقا ً غير محدود ، و على الذين يرفضون ذلك أن يأتوا ببعض ما عنده.. يراهم عاجزين حتى لو كان بعضهم لبعض ظهيرا ً ، ما أعجزه أحدهم يوما ً حتى طلبة معهد الآداب الذين كانوا يبدعون كتابة و يعجزون نطقا ً.. و في تلك الجامعة التي كانت القوة فيها للصوت الأعلى ,كان الأكثر تأثيرا ً ما دام يملك من قوة التأثير على طلبة- وهو ما عجز عنه غيره- فها هو يقودهم نحو الإضرابات فيستجيبون مستسلمين لذلك التأثير. حمدان العراقي.. وعسكر المصري لغته الناطقة ، الحية ، و صوته الجهوري الجذاب ، و جرأته الواضحة ، جميعها جعلته محل اهتمام من الأساتذة المشارقة، وهم : عراقي شيوعي قديم، هارب من نظام حزب البعث ، مبديا ً السخط عنه في حدود ضيقة ، اسمه "حمدان" يتقدمه الخوف و يعبر عنه ، لأن الدكتور" زهير" الناقل كالهدهد للأخبار- مع الاختلاف في النقل- للسلطات العراقية يتربص به الدوائر ، فيرى فيه النظام حاضرا ً قائما ً. و أستاذ سوري خريج الاتحاد السوفيتي يدرس منهجه البحث العلمي يرى نفسه أكبر من الذين حوله ، بل أكبر من كل الأساتذة في باقي الجامعات العربية .. الدكتور " عبد القادر " الذي يرى نفسه على المستوى الإنساني أكبر من سوريا نفسها . بل أكبر مما يحتويه وطن ، فهو ابن العالم أجمع ، و نقطة البدء عنده من الاتحاد السوفيتي ، كان يرى في تلميذه " العربي" كائنا ً قابلا ً للتغيير، و يمكن إزالة الشوائب منه ، طالب يحمل أفكارأ ثورية لكنه غير ممنهج ، و تلك مشكلته ، و هذه النقطة يلتقي فيها مع أستاذ الرياضيات المصري الدكتور "عسكر" ، لكنه يرى الموقع النهائي للطالب " العربي " غير ذاك الذي يراه زميله الدكتور " عبد القادر " ، و لأنه ناصري ، فقد كان يرى أن نهاية المطاف لهذا الشاب المقبل على الحياة و المؤثر في الطلبة ، يجب أن تكون قومية ، ناصرية ، ذات هوى مصري .. يراه طينة قابلة للاستواء و النفخ فيها من روح مصر . نظرة الدكتور عسكر ، يختلف معها الدكتور الخولي، أستاذ علم الاجتماع و هو مصري أيضا ً ، و يختلف معها أيضا ً الدكتور "فريد" أستاذ التاريخ المعاصر ، و لكل منهما أسبابه الخاصة ، ففي الوقت الذي يرى فيه الدكتور الخولي أن العربي طالب جيد يعول عليه كباحث شريطة أن يكون بعيدا ً عن الإيديولوجيا، أي يكون عربيا ً فقط و ليس قومياً, مغروسا في الجزائر ، يرى الدكتور فريد ، و هو مصري أيضا ينتمي لحزب الوفد( التاريخي) ، أن الأفضل له أن يبتعد عن خزعبلات القومية العربية و بالذات الناصرية، و بما أنه كان أستاذ تاريخ فقد كان يركز على تجارب العرب المعاصرة ، التي آلت بنا إلى الهزيمة محملا ً جمال عبد الناصر كل ما لحق بالعرب من هزائم ، الأمر الذي جعله مكروها ً من معظم الأساتذة و الطلبة الجزائريين ، لأن شهادته و أقواله تتضارب مع القناعة الراسخة لبطولة و قومية عبد الناصر ، و مما زاد في كراهيته هو ذكره للرئيس السادات بالخير . على أولئك جميعا ً تتلمذ العربي خلال سنوات الجامعة ، و على غيرهم ، و هم كثر, كما تتلمذ على الأساتذة الجزائريين ، خصوصا "سيساوي" ذلك الأستاذ الذي تراه محملا ً بالأفكار الكبرى و القضايا الشائكة, مقتسما ً رغيفه مع الطلبة ، فاتحا ً بيته لهم و ناصحا ً و مشاركا ً ومعلما ً، ذو قلب ٍ مملوء ٍ بالخير و العطاء .. محب للأجيال ، كاسر للحواجز بين الطبقات ، مقتنعا ً بأن ثروة الجزائر تكفي الجميع ، و أننا في مرحلة " الغز"- الأكل- فليسعى الجميع إلى أخذ حقوقهم بفكرهم و عملهم و بالحيلة و الدهاء عندما تدعو الضرورة لذلك. سيساوي أستاذ التاريخ العثماني أحي في العربي وصية بدّه عيشوش، وكان يمحو في المساء ما رسمه الأساتذة المشارقة على ذهن العربي في الصباح, و يأتي على الغرس قبل مكوثه في الأرض فيحول دون نباته، و يترك أرضه صلدا، وما الأساتذة المشارقة على علم ٍ بذلك إلا حين أصبح رفض العربي لكل أطروحاتهم ظاهرا و ما تجرؤا على سؤاله ، بل إن منهم من اعتقد أن الأمن يراقبه فغدا مبصرا لأحداث الجامعة عن بعد ، فهل توقف غيره عند هذا الحد ؟! ليسوا سواء ً، منهم العزيز و منهم الذليل المستكين ، منهم الحركي النشط, و منهم الخامل الذي لا يبتعد في خطاه عن التدريس ملتزما ً بالنصوص و المحاضرات و البرامج حتى لو اكتشف فيها من الأخطاء ما يشيب له الولدان ، فالدكتور " محمد "ابن الأسرة الغنية ، و المتخرج في ألمانيا ، أستاذ الجغرافيا يختلف عن " الخولي " أستاذ علم الاجتماع ، و " يسري " الحامل للماجستير في الحقوق و المتزوج من جزائرية يختلف عن الاثنين ، حيث تحركه الحاجة و اللقمة و الموقف و اعتبارات أخرى كثيرة . الدكتور"عمر.. وحياء الأرض ما أكثر الأساتذة المصريين حين تعدهم في جامعة قسنطينة ولكنهم في النائبات قليل ، فهم لم يكونوا كما تراهم مدافعينً عن مصر في ذلك الخطاب اليومي الذي تروجه وسائل الإعلام الرسمية ، و لا ذلك الادعاء المتواصل غير المكلف، بحب مصر ، لأن الذات هنا في حاجتها أكبر من الوطن و تلك طبيعة بشرية . فالإنسان يحب المال حبا جما ، جاء ذلك في تبرير الدكتور " حسين " الذي كان يمسك حذاءه بسلك رقيق بعد أن تمزق ، مبررا ً ذلك حين سئل ذات مرة عن السبب : ورائي عائلة يتجاوز أفرادها العشرة ، فكيف لي أن أهتم بهندامي ؟ و ما كانت تلك الإجابة تمر دون تعليق من الدكتور " محمد " حين سمع بهذا من أصدقائه الجزائريين ، فقد قال : لقد جاء د . حسين بمنكر القول ، و أنه يحسب على مصر بهتانا ً و زورا ً . كان الدكتور " محمد " ،قاهري الإقامة ، منصوري المولد ، آية من آيات الله في الكون ، فهذا الأستاذ المتخرج في جامعة ألمانية ، و الذي أرسل على حساب الجامعة المصرية أيام حكم عبد الناصر ، و في وقت ٍ وجيز أجاد اللغة الألمانية ، و صار يكتب بها ، تجاوز إدراكه و علمه مظاهر طبقات الأرض ، في تدريس مادة الجيولوجيا إلى عمقها ، ربط بين التراب و الإنسان ، فنوع الأرض لديه ، إن كانت طينية أو جيرية ، رملية أو صخرية ، ذات نتوءات و تضاريس متباينة ,هي التي تحدد طبيعة الإنسان و رؤيته ، و تعبيره عما في نفسه .. كان يردد دائما ً : الأرض هي المنبع لكل الأفكار التي نراها ، فهي تحدد المزاج و تؤثر على طبائع البشر ، وتوجه العمران ، و تتحارب مع العوامل الطبيعية الأخرى ، و كلما عرّتها العوامل كيّفت نفسها وسترتها بطبقات أخرى.. الأرض طيبة وطاهرة ، لذلك تستحي أن تظهر عارية أمام الكائنات الأخرى على خلاف البشر الذين يتعرون أمام الآخرين .. و لأنها طيبة فنباتها يأتي طيبا ً . و ما كان هذا القول يمر دون أن يسأله " العربي " و قد تعرف عليه بواسطة أساتذة جزائريين ، منهم الدكتور عبد الكريم ، الرجل الذي سبق عمره الفكري سنه ، فاختصر ما سعى إليه أمثاله في زمن ٍ قليل : دكتور، و لكن هناك أيضا ً الأرض الخبيثة ، التي تنبت نباتا ً خبيثا ً ، فكيف تقول الأرض طيبة ؟ الأرض ليست خبيثة في ذاتها ، و لكنها تغدو كذلك بفعل البشر أما إذا كنت تقصد أن أرضا ً بعينها تنبت و أخرى لا تنبت فذلك لأن الله سبحانه و تعالى قد قسم الأرزاق ، و الأرض ليست مكان الرزق بذاتها، و إن عملنا فيها هو الذي يحقق ذلك ، فعليها نعيش و نحي ، و فيها نموت و منها نبعث ، نحن مجرد أجزاء منها ... معادن ، تعود إلى اصلها بعد الموت ، فقد خلقنا من الطين ، الرزق كما تعرف في السماء و ليس في الأرض. كان الدكتور " محمد " ، يربط الأرض بالهوية و بالعرض و يرى أن النباتات تنمو بفعل الإنسان ، و كذلك الأفكار ، و ضياع الأرض يبدأ عنده بتغيير الأفكار سعيا ً وراء الآخر ، و من هذا المنطلق كان يؤمن بامتداد الأرض العربية ، فالجنس و اللغة و العرف و إنجازات العمران جميعها ذات صلة بالأرض ، لهذا عمل منذ وصوله على تعلم اللغة الفرنسية , و في وقت ٍ وجيز تمكن من فك رموزها و طلاسمها في تخصصه " الجيولوجيا " ثم أتبع ذلك بعد سنين إجادتها نطقا ً، و أصبح طرفا ً أساسياً في الصراع الدائر بين الفرانكفونيين و المعريين ، صار ابن الأرض كما كان يصف نفسه دائما ً ، الابن البار ، تاركا ً الذين يحاولون أن يكون نباتا ً شيطانا ً هنا لأرض هناك بوار الأرض الخضراء المنبتة و المزهرة دائما ً . عبد الناصر.. والأعراب الخوالف الدكتور "محمد" ابن الأرض الجزائرية في زمن الثمانينيات ، وهو ابن الأرض المصرية قبل ذلك وبعده .. هو الحضارة تمشي نشوى بعزة الأولين وعلم الآخرين .. هو المدنية حين تلتقي بين مدارس ثلاث أساسية ، مصرية وألمانية وفرنسية .. هو الساعي إلى الهيجاء بسلاح العلم.. آية تجلت فأثرت، وجذبت وما انحازت ، جذب طلبته فجعلهم – من خلاله- يحبون مصر طوعا لا كرها، رأوها فيه وفي كرمه ونبل أخلاقه ، ما كان يدرس لمعظم الذين يلاقونه كل مساء، لكنهم كانوا يرونه أولى بالسماع من أولئك الأساتذة الذين جمدتهم النصوص وجمدوها . حب الطلبة والأساتذة الجزائريين للدكتور محمد نابع من أمزجتهم التي شكلتها أرضهم ، أحبوه لأنه رجل ينتقد كل الأنظمة بما في ذلك النظامين المصري والجزائري.. أحبوه لمواقفه السياسية ووجدوا ضالتهم فيه ، وكان أقربهم إليه العربي، ومنه عرف أهمية الجغرافيا في حياة الأمم، فهي ليست حدودا قطرية نتقاتل من أجلها كما نفعل نحن العرب، ولكنها أرواح وأمزجة وآثار أفعال نراها باقية بعد الفتوحات حين امتدت الأرض بفعل الهوية والانتماء. لمصر موقع في النفس لدى الدكتور محمد لا ينافسها فيه أحد ، ولكن مع كشف دائم للعورات ، فهو القائل حين دخل بيت الرئيس السادات ذات يوم بعد معاهدة السلام ، وقد جاء مع فريق من العلماء ليجعل مياه النيل تدخل وتخرج في حوض السباحة ب داخل "فيلا" الرئيس الواقعة على ضفاف النيل في الجيزة : - دعوا هذا السقف حتى يسقط عليه ونخلص منه هذا القول كان داخل مصر ، أما خارجها فقد رفض النقد المباشر للرئيس السادات ، وإن كان قد شارك الآخرين وأبصرهم بعيوب ما عرفوها قبل حديثهم معه .. هو ناصري حتى النخاع ، ويرى أن أمانة عبد الناصر ما رعاها العرب حق رعايتها ، وما قدروه يوم أن اشتدت العواصف وتكالبت على مصر الأمم مذكرا دائما بأولئك الخوالف من الأعراب ، الذين رقصوا طربا يوم الهزيمة في عام 1967 ، وأبنائهم الذين هللوا لموته وكبروا معتقدين يقظتهم من كابوس مزعج حرك أرض "بلقيس" محاولا إعادة "سد مأرب" إلى سابق مجده . توجهه الناصري ظل تعبيرا عن حال من الوعي ، فيه الشوق إلى الماضي القريب لكنه لم يتحول إلى دعوة ، وهذا على عكس الدكتور " عسكر " الذي لم يكن على علاقة بالدكتور محمد ، لم يلتقيا أبدا ، لكن كل منهما سمع بالآخر من بعيد ، ربما لأن الدكتور محمد حركته محدودة في إطار "حي القصبة " –وسط مدينة قسنطينة- حيث معهد الجيولوجيا ، في حين حركة الدكتور عسكر مرتبطة بوجوده في الجامعة المركزية ، طريق مطار"عين الباي" ، أو لأن التخصص مختلف ، أو لأن الأصول المصرية من حيث المكان متباعدة ، لذلك جاءت نظرتهما للمسألة المصرية أولا ثم الناصرية ثانيا مختلفة من حيث بلوغ الهدف .. المقدمات واحدة ، ممثلة في ذلك الاقتناع المشترك من أن مصر هي البداية لكل عمل عربي يغير الحياة سلبا أو إيجابا ، والنهايات بينهما أيضا واحدة ، فمصر للاثنين ، العزة أو الذل ، النصر أو الهزيمة ، الظلام أو النور ، الضيق أو الاتساع ، المواجهة أو التراجع ، الشوفونية الفرعونية الضيقة أو العروبة الممتدة ، الجامعة أو المفرقة للعرب جميعا. النوميديون ..ويوبا الأول ولكن كيف لتلك القناعة أن تمر داخل جامعة أهلها مقتنعون أنهم عزة أمة حين خذلت, وشهادة الحق في مواجهة الباطل، وأنهم نقلوا إلى مصر ثقافة التغيير من خلال جوهر الصقلي والفاطميين .. هم بناة القاهرة نفسها التي يفتخر أهلها بها على أنها مدينة لا تقهر .. وهم الذين ذهبوا في الماضي البعيد إلى فلسطين وقضوا على ملك اليهود.. وهم الذين حفروا في جبال "الهقار" ومنطقة التاسيلي ما يفيد أسبقيتهم تارة وعلاقتهم تارة أخرى بالفراعنة ؟!. كيف لهما أن يقنعا طالبا واحدا هو العربي الذي عرف من كتب التاريخ وجلسات النقاش أن مرتع الأفكار هنا في الجزائر منذ ظهور النوميدين قبل الفتح الإسلامي بقرون، وعرف أيضا أن مواجهة الاستعمار ثقافة تراكمت لقرون منذ" يوبا الأول وما بعده من روما إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت تدفع الجزية وأوربا معها- وهما صاغرتان- للبحرية الجزائرية بقيادة الأخوين التركيين " بارباروس" اللذين صارا هما أيضا أبناء الأرض الجزائرية؟! . لم تكن تلك المعلومات الخاصة تقف حائلا دون انجذاب العربي يوما بعد يوم نحو أستاذيه الدكتور محمد والدكتور عسكر ، وهذا على عكس أستاذه دكتور حمدان العراقي الذي لم يكن مقنعا حين يتحدث عن الحضارة السومارية لأن الكلمات كانت جديدة ولا تذهب بعيدا في التعبير عن جماليات المكان وإرث الحضارة ، ولأن الحرب العراقية – الإيرانية كانت تحول دون سماع الصوت العراقي, ولأن أغلبية الطلبة الجزائريين ومنهم العربي كانوا يرون ما يحدث إجراما عراقيا، ناهيك على أن الحديث عن حزب البعث أصبح مكروها منذ أن قص على العربي صديقه صلاح الدين أهوال ما يواجهه الأكراد، وكان هذا الأخير على منحة من الدولة العراقية، ومنه عرف أن العراقيين ليسوا جنسا واحدا .. كان ذلك في يوم عسير بالنسبة له ولصديقه ، فقد قال العربي : - صديقي صلاح ، لا تبالي بأي شيء فأنت عربي في بلد عربي ، نحن نحب إخواننا في العراق، ونحن أمة خلقت لتسود العالم، ومن يعطل هذه الرغبة الجامحة يجب أن يقتل مهما كانت التكلفة و.. عندما لم يلاحظ العربي تفاعل صديقه العراقي معه توقف عن الكلام ، وحاول أن يتمعن تقاطيع وجهه معتقدا أن ما يقوله يثلج الصدر، ويدخل الفرحة ، ولم يكن ذلك مجاملة ولكنه قناعة . كردي.. بعثي بالإكراه أعاد العربي تركيز نظره فوجد بصره يعود مرتدا إليه، فدنا منه أكثر، عندها رأى دمعة تنساب على وجنته القمحية .. بل هاهي تتجاوز الوجنة ، وتخترق غابة شنبه الكثيف ثم تنزل كبيرة كحبات مطر قسنطينة حين يكون الشتاء ممطرا وجادا وقارسا، واعتقد العربي أن صديقه تأثر بما يقول فأضاف : - صلاح الدين، نحن أخوة ، واعرف أنك متأثر بالحرب العراقية- الإيرانية ، لكن اسمح لي أن أقول لك هي عمل باطل وليست حقا, وإذا كنت ترانا ضد العراق في مظاهرات بين الحين والآخر ، فذاك لاعتقادنا أن الحرب تخدم الأعداء فقط ، و لم يترك صلاح صديقه العربي يواصل حديثه ربما لأنه أدرك ما سيذهب إليه، فقاطعه بقوله : - ليس ذاك ما يحزنني يا صديقي - ماذا إذا ؟ .. لماذا تبكي؟ - لأن التركيز على العروبة هو أس المشكلات في العراق - ماذا تعني ؟ - يصعب علي أن أبوح لك بحقيقة أمري ومع ذلك سأفعل لأني على اعتقاد راسخ أنكم لا تعرفون تركيبة المجتمع العراقي , فأنا يا صديقي كردي ولست عربيا - ما ذا تعني بكردي ؟ - هكذا سأل العربي - ألا تسمع عن الأكراد ؟ - كنت أعتقد أنهم طائفة أو قبيلة من العرب لأن صلاح الدين منهم وكذلك أحمد شوقي ... الخ - لا ، الأكراد غير العرب وتلك مشكلتنا في العراق - ولكن أنتم مسلمون ؟ - نعم - إذا لماذا أنت منزعج ؟ - لأن العروبة تعني لنا الإبادة والقتل والتسلط والتهجير - وكيف جئت إلى الدراسة على حساب الحكومة العراقية وأنت كردي؟ أليس هذا غريبا إذا كنتم مضطهدون حقا ؟ - أنا أقيم في بغداد وأدعي – وهذا سر بيني وبينك – أنني بعثي وأدافع عن العروبة مكرها ، حتى أأمن شر النظام الحاكم - هل تسير على مبدأ التقية لأنك شيعي ؟ - لا ، أنا سني ، ولكن كما ذكرت لك أحاول اتقاء شر نظام صدام العراق والجزائر..الصوت والصدى ووجد العربي الفرصة مواتية ليسأل صديقه عن الأساتذة العراقيين ، وكانوا ثلاثة "حمدان" و"زهير" و"سعيد فقال: - ترى ما هي توجهات الأساتذة العراقيين؟ - دكتور حمدان شيوعي قديم لا يزال يؤمن بالمبادئ الماركسية يدرس هنا بإعارة من الدولة العراقية وبعقد من وزارة التعليم العالي الجزائرية، يظهر خلاف ما يبطن , يدعي أمام العراقيين أنه بعثي لكنه في حقيقته معاد للنظام ، وهو معذور في ذلك ، لأن نظام البعث نكل بالشيوعيين مثلما نكل بالآخرين ، رغم أنه نظام علماني . وماذا عن الدكتور زهير والدكتور سعيد ؟ بالنسبة للدكتور" زهير" فهو شيعي , يظهر أيضا خلاف ما يبطن, يبدو علمانيا لكنه في الحقيقة متدين حتى النخاع , غير أنه عميل للنظام , فقد علمت أنه يكتب التقارير عن الأساتذة والطلبة العراقيين, ويذهب بها نهاية كل شهر إلى سفارة العراق في الجزائر العاصمة , أما الدكتور سعيد فهو سني , بعثي , يؤمن بالبعثية كتوجه قومي , لكنه ليس من أتباع النظام بشكل مباشر, ولولا انتمائه إلى أسرة كبيرة كل أفرادها قيادات في الحزب, لنزعت عنه صفة الريف ماذا تعني - ماذا تعني ؟ - أعني أنه مطالب بتقديم تقارير شهرية عن حركة الطلبة و الأساتذة بما في ذلك الجزائريين , و لكنها حين تصل إلى السلطات العراقية في بغداد عبر سفارتنا في الجزائر, تقارن بتقارير أخرى يرسلها الدكتور زهير . - وماذا أيضاً؟ - في الوقت الذي يرى فيه الدكتور سعيد , أنه من الخطأ نشر أفكار البعث في الجزائر , لأن الشعب الجزائري محصن ضدها, و لأنه عروبي أكثر من البعثيين , يصر الدكتور زهير على نشرها , على أن لا يكلف هو بذلك , و هدفه إيجاد صراع بين الجزائريين والعراقيين مستقبلاً . - و ما الفائدة من كل ذلك ؟ - لأن الشيعة في العراق يعتقدون أن القضاء على نظام البعث يتم من خلال حرب فكرية طويلة الأمد , أو حرب عسكرية خاطفة تسقط حكم صدام حسين, وتقدم لهم السلطة هدية - وماذا عن الدكتور حمدان ؟ هل يقدم تقارير هو الآخر؟ - حسب معلوماتي - المحدودة – أنه ينأى بنفسه عن مثل هذا , أولاً : لأنه مكره على الانتماء للبعث , و ثانياً: أنه لو قدم تقارير فلن تقبل منه لأنه ليس محل ثقة - وهل النظام على علم به ؟ - يعرف النظام العراقي أن الدكتور حمدان لا يزال شيوعياً, ينتظر الفرصة هو وجماعته لينقضوا عليه, لكن النظام يجد متعة في القول أن الشيوعيين أصبحوا جزءاً منه , وذلك للحفاظ على الجبهة الداخلية , و القول أن الآخرين مجرد مرتزقة يمكن توظيفهم في أي وقت , و للعلم فإن الدكتور حمدان يكره النظام الحاكم لدرجة الموت , لكن ما باليد حيلة كما يقولون - صديقي هل توافقني على أنه لا فرق لديكم بين كردي و شيعي و شيوعي في محاربة النظام ؟ - هذا صحيح , إذا كنت تقصد زوال الحكم الظالم , لكن أهدافنا ليست واحدة - هل يمكن أن توضح ؟ - كل منا يتمنى زوال النظام , و لو كانت بيده القوة لسحل صدام حسين في شوارع بغداد , مثلما فعل في من سبقوه في الحكم , لكن الأكراد يريدون دولة مستقلة تحضر لأخرى أكبر تجمع أكراد تركيا و إيران و سوريا , بالإضافة لأكراد العراق , و الشيوعيون يريدون دولة علمانية تذوب فيها الفوارق العقائدية و العرقية و الطبقية , أما الشيعة فيسعون إلى دولة مذهبية ( شيعية ) على غرار إيران لاعتقادهم بأنهم أكثرية ترك العربي صديقه صلاح , و هو في حيرة من أمره , متسائلاً : - أكراد , شيعة , شيوعيون , و بعث يحكم , أي مستقبل مجهول ينتظر العراق ؟ ثم انتبه العربي إلى أن الوضع في الجزائر مماثل لما في العراق, فمنذ سنتين فقط وقع صراع من أجل التعريب , ثم ظهر البربر(أمازيغ ) يطالبون بخصوصيتهم الثقافية , وتحرك خفافيش حزب الطليعة – الحزب الشيوعي الجزائري- في الجامعة متحالفين مع الفرنكوفونيين ومؤدين للحركة الأمازيغية و تصادموا مجموعات الظلام ( دعاة التعريب ) , ونسي أحاديث الأساتذة المصريين لأنه انشغل بالبحث عن إجابة سؤال فرضه لقاؤه مع صديقه الكردي : - أيكون نظام حزب جبهة التحرير الوطني في مهب الريح السنوات القادمة؟ سارع الخطى , غير مرتد إليه طرفه, مقارنا بين الحال في العراق والجزائر , فقد جاء حديث صديقه صلاح مزعجا ومثبطا , فالمشرق العربي له مشكلاته الخاصة المختلفة عن الجزائر, وبلغ الحزن لديه الحلقوم .. حاول أن يبصر طريقه فرآها قادمة, افلاق صبح, شعاع فجر جديد بعد ليل داكن السواد بلغ فيه الدجى والضجر والفزع حدا بعيدا رآها قادمة تبعثر شعرها نسمات نهاية الخريف , حركت الوجدان عنده , تمنها لحظتها طهرا وزمن عشق لأمة, وحين اقتربت بدت ابتسامتها ندية , وما أروع الابتسامة حين تشد الإنسان بعد الفاجعة والألم .. ها هي مقبلة , غير مبالية , ولا متوقعة ,ولا مدركة , ولا واعية لوجوده غير الجذاب و لا الأخاذ.. لا يعرف أمانيها ولا صمتها ولا سحر الحياة لديها في تلك العينين الخضراوين الساحرتين.. لا يعرف إن كانت ستقبل أم ستدبر , لكن الذي أدركه بعد أن وفقت أمامه أنها حركت قلبه إلى عالم جديد. الحلقة المقبلة شهرزاد.. حب جزائري في الزمن اللبناني