كان ومازال الوضع في غرداية يحمل إشارات واضحة عن المستقبل الذي ينتظر بلادنا من حيث الوحدة الوطنية ومركزية السلطة والتماسك الاجتماعي، باعتبار أن غرداية هي الجزائر مصغرة، وليست فقط جزء من الجزائر، وجاءت الوقفات الاحتجاجية لرجال الأمن انطلاقا من هذه المدينة بالذات ثم من العاصمة لتؤكّد بالفعل أن تلك الإشارات الحاملة للمستقبل تحوّلت إلى متغيرات يمكن من خلالها قياس حاضر ومستقبل الاستقرار في بلادنا. تتوقف درجة استقرار دولة حسب بعض تقنيات الاستشراف على محصلة تأثير المتغيرات الفاعلة فيها مقارنة بالزمن الذي تستغرقه هذه الدولة في التكيف مع هذه المتغيرات، كلما تكيفت الدولة مع المتغيرات بالسرعة اللازمة، كلما ارتفعت نسبة درجة الاستقرار بها، وكلما تباطأ تكيفها كلما أصبحت غير مستقرة أكثر؛ أي أن للزمن دورا كبيرا في جعل متغير من المتغيرات ضاغطاً على استقرارها أو غير ضاغط، وهي المسألة التي بدا جليا أن مسؤولينا لم يدركوها، بل عكس ذلك راهنوا على أن الزمن سيكون باستمرار في صالحهم، بل وافترضوا عكس ما تقول به نظريات تحليل الأزمات أن الزمن سيجعل من المتغيرات الفاعلة غير ذات تأثير، باعتبار أن طاقتها ستتبدّد مع مر الأيام والأشهر مثلما تتبدد الطاقة الكامنة تدريجيا، وهو ما لم يحصل باعتباره مناقضا لنواميس الحياة الاجتماعية والسياسية في مثل هذه الحالة. عكس ذلك، الذي حدث أنه بمرور الأيام والأشهر أضعف ميكانزم التكيف لدى الدولة، وبدأ يتأكد أنها غير قادرة على إيجاد مخرج لأزمة طالت، ونتيجة لذلك ارتفعت حدة تأثير المتغيرات المختلفة على الواقع السائد سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية، ووصل الأمر في آخر المطاف إلى وقوع تغيّر حاد في المتغير الأمني السائد ببؤرة التوتر الأولى ولاية غرداية تجلى في شكل موقف اتخذه رجال الأمن، تحول إلى وقفة ثم إلى مسيرة ثم إلى مطالب، وانتقل تأثيره فورا إلى العاصمة، حيث تتحرك متغيراتٌ مشابهة ضاغطة على الواقع ولكن بدرجة مختلفة. وهكذا تجلت بوضوح نتائج ضعف ميكانزم التكيف لدى الدولة في الزمن الملائم، وأفرز التلكؤ في إيجاد مخرج أو مخارج للأزمة التي تعيشها مدينة غرداية، النتائج التي نراها اليوم من حيث تحول العامل (المتغير) الذي كان الرهان عليه لوقف الاحتجاج في آخر المطاف، هو ذاته إلى الاحتجاج، وهو ما ينبغي أن يستوقفنا أكثر من أي عامل آخر. إن احتجاج هذا المتغير الأمني على مواصلة العمل لوقف الاحتجاج يعني أننا أصبحنا أمام طريق مسدود، لقد فشل التعاطي مع كافة المتغيرات الأخرى في احتواء الأزمة في الوقت المناسب: المتغيرات السياسية والثقافية، والاجتماعية الاقتصادية، وها هو التعاطي مع المتغير الأخير يفشل بأن يشرع في الاحتجاج على أوضاعه. توصيف في غاية الخطورة ينبغي أن نعترف به، بعيدا عن كل تحليل آخر مغالط، يتحدث عن مؤامرة خارجية أو أيادي أجنبية أو غيرها... باعتبار الأمر يتعلق بتفاعلات لمتغيرات داخلية لم يتم التحكم فيها، وتدخلٍ لمعامل الزمن زادها تعقيدا؛ أي أن المسألة هي بالأساس داخلية داخلية ينبغي أن لا نصفها كما فعل بعضهم بأنها تقدّم خدمة للأجنبي، بل أن نسعى لإدراكها بموضوعية من غير تحيز أو انحياز أو اتهام لهذا أو ذاك، باعتبار أن المشكلة قائمة، وقد تتفاقم وستتفاقم أكثر في المستقبل إذا لم يتم الرفع من ميكانزم التكيف ولم يتم اختزال معامل الزمن فيها اختزالا لكي لا يرفع من وتيرة تسارع حِدِّيَتَها. مطالب سكان غرداية موضوعية، ومطالب رجال الأمن موضوعية هي الأخرى، واتفاقهم حول أن الزمن قد طال أمر مؤكد، وذلك ما يفسر الرضا المتبادل بين رجال الأمن والمواطنين بشأن احتجاج هؤلاء وهؤلاء، بل وما يفسر التعاطف الشعبي في كامل ربوع الوطن من قبل مع سكان غرداية واليوم مع رجال الأمن الذين حملوا مطالب مشروعة واتخذوا قرار الخروج للشارع رغم علمهم بصعوبته وما يمكن أن ينجر عنه من تَبعات. لقد بَيَّن ذلك، كم هو متخلف من حيث التوقيت الزمني القرار القاضي بالتكفل بانشغالاتهم، وكم هو غير مجدٍ اليوم التعامل معهم خارج نطاق الاحتجاج، لقد ترك مسؤولونا الأوضاع تتعفن في غرداية إلى درجة لم يعد سكانها يتحملون، وكشفت لنا احتجاجات الشرطة بأن مسؤولينا أيضا تعاملوا أيضا ببطء مع انشغالات أجهزتهم الداخلية مما تركها تصل إلى حالة البحث عن حلول لأوضاعها بسرعة أكبر، أي أنه لم يكن لدى مسؤولينا أيّ قدرة على الاستشراف فما بالك الاستباق وإلا ما وقع ما وقع إن في غرداية أو مع رجال الأمن أو يمكن أن يقع في مناطق أخرى من البلاد. لذا ينبغي أن نسجل ومن باب التفكير الاستباقي، أنه علينا اليوم أن نطرح السؤال الرئيس التالي: ماذا سيحدث لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن؟ وكيف ينبغي أن نتصرف من الآن إذا حدث؟ كاستشراف استراتيجي نحن في أمس الحاجة إليه. أعتقد أنه علينا أن ننتبه إلى عامل الزمن في المعادلة القائمة اليوم، باعتباره المتحكم في القدرة على التكيف، وأن نعترف بأننا تركناه بعيدا عن تصورنا للحل، سواء لما يحدث في غرداية أو لدى رجال الأمن أو ما يحدث أو سيحدث في مناطق أخرى أو قطاعات أخرى. إننا نعتقد خطأ وباستمرار أن الزمن في صالحنا، بل هناك فئات من المجتمع لا تتصور بأن الزمن ليس اتجاها خطيا لا يدور ويعود إلى نقطة المنطلق ذات يوم، فتتصرف وكأنها باقية في مواقعها في الحكم وعلى رأس مصالح اقتصادية للأبد، بل وتفترض جدلا أنها ستبقى في تلك المواقع إلى ما لا نهاية وترى بأن الزمن يسير باستمرار في اتجاه تصاعدي لصالحها. لذا تجدها مطمئنة للخمس سنوات القادمة، وربما تفكر في العشرين سنة القادمة دون أدنى مراعاة للآثار السلبية التي يتركها هذا الزمن على الآخرين، ولن تفيق حتى تجد هذه الآثار السلبية قد تحولت من احتجاجات لمواطنين على الشغل والسكن وانعدام العدالة الاجتماعية إلى احتجاجات أخرى إلى مسائل أخرى تبلغ ذروتها عندما تصل إلى الوسيلة التي توقعت أنها كفيلة بوضع حد للاحتجاجات. وهو ما يحدث عندنا للأسف ويحملنا مسؤولية التنبيه إليه. ما فائدة الحصول على سكن في سن الخمسين أو على شغل في سن الأربعين أو على أجر مقبول قبيل التقاعد؟ لعل الكثير من مسؤولينا اليوم يتصرفون بمنطق كسب الوقت بدل استباق الزمن إن في القضايا السياسية أو الأمنية أو الاجتماعية، كل الخبرة منصبّة حول كيفية تأجيل المشكل إلى حين ينسحبوا من الساحة أو يموتوا، وهو سلوك لا علاقة له بالوطنية الحَقَّة التي يهمها مستقبل الأجيال قبل مستقبلها خلافا لتلك الوطنية المشبوهة التي تقوم على فهم محدود لمن هم الأبناء، وعلى مبدأ قاتل أنا ومن بعيد الطوفان. إن أبناء غرداية ورجال الأمن هم أبناؤنا جميعا وينبغي أن نعرف بأنه إذا كان الزمن لا يهم البعض ممن يتحملون المسؤولية تجاههم، فهو بالنسبة لهم زمنٌ قاتل، كل دقيقة يدفعون الثمن فيها لوحدهم ولا أحد يحس بذلك، ينبغي أن نفهم ذلك قبل فوات الأوان.