تذمّر سلك الأمن أدخل أحزاب السلطة في غيبوبة المعارضة: ما حذّرنا منه وقع بقدر ما أثلج خروج أعوان الشرطة للشارع للاحتجاج صدر أحزاب المعارضة التي خرجت لتعلن أن ما حذرت منه وقع، بقدر ما نزل الأمر كالصاعقة على أحزاب السلطة التي لازمت صمت الأموات، باستثناء الكتلة البرلمانية للأفالان التي وصفت الأمر ب«مناورة من المناورات التي تحاك ضد الجزائر”، رغم أن الوزير الأول اعترف بالظلم الذي وقع على فئة أفراد الشرطة. توحي ردود الفعل الصادرة عن أحزاب المعارضة، بخصوص احتجاج أعوان الأمن وخروجهم في مسيرات للشارع سواء في غرداية أو العاصمة والمدن الأخرى، أنها وجدت في هذه القضية ”الحجة” الملموسة التي كانت تنتظرها أو تبحث عنها لإقناع منتقديها بصواب مطالبها، خصوصا ما تعلق بتفعيل حالة الشغور وغياب مؤسسات الدولة، مثلما ذهبت إليه تنسيقية الانتقال الديمقراطي وقطب التغيير بمعية هيئة المتابعة والتشاور، وذلك على الأقل من باب أن الذين كانوا يمنعون التظاهر خرجوا أنفسهم للتظاهر ضد السلطة في صورة انقلاب السحر على الساحر. وإذا كان النشاط الحقوقي مقران آيت العربي يرى أن السلطة لم تكن ”تتوقع خروج أعوان الشرطة إلى الشارع للتعبير عن غضبهم، وظلت تعتقد أن عناصر الأمن مهما بلغ تذمرهم ومهما كانت مطالبهم لن يعبّروا عنها بالخروج إلى الشارع”، وهو بذلك يقدم دليلا على أن السلطة مثلما أخطأت في عدم استشراف ما وقع داخل سلك الأمن من ”غليان”، فإنها أخطأت أيضا في قراءة التحذيرات التي ما فتئت تصدر عن خصومها في المعارضة بغضّ النظر عن الجهة التي أطلقتها، ولا تريد التوقف عندها. ويكون خروج حمم بركان أعوان الشرطة الملقاة في الشارع وأمام أهم مؤسسات الدولة، الرئاسة والوزارة الأولى، وراء ما ذهب إليه رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، في قراءته للأحداث بكونها ”أمر غير مسبوق، ويدل على تحلل السلطة وتخبط كبير، والفاشل الأول هو المسؤول الأول في السلطة”، في إشارة إلى رئيس الجمهورية الغائب، وهو الغياب الذي جعل بن فليس يتساءل ”هل كان للمسؤول الأول في البلاد كلمة واحدة قالها أو حركة واحدة قام بها كي يثبت أنه مهتم بمشاكلها ويعمل على حلها؟”، محيلا إلى أن ”الحكومة التي هي في حالة شلل شبه كامل، ألم تُتخم هذه المنطقة بضمانات واهية وبوعود لم توف مؤكدة بذلك لامبالاتها ولا جديتها ولا مسؤوليتها”، في إشارة إلى أن خروج أعوان الشرطة للشارع للاحتجاج مؤشر على أن الوضع في البلاد لم يعد أحد قادر على تحمّله، بما فيها الأجهزة المحسوبة على السلطة. وإن أعطت احتجاجات الشرطة جرعة أكسجين ”هامة” لأحزاب المعارضة التي رفعت مطلب الشغور وتحدثت عن شلل مؤسسات الدولة، بعدما تلقت من خلال مثل هذا الاحتجاج رسالة عن وجود رغبة في التغيير داخل النظام أو من بعض أجنحته، فإنها في المقابل نزلت مثل الصاعقة على أحزاب المولاة إلى درجة أن حزب الأغلبية الأفالان تبرأ من بيان أصدرته كتلته البرلمانية حول خروج أعوان الشرطة للاحتجاج، وهو ما يعكس حالة من التخبط داخل السلطة لم يسبق لها مثيل، وفي ذلك مؤشر على أن مرض مؤسسة الرئاسة الطويل أصاب البلد برمّته بالركود ولم يعد وضعية تحتمل. الجزائر: ح. سليمان السلطة سعت دوما لتمييع تحذيرات ومطالب القوى السياسية محيط الرئيس يفاجأ بغضب لم يضعه في الحسبان أظهرت السلطة تمرّسا في التعامل مع كل أشكال الاحتجاج الصادرة عن مختلف القطاعات النشطة في المجتمع، لكنها لم تضع في الحسبان أبدا أن ينظم ضدها رجال الشرطة تمرّدا جماعيا. وبالطريقة نفسها التي درجت على استعمالها في تهدئة الغاضبين، تسعى إلى شراء هدوء أفراد الأمن المستائين بتوزيع الريع عليهم. توحي سياسة ”رجل الإطفاء” المنتهجة في إخماد نيران الغضب بأن السلطات أنشأت صندوقا خصيصا للمتذمرين من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والغاضبين من الحڤرة والإقصاء، وضخّت فيه أموالا طائلة من مخزون احتياطي العملة الصعبة، لتلجأ إليه مسرعة كلما ظهرت بؤرة توتر، فتغترف منه لرفع الأجور وصرف المنح والعلاوات، وتقدّم وعودا بمنح السكن وتسهيلات للحصول على القروض. وبهذه الطريقة في شراء السلم جرى التعامل مع احتجاج الأطباء وأساتذة التعليم العالي ومستخدمي الإدارة العمومية والمنتسبين لسلك التعليم؛ فبفضل إجراءات وقرارات شعبوية لا تمتّ بصلة لمعايير الاقتصاد والإنتاج، تمت زيادة أجور عمال وموظفي كل القطاعات تقريبا بعد موجة السخط التي عاشتها البلاد مطلع 2011، التي نجحت السلطة في إفراغها من مضامينها السياسية ذات الصلة بالديمقراطية والحريات وتغيير النظام، فاختزلتها في ”حاجة المواطن للزيت والسكر”. وحذّر خبراء الاقتصاد من خطوة بزيادة الأجور غير المدروسة، وأكدوا أن الحكومة ستواجه عجزا في توفير الأجور إذا نزل سعر البرميل إلى أقل من 90 دولارا. أما المعارضة وبعض الشخصيات المستقلة فدعت السلطة إلى تفادي انفجار اجتماعي يوشك أن يحدث، والتخلي عن أسلوب شراء السلم الاجتماعي عن طريق إطلاق إصلاحات سياسية حقيقية. وبدل أن يأخذ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة هذه التحذيرات مأخذ الجدّ، أدار ظهره لها باللجوء إلى إجراءات وتدابير اتخذت شكل مراجعة قوانين واستحداث أخرى جديدة، بدعوى تجذير الديمقراطية وتمكين المرأة من المشاركة السياسية الواسعة. ووضع بوتفليقة تعديل الدستور في ثلاجة، بعدما وزع ورقة على أطراف محسوبة عليه لتقديم رأيها فيه، بينما كانت المعارضة دعت إلى إدخال إصلاحات جوهرية عليه والبدء بتعديله. ولم يعر الرئيس أهمية للمقاطعة الواسعة للأحزاب والشخصيات التي اعتبرت الاستشارة الدستورية مضيعة للوقت، والتفافا على مطلب تغيير النظام. وتعامل الرئيس مع الأمر بمنطق عددي، أي بحساب عدد الجمعيات والتنظيمات والأحزاب التي حضرت لقاءات أحمد أويحيى، والتي كانت بمثابة لجان مساندة لحملته الانتخابية في رئاسيات 2014 التي لم يشارك فيها. وفيما اقتنع الرئيس ومحيطه بأن كل الفئات المهنية، تقريبا، أخذت نصيبها من الريع، وبالتالي اشترى سكوت الملايين من المواطنين، فوجئ بخروج المئات من رجال الأمن الوطني إلى شوارع غرداية ثم العاصمة فوهران وقسنطينة وعدة ولايات أخرى، وكانت الرسالة واضحة إلا من يرفض قراءتها هي: شراء السلم المدني لا يعدو أن يكون مسكّنا سرعان ما ينتهي مفعوله، ليظهر عمق الأزمة بكل تجلياتها. ويأتي غضب رجال الشرطة، وربما انتفاضة فئات أخرى إذا انطلقت كرة الثلج تتدحرج، عكس تماما ما يشتهيه الرئيس والمنتفعون من حكمه، الذين يراهنون على إبعاد كل ما يشوّش على استمراره في الحكم مدى الحياة. الجزائر: حميد يس حوار رئيس جبهة العدالة والتنمية عبد اللّه جاب اللّه ل”الخبر” ”لا أستبعد وصول احتجاج الشرطة إلى دوائر أمنية أخرى” هل تعتقد أن احتجاج رجال الشرطة دليل فعلا على شغور السلطة في البلاد؟ - نعم، هذا الطرح صحيح. وهو دليل آخر يضاف إلى سلسلة الأدلة التي تثبت بلوغ مستوى الفساد ذروته حيث تمكّن من كافة أجهزة الدولة، وانتشار مظاهر الاستبداد والاستغلال حتى أضحى العناصر المكلفون بضمان أمن العباد والبلاد يحتجون ويطالبون بمشاكلهم، وبالتالي وتلقائيا يصبح احتجاج رجال الشرطة دليلا على شغور السلطة في البلاد، ودليل ثان على وجود مستوى من الوعي في أجهزة دولة ودوائر حكم. لوحظ غياب شبه تام للطبقة السياسية عن احتجاجات الشرطة، لماذا برأيك؟ - بالعكس فهذا الوضع يثبت للمعارضة أطروحاتها التي كانت تؤكد على أن البلاد تسير نحو الانهيار، بسبب فراغ رهيب على مستوى مؤسسات الدولة سواء الإدارية أو القضائية أو الأمنية، فطالبنا مرارا وتكرارا بضرورة تفعيل المادة 88 من الدستور. فالنظام حاليا لا يتبنى سوى سياسة نهب ثروات البلاد بصورة ممنهجة، فظهر عجز وإهمال واستهتار على مستوى كل المرافق والجبهات. والملاحظ أن السلطة لم تأخذ تحذيرات المعارضة محمل الجد، إلى أن مسّ الوضع المتعفن رجال الأمن، ولا أستعبد وصوله إلى دوائر أمنية أخرى. والسبب هو الفساد المستشري الذي شاع بلا حدود، وكذا الشعور بالظلم واستمرار السلطة في استهتارها وخنق كل صوت حر ومعارض، وعليه فالمعارضة التي تشكل الآن جبهة موحدة استطاعت أن تبلور كيفية الانتقال الديمقراطي وبسط الحريات وإيقاف التعسّف، ولابد عليها من الاستمرار في النضال لإقناع الشعب بأفكارها وتبنيها للدفاع عنها. محيط الرئيس تفاجأ بحركة احتجاجية لسلك أمني لم تكن في الحسبان، كيف سيتعامل معها، حسبك؟ - هذه الفئة ليست من الدائرة الأولى، ولا أعتقد أن محيط الرئيس يلتفتون إلى مثل هذه المسائل، فبرنامجهم هو التمكين لأشخاصهم لمواصلة نهب الثروات، وإنما المتفاجئون هم القريبون من محيط الرئيس، ولكنهم لا يملكون سلطة القرار. فالمحيطون بالرئيس أصابهم الغرور والاستهتار بآراء المعارضة والنخبة، فتغيّرت عندهم المفاهيم وصارت لديهم المصلحة مفسدة، وتحوّل هذا الوضع لديهم إلى سنّة ثابتة، لذلك على النخب الوطنية المعارضة الاستمرار في النضال مع بعضها البعض، لأنها في طريق النضج والاكتمال. ويرتبط هذا الوضع أيضا بالشعور بالظلم، وهو يؤذن بالخراب وهذا ما هو حاصل وآخذ في التنامي. فكان إدراكا منّا بخطورة الوضع الذي يصّر فيه الرئيس على مواصلة بقائه في الحكم وهو مريض، فطالبنا وبصفة استعجالية بتطبيق المادة 88 من الدستور، فمرضه لا يسمح له بالبقاء على رأس الدولة وقد مركز كافة الصلاحيات في يده. الجزائر: حاوره خالد بودية الباحث والناشط السياسي ناصر جابي ل”الخبر” ”احتجاج الشرطة أثبت أن النظام مصاب بمرض التوحّد” هل نزول رجال الأمن إلى الشارع للاحتجاج مؤشر على خلل في التسيير الفعلي لشؤون الدولة؟ - أولا احتجاج الشرطة مفارقة لابد لها من تفسير جدي. ومسيرات لقوات حفظ الأمن سابقة تحدث لأول مرة في تاريخ الجزائر السياسي؛ نعم السياسي لأن الظاهرة ورغم بعض أبعادها المرتبطة بالشأن الاجتماعي كالمطالبة بتحسين ظروف العمل والحياة وحتى تكوين نقابة، إلا أنها تبقى ظاهرة سياسية في المقام الأول. فليس من المعقول في حالة سياسية عادية أن تتظاهر القوات المكلفة بحفظ الأمن و”محاربة الشغب”، لتتوجه هكذا ل”محاصرة” مقر رئاسة الجمهورية. والبعد السياسي لهذه المسيرة الاحتجاجية مرتبط بفشل السياسيين الرسميين، وحتى المعارضين، في إيجاد أو اقتراح حلول لها، وكأن هؤلاء الشباب الملتحقين بكثافة بقوات الأمن حديثا يقولون للجميع لا نريد أن ندفع ثمن فشلكم أيها السياسيون. والبعد السياسي لهذه المسيرات يتأكد من جهة أخرى، إذا عدنا إلى ما قالته أكثر من جهة سياسية معارضة ونبهت له أكثر من مرة منذ سنوات من أن ”أزمة النظام السياسي الجزائري” يمكن أن تتفاقم لتهدد مؤسسات الدولة الوطنية نفسها. رغم أن احتجاج الشرطة يعدّ سابقة كما قلت، غير أنه قوبل بصمت من أحزاب السلطة، لماذا برأيك؟ - ما يميز الحركات الاحتجاجية في الجزائر، التي تحولت إلى ”فرض عين” و«رياضة”، أنها كانت دائما معزولة عن النخبة السياسية، ولا ترتكز على تأطير، وأثبتت الدراسات أن الاحتجاجات محصورة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وأكدت وجود قطيعة سياسية بين الأحزاب والحركات الاحتجاجية، وهو الحاصل مع احتجاج رجال الشرطة، لذلك أدى هذا الوضع إلى تكرار الاحتجاجات دون أن تأتي بجديد، ودون أن يكون لها معنى سياسي. أصيبت السلطة بالذهول لاحتجاج سلك أمني لم تكن تحسب له أي حساب، كيف تفسّر ذلك؟ - أعتقد أن النظام السياسي فقد القدرة على المشاهدة والملاحظة وقراءته للأحداث ضعيفة جدا، والدليل التخبط الكبير الموجود على مستوى مركز القرار، فأصبح النظام لا يسمع ولا يرى وأصيب بمرض التوحّد، حيث لا يرى سوى نفسه، وقد يؤدي هذا الوضع إلى ارتكابه حماقات، فمن المفروض وجود أدوات لتحليل الأوضاع. في المقابل، كانت السياسة حاضرة بقوة كذلك في هذه الحركة الاحتجاجية لقوات الأمن، إذا نظرنا إلى المطالب المرفوعة ليس في شقها الاجتماعي المهني الشرعي والمقبول بل فيما لم تقله. فقد طرح على رأس المطالب إبعاد المدير العام الحالي من منصبه. هذا الرجل الذي تم الحديث/ الساكت عن طموحاته الرئاسية الفعلية أو المتخيلة، ما قد يوحي بأن لهذه الاحتجاجات ارتباطات بصراع الأجنحة داخل السلطة التي قد تخرج إلى الشارع إذا فشلت مراكز القوى في حسمها. الجزائر: حاوره خالد بودية