الناس اليوم بين خائف على مستقبل البلاد ومترقب لما سيحدث بها، وغير قادر على فهم ما يحدث، ومُبشّر باشتداد الأزمة، ومؤكّد أن كل شيء سيكون على ما يرام.. كلّ يسعى إلى تبرير وجهة نظره وتكذيب الأخرى من غير أدنى محاولة للانطلاق من تحليل موضوعي للمتغيرات الفاعلة في بلادنا داخليا وخارجيا للإجابة عن سؤال مركزي يؤرقنا جميعا: ماذا سيحدث لبلادنا؟ (استشراف) وماذا سنفعل إذا حدث؟ (استشراف استراتيجي). الناس اليوم بين خائف على مستقبل البلاد ومترقب لما سيحدث بها، وغير قادر على فهم ما يحدث، ومُبشّر باشتداد الأزمة، ومؤكّد أن كل شيء سيكون على ما يرام.. كلّ يسعى إلى تبرير وجهة نظره وتكذيب الأخرى من غير أدنى محاولة للانطلاق من تحليل موضوعي للمتغيرات الفاعلة في بلادنا داخليا وخارجيا للإجابة عن سؤال مركزي يؤرقنا جميعا: ماذا سيحدث لبلادنا؟ (استشراف) وماذا سنفعل إذا حدث؟ (استشراف استراتيجي). لتفادي هذا الانحراف في النظر إلى الواقع الذي نعيش، ينبغي أن نبدأ من تفكيك سؤال المرحلة الذي يقول: ماذا يحدث ببلادنا الآن؟ هل هو حراك شعبي ناتج عن عوامل اجتماعية واقتصادية داخلية فرضها التطوّر الطبيعي للمجتمع تجلى في شكل تنافس بين معارضة في طور التشكل تسعى إلى التغيير، وسلطة متمسّكة بالوضع القائم منذ عقود وتصر دوما على البقاء؟ أم أنه صراع بين أشخاص وزمر حول من يسيطر على مقاليد الحكم لأسباب لها علاقة بالحفاظ على مصالح كبيرة تم تحقيقها في العقدين الأخيرين بالدرجة الأولى وما الحراك الشعبي سوى أحد تجلياتها؟ أم إن كل ما يحدث ببلادنا هو انعكاس لصراع أكبر مِنَّا حول مَن سيسيطر على المنطقة مستقبلا من فرنسيين وأمريكيين وغيرهم من دول الشرق والغرب، يتجلى بشكل أو بآخر في التمسك بغنيمة البقاء في الحكم ولو إلى حين؟ أم إنه ببساطة عجز أمام المستقبل بجميع أبعاده؟ ينبغي أن نعرف ما الذي يحدث بالضبط لنعرف ما سيحدث في المستقبل، وماذا علينا أن نفعل إذا حدث لنقوم باستشراف استراتيجي نستبق به التحولات ونجنّب بلادنا الوقوع في مآزق من أي نوع كان قد تكون نهايتها وخيمة؟ ذلك هو المنطلق... لعلنا نميل جميعا إلى الانسياق خلف فرضية واحدة للواقع، كل ينظر إليه من خلالها، يحاول تفسيره أو تبريره أو حتى تغييره، نادرا ما نظرنا إلى الواقع في شكله المركّب، حيث تكمن حقيقة المشكلة وحيث يكمن الحل. بل لعلنا مازلنا نتصرف في نطاق الأساليب المحدودة التي ترسخت في أذهاننا منذ عقود بل قرون من الزمن، بعيدا عن كل مقاربة مركبة للظواهر والأنظمة أو المجتمعات التي أصبحت سمة العالم اليوم ولها آليتها وأساليب التعامل معها. لأول مرة في التاريخ يُصبح العالم مركّبا بهذا الشكل نتيجة ما عرفه من تطور تكنولوجي هائل، لا نراه إلا في حدود ما توفر بين أيدينا من مخرجات نهائية للتكنولوجيا (هواتف نقالة وانترنت وفيسبوك وسلع مختلفة عالية الجودة...) أما تلك المخرجات الأخرى الخفية التي لها انعكاس على كافة حياتنا وعلى مستقبلنا بالتحديد فلا وجود لها البتة، ولعل أخطرها تلك السياسية المتعلقة بالتحول العميق الذي حدث في طبيعة السلطة وليس شكل السلطة فقط، على حد تعبير "ألفين توفلر". هل يمكن أن نقبل بالتحوّل الحاصل على مستوى الهواتف النقالة وانترنت بتدفقاتها العالية ومختلف مظاهر التكنولوجيا المتقدمة الأخرى ولا نقبل بالتحوّل الذي ينبغي أن يكون في السلطة وفي باقي المجالات؟ هل نقبل باتباع طريق الغرب ولو أدخلنا ذلك إلى جحر ضب كما جاء في الأثر؟ هل ما نراه اليوم من مؤشرات (قانون الأسرة، بيع الخمور) هي إشارات حاملة لمستقبل يقول إنه فُرض علينا وانتهى الأمر، مقابل بقاء مؤقت في السلطة؟ هل ما نعرفه الآن ليس نظيرَ حالة تبعية تامة وخضوع للأمر الواقع مقابل رضى الغرب المؤقت على عدم تأجيل أيّ تحول في السلطة ببلادنا؟ يبدو أنه لدينا من يريد أن يبقى في السلطة بالشكل التقليدي (الحكم مدى الحياة، التوريث، رفض الديمقراطية) وفي ذات الوقت يريد أن يكون جزءا من هذا العالم. ولدينا من يريد أن يستفيد من كافة أشكال التقدم من غير أيّ محاولة منه لتحصين جبهته الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية من الانهيار، ولدينا من يعتبر أنه يمكن قبول الآخر تكنولوجياً والانفتاح عليه دون قيمه وأخلاقه، وهناك من يرى أنه علينا محاربة الآخر مهما كانت الوسائل التي نملك ومهما كانت الخسائر... وهي الحال التي أنتجت بدائل تلقائية على كافة الجبهات فيما يبرز من أشكال للتمرد الاجتماعي (غلق للطرقات، إضرابات متكررة، خروج للشارع)، أو بحث عن الخصوصية الثقافية (غرداية، منطقة القبائل وغيرها) أو رفض لقرارات اقتصادية فوقية (عين صالح وتمنراست وورڤلة وغيرها) أو خوف على مستقبل الدين من الاندثار (العودة إلى السلفية، تشكيل جماعات دينية متشددة ضد الغرب...)، ما يعني أننا غالبا ما نكون في حالة عجز أمام التكيف مع المستقبل التي قد تُدخلنا في حرب من غير أن ندري... ولذلك نحن نعيش حالة القلق والاضطراب والخوف على مصير البلاد.
وأمام هذا الوضع ليس أمامنا سوى بديل أن نعي طبيعة هذه الحرب في العمق لا في الشكل وأن نكون متماسكين للانتصار فيها، قادرين على مواجهة المستقبل برباطة جأش، وإلا فإن مصيرنا سيكون بأيديهم.