خفت صوت الاتحاد العام للعمال الجزائريين بشكل مشبوه منذ الإضراب الذي دعا إليه في فيفري 2003، فمنذ ذلك الوقت، أصبح الجميع يشعر وكأن المركزية النقابية باتت تنزع إلى ربح الود مع السلطة، منه إلى الدفاع عن انشغالات الفئة التي يفترض أنها تمثلها. وجاءت خرجة سيدي السعيد في ختام المؤتمر ال12، لترجح صدقية الشبهات التي دارت حول مواقف الاتحاد، الذي تحول إلى "نقابة السلطة"، كما وصفها مسؤولها الأول. فلماذا تحولت المركزية النقابية من هيئة مطلبية إلى أداة بيد السلطة؟ وما خلفيات هذا التحول؟ وما علاقة ذلك باعتبارها الشريك الاجتماعي الوحيد في لقاءات الثلاثية؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها "الملف السياسي" لهذا الخميس. لم يحتج ضد الحكومة منذ 12 سنة سيدي السعيد.. نقابي في خدمة السلطة رسّخت التصريحات المثيرة للأمين العام الجديد القديم للاتحاد العام للعمال الجزائريين، عبد المجيد سيدي السعيد، الاعتقاد الشائع عن المركزية النقابية، بأنها أداة من أدوات السلطة قبل أن تكون هيئة في خدمة العمال، كما تشير إلى ذلك تسميته عبد المجيد سيدي السعيد خرج في ختام المؤتمر ال12، ليقول جهرا ما ظل يفكر فيه سرّا هو وغيره من قيادات الهيئة العمالية، وهو أن ال"إيجيتيا"، هي "نقابة السلطة وجندي من جنود الجمهورية". هذه التصريحات تغني كل متابع لشؤون المركزية النقابية، عناء البحث عن موقعها في المعادلة التي طرفاها السلطة بمؤسساتها التنفيذية من جهة، والفئة الشغّيلة بمواقعها في القطاعين العمومي والخاص من جهة أخرى. ومع ذلك، حاول الرجل الأول في المركزية النقابية، أن ينفي عن نفسه ممارسة "الشيتة" كما قال، لفائدة السلطة، لكنه سقط في محظور آخر من حيث يدري أو لا يدري، عندما أكد أن موقفه هذا هو من أجل سواد عيون الرئيس بوتفليقة.. إنها "المَحِبّة" بالحرف، كما قال سيدي السعيد. كلام سيدي السعيد يجسّد توجّها باشرته المركزية النقابية منذ أزيد من عشر سنوات، فآخر إحتجاج دعا إليه الاتحاد العام للعمال الجزائريين، هو "إضراب اليومين"، الذي يعود إلى العام 2003، وجاء ذلك في سياق سياسي مشحون، طبعته بوادر انشقاق في هرم السلطة بشأن من سيكون مرشحها في رئاسيات 2004، بين إثنين من أبنائها، وهما الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليقة، ومتحديه أنذاك، رئيس ديوانه ورئيس حكومته السابق، علي بن فليس. مبرر الإضراب يومها كان الاحتجاج على "غياب الشفافية في الإصلاحات الحكومية"، فيما استهدف الإضراب، القطاعات التي كان يشرف عليها وزراء محسوبون على الرئيس بوتفليقة، مثل وزير الطاقة والمناجم السابق، شكيب خليل، ووزير الصناعة وترقية الاستثمارات سابقا، عبد الحميد تمار، ووزير المالية، عبد اللطيف بن أشنهو، ما يعني في الأخير أن الرئيس هو الذي كان مستهدفا من ذلك الإضراب. واللافت في الأمر، هو أن خطابات سيدي السعيد قبل ذلك الإضراب وأثناءه، كانت نارية ضد الرئيس بوتفليقة وصلت حد التهكّم في بعض الأحيان، وتهديدية في أحيان أخرى، فقد كان يقول إن المركزية النقابية "ستصعّد الحركة الإحتجاجية في حال عدم الاستجابة لمطالبها". يومها قرأ المتابعون في إضراب المركزية النقابية، موقفا سياسيا ضد مرشح العهدة الثانية حينها، غير أن سيدي السعيد لم يلبث أن ألحق الهيئة العمالية بصف الداعمين للرئيس بوتفليقة في رئاسيات 2004، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الرجل عن مدح الرئيس، بل أصبح من أكثر رجالاته الأوفياء، ومن أكبر داعميه في العهدتين، الثالثة والرابعة.
فما الذي جعل سيدي السعيد ينقلب كل هذا الانقلاب؟ لقد حاول سيدي السعيد المناورة، مستغلا الضبابية الشديدة التي كانت تطبع المشهد السياسي، بسبب الانقسام الحاد بين أجنحة السلطة قبل رئاسيات 2004، غير أنه سرعان ما اقتنع أن مصلحته تقتضي الوقوف إلى جانب الطرف الأقوى، لأنه يدرك جيدا أن أي محاولة لجر المركزية النقابية بعيدا عن محيط السلطة، ستطيح برأسه. وبتصريحاته الأخيرة، يكون سيدي السعيد قد فهم أو أرغم على الفهم، بأنه مجرد مستخدم على رأس أداة من أدوات السلطة في إدارة الحكم، وواجهتها في الأوساط العمالية، حالها كحال حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، باعتبارهما الواجهة السياسية.
عضو الأمانة التنفيذية السابق، علي مرابط: أصحاب المصالح هم من وضع سيدي السعيد على رأس المركزية النقابية قال علي مرابط، ممثل التنسيقية الوطنية المؤقتة للجنة التنفيذية للاتحاد العام للعمال الجزائريين، إن أصحاب المصالح هم من قاموا بتنصيب عبد المجيد سيدي السعيد أمينا عاما للمركزية النقابية حتى يضمن لهم الحفاظ على مصالحهم الخاصة على حساب مصالح العمال. وأوضح مرابط أن غياب التداول على الأمانة العامة يعود لضغوطات أطراف معينة (لم يسمها) "لها مصالح خاصة في عالم الشغل لتمثيلهم وخدمتهم على حساب الطبقة العمالية"، مستدلا بما شهده المؤتمر ال12 الذي حضره جمع كبير من رجال الأعمال وأرباب المؤسسات. وذكر عضو الأمانة التنفيذية السابق، أن سيدي السعيد أغرق القاعة التي احتضنت المؤتمر بأكثر من 70 بالمائة من المندوبين المدعوين من فئة المتقاعدين لتمرير مخططات أصحاب المصالح على حساب الطبقة العمالية وكذا مؤسسات الدولة على حد سواء، ولم يتردد في اتهام سيدي السعيد ب"استغفال كل الفاعلين بما فيهم الحكومة والجمعيات والمجتمع المدني" متهما إياه ب"خرق كافة اللوائح والقوانين لتحقيق طموحات ضيقة". وحمل مرابط مسؤولية هجرة الآلاف من العمال من المركزية النقابية نحو النقابات المستقلة بسبب سياسة الإقصاء التي يمارسها، وقال إن "مغادرة العمال للمركزية النقابية وانضمامهم للنقابات المستقلة، سببها سياسة الإقصاء الممنهجة التي ماانفك يمارسها سيدي السعيد طيلة 15 سنة". وبخصوص عدم احترام العهد النقابية في السنوات الأخيرة، قال مرابط إن المؤتمرات الأخيرة أضحت مناسبات لإخاطة النتائج على المقاس، وبالتالي لم يعد بد من برمجتها في أوقاتها المحددة، معتبرا في ذات الوقت أن النقابة ليست أداة بيد السلطة بقدر ما هي شريك أساسي لها، كون الواقع يفرض ذلك لأن "قوة الطبقة العمالية دليل على قوة السلطة وتقوية لمؤسسات الدولة". كما أرجع إحجام المركزية النقابية عن الدعوة لأي إضراب منذ ما يفوق العشر سنوات، بتحقق الكثير من المطالب التي رفعها العمال، ناهيك عن ثقافة الحوار التي تتحلى بها المركزية النقابية "بعيدا عن القلاقل والفوضى".
منسق نقابة كنابست المستقلة نوار العربي المركزية النقابية تحولت إلى جهاز ووزارة في نفس الوقت يرى المنسق الوطني للمجلس الوطني المستقل لأساتذة التعليم الثانوي والتقني، نوار العربي، أن عقلية الحزب الواحد ما زالت راسخة في تعامل السلطة والمركزية النقابية، ما جعل التعامل يتم مع نقابة واحدة لا شريك لها هي الاتحاد العام للعمال الجزائريين، يُمكّن لها في كل شيء وتحرم النقابات المستقلة من كل شيء. وقال نوار العربي إن هذه العقلية من مخلفات الحزب الواحد التي ما زالت راسخة، وحوّلت المركزية النقابية إلى جهاز بل وصارت الجزائر البلد الوحيد في العالم الذي له وزارتان تهتمان بشؤون العمال، الأولى هي وزارة العمل والضمان الاجتماعي، والثانية هي وزارة العمال التي يترأسها سيدي السعيد، وحتى تصريحاتهم غلبت عليها سياسة الحزب الواحد وصاروا يقولون النقابة وليس النقابات. وبحسب المتحدث، فإن المفاضلة لصالح الاتحاد العام للعمال الجزائريين تكمن في منحه المنشآت والإمكانات والقاعات لعقد نشاطاته ومؤتمراته، والدليل على ذلك انعقاد المؤتمر بفندق الأوراسي، بينما نحن - النقابات المستقلة - نمارس نشاطنا في الثانويات والمدارس والقاعات الضيقة. وأوضح النقابي نوار العربي أن سياسة الشريك الوحيد الذي لا ثاني له وعقلية الحزب الواحد، امتدت لتقصي النقابات المستقلة من المشاركة في الثلاثية، رغم أن لها آراء يمكن أن تدلى بها، وحجتهم في ذلك هي أن هذه النقابات لا تمثل كافة القطاعات، وعلى سبيل المثال قضية إلغاء المادة 87 مكرر التي اتخذت بعيدا عن إشراك النقابات المستقلة، بينما جزء من عمال قطاع التربية مثلا معني بهذا الإجراء، وكان بالإمكان أن تدلي النقابات المستقلة برأيها في الموضوع. ويتضح الإقصاء كذلك، حسب نوار العربي، في التمثيل على مستوى المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي "كناس" الذي يضم 30 عضوا نقابيا كلهم من الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ولم يتم أخذ المستوى التمثيلي الكبير للنقابات المستقلة بعين الاعتبار. وإضافة إلى التضييق وإقصاء النقابات المستقلة، يؤكد نوار العربي أن القانون تمت خياطته بشكل لا يسمح بتأسيس نقابة عمومية أخرى، لأنه من أجل الوصول إلى ذلك وجب الانطلاق من نقابة ثم فدرالية للقطاع ثم أخيرا كنفدرالية تضم كافة القطاعات، وهذا أمر مستحيل في ظل القانون الحالي وما تعرفه النقابات أصلا من عمليات تصحيحية وتفتيتية.
الأمين العام لنقابة "سناباب" بلقاسم فلفول مبرر الحكومة في إقصاء النقابات غيابها عن القطاع الاقتصادي يرى بلقاسم فلفول، الأمين العام للنقابة الوطنية المستقلة لمستخدمي الإدارة العمومية، أن استبعاد وإقصاء النقابات المستقلة من الثلاثية كان بحجة أن هذه النقابات ليست معنية بالقطاع الاقتصادي، ومجال اختصاصها لا يتعدى الوظيف العمومي فقط، وهو أمر غير مبرر. وبحسب فلفول، فإن هذا الإقصاء من الثلاثية لم يقابله أي إشراك للنقابات المستقلة في لقاءات ثنائية مع الحكومة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجتهم في الإقصاء، مشيرا إلى أن نقابة "سناباب" طالبت ولا تزال تطالب دوما ببرمجة لقاءات ثنائية بين نقابات الوظيف العمومي والحكومة لتدارس المطالب والانشغالات، ولكن لم يُمكّن لها في الكثير من الأحيان. وأوضح المتحدث أن الإقصاء يشمل في غالب الأحيان الإعلام العمومي كذلك، حيث ورغم الدعوات التي توجه إلى مختلف المؤسسات الإعلامية العمومية خاصة الثقيلة إلا أنها لا تغطي في الغالب النشاطات التي تخص نقابة "سناباب".
أكثر من نصف قرن من النضال المركزية النقابية.. ماض حافل وحاضر باهت ترعرع الاتحاد العام للعمال الجزائريين في أحضان الثورة، فقد تأسس في 24 فيفري 1956، وكان نشاطه مكملا لجهود وكفاح جيش وجبهة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما جعله يتحول مع مرور الوقت إلى أداة توظف سياسيا من قبل السلطة بعد الاستقلال. ويعتبر الشهيد عيسات إيدير من أبرز مؤسسي الاتحاد، ولذلك فقد تم انتخابه أول أمين عام لهذه المنظمة مباشرة بعد التأسيس، بعد أن لفت الشهيد أنظار قادة الثورة بوعيه السياسي وقدرته على التجنيد ونشر أفكار الكفاح بين العمال الجزائريين، الذين كانوا يتواجدون بعشرات الآلاف في المصانع الفرنسية. وفي هذا السياق، فقد انضم الاتحاد إلى الجامعة العالمية للنقابات الحرة، التي وجد فيها منبرا لتبليغ صوته إلى الرأي العام العالمي، وأسس فروعا للاتحاد في كل من تونس والمغرب وفرنسا. وقد مكنته هذه الخطوات من القيام بنشاط كبير في المجال الدولي للتعريف بالحركة النقابية الجزائرية، ومشكلة الحرب في الجزائر ونتائجها الاجتماعية، وكسب تأييد عمال العالم لكفاح العمال الجزائريين والشعب الجزائري. وتوجت جهود الاتحاد العام للعمال الجزائريين بالحصول على مساعدات للاجئين الجزائريين في كل من تونس والمغرب وكذا الحصول على منح دراسية وإرسال عدد من العمال الجزائريين للتكوين والتخصص في مختلف المصانع الدولية، الأمر الذي تفطنت له السلطات الاستعمارية، فحاولت الحد من نشاطه، بالعرقلة وعدم السماح لقادته بالخروج من الجزائر، والزج بهم في السجون الفرنسية. وشكل اغتيال أول أمين للاتحاد العام للعمال الجزائريين، عيسات إيدير، فرصة كبيرة لجبهة التحرير، للتشهير بجرائم الاستعمار في الجزائر، فنالت تعاطف الرأي العام الدولي، فيما شكلت المساعدات والتبرعات التي كان يقدمها العمال المنخرطون لفدرالية جبهة التحرير بفرنسا، لدعم الثورة، موردا ماليا ساهم بقسط كبير في دعم الثورة. انخراط المركزية النقابية في السياسة وصل مداه في عشرية التسعينيات، عندما كان على رأسها الراحل عبد الحق بن حمودة، حيث لعب دورا كبيرا في وقف المسار الانتخابي في 1991، من خلال ما عرف ب "لجنة إنقاذ الجزائر"، وبقي هذا التوجه ساريا حتى في عهد خليفته، عبد المجيد سيدي السعيد، وتجلى ذلك من خلال الدعوة إلى إضراب فيفري 2003، غير أنه منذ ذلك التاريخ قل انخراطه في السياسة بفعل مهادنته للحكومة.