"إذا اتفقنا نحن، الشعب يمشي" عبارة تُلخص مفهوما للسلطة والشعب تجاوزه الزمن ولكنه مازال قائما ببلادنا. يتم النظر للشعب أنه باستمرار تابع للسلطة، وعليه أن يمشي كما تريد وهي باقية في مكانها لا تتغير ولا تمشي كما يريد... عبارة تحتاج إلى قراءة أخرى لعلنا نفهم معنى "السلطة لا تمشي" المعنى الحقيقي الذي يعني أنها غير قادرة على مواكبة التغيير والتعامل مع المستقبل... أليس ذلك هو الفهم الصحيح؟ لا أتصور أن النقاش الدائر حاليا حول مصير السلطة السياسية في البلاد يعطي لمعامل الشعب قيمة كبرى، رغم أن مرجعيتنا الأساسية منذ ما قبل استعادة الاستقلال هي أن السلطة بالشعب وإلى الشعب، ورغم أن الشعب بجميع فئاته هو من ضحى ودفع الثمن غاليا من أجل هذا، مئات الآلاف من الشهداء والمعطوبين والمساجين السياسيين وجنود وضباط جيش التحرير والمسبلين وأرامل وأبناء الشهداء والمشردين والأيتام والنازحين بلا مأوى... هؤلاء هم الشعب الذين بفضل تضحياتهم تم انتزاع السلطة من يد الاحتلال وتم تعبيد الطريق لجزائرنا الجديدة. أي معامل في معادلة الصراع حول السلطة نُعطيه لهم اليوم ولأبنائهم وأحفادهم ممن أصبحوا يشكلون عناصر المجتمع الجزائري بجميع فئاته؟ أي سؤال نطرحه اليوم: هل نطرح سؤال: ماذا يريد الشعب من السلطة؟ أم سؤال ماذا تريد السلطة من الشعب؟ يبدو أن التساؤل الثاني هو الذي يعنينا في هذا المقام. المتصارعون حول السلطة يعتبرون أن الشعب هو ذلك العامل المُهمَل الذي يضيفونه في الأخير لحساباتهم ليعطي الحكم ذلك الغلاف المزيف من الشرعية الذي نسميه ديمقراطية. الكلام المهم في نظر صُنّاع السياسة في بلادنا اليوم هو كيف نُسَوِّي الأمر بين جماعات المصالح التي تلخصها كلمة "نحن"، كيف نُرضي القوى الدولية أو نتجنب شرورها، كيف نستجيب لطلبات كبرى الشركات العالمية، وبعدها يأتي الكلام عن الشعب. الشعب في نظر صُنّاع السياسة اليوم تُلخِّصه عبارات فيها الكثير من الاحتقار للذات والاستعلاء على من ضحى بكل شيء من أجل بلاده تصل إلى درجة تمثيله بالكلب الجائع الذي يتبع صاحبه مادام في حاجة إلى طعام (جوع كلبك يتبعك)، اي أن الشعب مادام في حاجة إلى المأكل والمشرب والمسكن هو بين أيدينا وسيتبعنا حيثما نريد... وأحيانا تلخصه عبارة "الشعب يمشي" كما نريد، وكأنه بلا وعي ولا ذاكرة ولا تاريخ ولا إرادة ولا قدرة على الاختيار... وقد تم للأسف اختبار ذلك أكثر من مرة ولم يتمكن الشعب من الدفاع عن نفسه أو من الاعتراض على معاملته بالتهديد أحيانا وبالترغيب أخرى لكي "يمشي". في كل مرة يتم حل الإشكال بين جماعات المصالح، ومراكز القوى، وبعد أن يتم إيجاد صيغ لإرضاء القوى الكبرى، والشركات العالمية يدها الضاربة، يُعبِّر صُنّاع السياسة بأن الأمر قد انتهى وأن الإشكال قد حُل رافعين عنوانهم السياسي المعروف: "الشعب يمشي" متأكدين في قرارة أنفسهم أنهم سيفعلون ما يريدون سواء بإرادته أو بغير إرادته. حدث هذا في أكثر من انتخاب، ومازال اليوم يحدث. الشعب هو آخر من يعلم.. الشعب يمشي كما يقولون.. عكس كل قواعد الحكم الديمقراطي، وعكس كل ما يتطابق مع الرصيد التاريخي للشعب الجزائري الذي يؤمن أن تضحياته بمئات الآلاف من الشهداء هي التي مكّنته من استعادة السلطة التي يحتكرها البعض اليوم ويطلبون منه أن يمشي خلفها... هذا الوضع غير الطبيعي هو الذي ينبغي أن يستقيم إذا أردنا بالفعل أن نبني دولة عصرية قادرة على البقاء في القرن الحادي والعشرين. كيف يستعيد الشعب حقيقة سلطته؟ وكيف يُصبح بحق مصدرا للسلطات من غير تزييف ولا خداع ولا تزوير ولا محاولات للتدليس أو الضغط عليه بطريقة أو بأخرى؟ كيف نُمكّن كل مواطن من الشعور بأنه بحق يقرر مصيره بنفسه عندما يُدلي بصوته في الانتخابات، وبأنه هو من يصنع السلطة عن طريق الصندوق؟ كيف نُمكّن كل مواطن من أن يتحول من حالة الشعور بأنه يمشي لأجل آخرين يتحكمون في السلطة إلى أن هؤلاء هم الذين يمشون خلفه ليوصلهم إلى السلطة؟ كيف يصبح الشعب حقيقة سيدا في الممارسة السياسية، ويستعيد إحساسه بذلك الشعار الذي رفعته ذات يوم الثورة الجزائرية: بطل واحد هو الشعب؟ نحن في حاجة اليوم بحق إلى تصحيح معادلة السلطة في بلادنا إذا أردنا أن تستمر دولتنا مستقرة وأن تصبح قادرة على العيش مع المتطلبات السياسية للقرن الحالي. لقد عفا الزمن عن تلك الأساليب البالية القائمة على العمل الإحتقاري الاستعماري في جوهره الذي لا يُعطي أية قيمة للشعب، وتأكدت محدوديتها في الزمان والمكان وأن مآلها الوصول إلى الانسداد الذي ليس بعده سوى التناحر والاضطراب كما حدث في كثير من الدول المُغلَقة التي لم تتمكن من التكيف في الوقت الملائم مع متطلبات التغيير في بداية القرن الحادي والعشرين.. نحن في حاجة اليوم إلى الخروج من تلك القوقعة التي عادة ما تضع النظم الشمولية نفسها ضمنها في محاولة لإيجاد بدائل لها خارج نطاق الإرادة الشعبية. المطلوب اليوم من الذين يفكرون ضمن دوائر مغلقة أن ينظروا إلى تلك الحقيقة السائدة في الأوساط الشعبية المدركة لكل التحولات والقادرة على إيجاد بدائل أفضل مما لديهم سواء فيما يتعلق بحلول المشكلات المختلفة أو بصوغ أساليب للتعامل مع القوى الدولية وما يمثلها من شركات ومؤسسات. الفئات الشعبية المختلفة ليست بعاجزة اليوم على تقديم البديل، تملك من الكفاءات والقدرات ما يمكنها من ذلك وبأريحية تامة أكثر مما لدى الدوائر الضيقة في السلطة. المكوّن الشعبي اليوم قادر حقيقة أن يكون إضافة كبرى في العمل السياسي ليصنع من بلادنا بحق دولة عصرية ديمقراطية قادرة على الانتقال إلى مصاف الدول الصاعدة. لا نحتاج أكثر من أن نضع حدا للوصاية علينا، لا نحتاج إلا أن نقرأ عنوان "الشعب يمشي" قراءة صحيحة، أي يمشي مع التقدم والتطور وقادر على استيعاب الماضي والحاضر والمستقبل، كما نقرأ عنوان "السلطة لا تمشي" بالمعنى الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه، أي أنها فعلا غير قادرة على مواكبة التغيير ومستمرة في الاعتماد على تلك الأساليب البالية التي تضمن لها البقاء ولو كان في ذلك توقيف لعجلة التطور وبقاء ضمن حالة الجمود التي تلخصها بشكل دقيق عبارة "السلطة لا تمشي". نعم السلطة لا تمشي ليس بمعنى أنها باقية ولكن بمعنى أنها عاجزة أمام المستقبل...