منذ بداية التراجع التدريجي لأسعار النفط نهاية 2014، حاولت الحكومة كبت تخوفاتها من الانعكاسات المالية و الاقتصادية، على وضع داخلي "هش" على جميع الأصعدة، مؤكّدة على التمسك بكافة المكتسبات الاجتماعية، لكن تسارع وتيرة "الانهيار" غير المسبوق لتقلبات السوق خلال 15 عاما، وضع أعضاء الجهاز التنفيذي في حالة واضحة من الإرباك والتضارب في التصريحات بشأن المستقبل، وتصوّر آليات الخروج من عنق الزجاجة، لولا أنّ احتياطي الصرف المعتبر ترك هوامش للمناورة ومقاومة الأوضاع الطارئة. التفاؤل بتجاوز الصدمة أو مقاومة تداعياتها على الأقلّ، خفت كثيرا مع منتصف العام الماضي، وهذا ما ترجمته تدابير قانون المالية 2016، حيث لجأت الحكومة لرفع أسعار المواد الطاقوية، مع بعض الرسوم والضرائب، وقبل ذلك، اضطرّ بنك الجزائر المركزي لتخفيض قيمة الدينار، كما شدّدت وزارة التجارة من الرقابة على عمليات الاستيراد وتقليصها في مستويات دنيا وضروريّة، للحفاظ على رصيد العملة الصعبة، وهي الإجراءات التي وفّرت بعض مليارات الدولارات من مداخيل البلاد، لكن تكلفتها كانت مؤلمة للمواطنين، من خلال ارتفاع نسبة التضخّم والأسعار وتهاوي القدرة الشرائية . ومع تلك الآثار السلبية لتدابير الحكومة الاضطرارية، فإنّ الشعور العام بمضاعفات الأزمة ظلّ محدودًا نسبيّا، لأنها ربّما لم توجّه لفئة محدّدة، بل جاءت في صورة قرارات عامّة، ما جعلها لا تثير ردود فعل مباشرة من طرف الشركاء الاجتماعيين والنقابات المهنية، الأمر الذي دفع "الجهاز التنفيذي"، وتحت استمرار الضغط المالي، لمواصلة "الخيارات الجراحيّة"، إذ أعلن خلال اجتماع الثلاثية الأخير عن إلغاء التقاعد المسبق والنسبي، قبل أن يصعّد الوزير الأول من لهجة الخطاب ضدّ المحتجّين، بالتأكيد على المضيّ في التوجّه الجديد، مع عدم مراجعة الأجور في كل الأحوال. بيد أنّ نظام التقاعد المعدّل لا يبدو سهل الهضم على العمّال، وقد يشعل هذه المرّة شرارة الغضب الاجتماعي في وجه الحكومة، والتي "نجحت" طيلة 20 شهرا في امتصاص الصدمة الأولى، قبل أن تطلع بوادر الاحتجاج، عبر تكتل 17 نقابة تهدّد الآن بشلّ كل القطاعات، إذ بدأت في حشد العمال للتصدي للقرارات المتّخذة، مطالبة قبل أيام بلقاء الوزير الأول فورا، مع مراسلة رئيس الجمهورية لاحتواء الوضع قبل فوات الآوان. وجاء في بيان توّج اجتماعا موسّعا للنقابات، أنها كانت تنتظر إعادة النظر في الشبكة الوطنية للأجور، بتثمين النقطة الاستدلالية وتحيين مختلف المنح وتحسين القدرة الشرائية لتُفاجأ بتصميم الحكومة على "المضي في معالجة سياستها الاقتصادية الفاشلة على حساب الطبقة الشغيلة ". التوتّر القائم اليوم مع النقابات المستقلة، ينذر بخريف غضب اجتماعي سيكون عسيرا على "سّلال" وطاقمه الوزاري، لأنّ تنازل الشركاء على مطالب العماّل يبدو شبه "مستحيل" في ظلّ الأوضاع المهنيّة الحالية، كما أن رضوخ الحكومة للضغوطات الاحتجاجية جدّ مستبعد بالنظر للمؤشرات الماليّة للخزينة، ما يعني أن الطرفين يقفان عند مفترق طرق، ستكون كلمة الفصل فيه لمنطق "ليّ الذراع"، وفق قاعدة "منْ يصرخ أوّلا". الخطير في "الجولة" المرتقبة من النزال بين الحكومة والجبهة الاجتماعية، هو أنّ قطاعًا في غاية الحساسية يدخل على خطّ المواجهة، وهو قطاع الطاقة الذي ظلّ لسنوات بعيدا عن عين الإعصار، لكنه اليوم أول الرافضين لسياسة التقاعد، كما أنّ الموعد يسبق الاستحقاقات السياسية للعام القادم، ما يشكل فرصة لأطياف المعارضة في ركوب الموجة والنفخ في نيرانها إذا شبّ الحريق، خصوصًا وأن سيدي السعيد، رجل المطافئ القديم لم يُعد في وسعه أن يفعل شيئا لفائدة السلم الاجتماعي، بعدما أتى تفاقم الأزمة على كل أوراق الرهان. إذن، لم يبق أمام الحكومة سوى تفعيل مخطط النموذج الاقتصادي الجديد، والتسريع في وتيرة الأداء والإنجاز على الأرض، لاستدراك خسائر العائدات النفطية، مع فتح قنوات لحوار وطني موسّع حول جميع الملفات الشائكة في البلاد، ضمن برنامج تعبئة شعبية شاملة، وإلّا، فإنّ الجزائر مقبلة على مرحلة حرجة من الاضطرابات الاجتماعية، ستكون الطواقم الحكومية أوّل القربان الجاهزة على مذبحها السياسي.