ربما من أخطر وأهم الدراسات التي لم تأخذ حقها حتى الآن هي صورة المثقف في الرواية العربية، خاصة أن الروائي بصفته مثقفاً غالباً ما يُضمّن عمله ملامح من صورة المثقف وفقا لمنظوره الخاص والتي ربما تتطابق مع حقيقة المثقف في الواقع، لكنها بالتأكيد تعبّر بطريقة أو بأخرى عن موقع المثقف في المجتمع، ذاك الموقع الذي يتأرجح غالبا بين حَدين، إما الرفض المطلق أو الوصولية والانتهازية، بينهما تقبع نماذج أقل تطرفا في علاقتها مع مكونات المجتمع الذي تعيش فيه. من الطبيعي أن رصد تلك الصورة يشكل مدخلاً لفهم التحوّلات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التي طرأت على مجتمعاتنا العربية، خاصة أن الدور الواقعي للمثقف شهد حالات من المد والجزر منذ ما قبل تأسيس الدولة الوطنية، حتى اليوم، وهو دور أخذ سمات وتسميات مختلفة، من المثقف التنويري إلى المثقف النهضوي، ثم المثقف الطليعي، وأخيراً المثقف المؤسساتي، وكلها تعكس مراحل بارزة في تاريخنا العربي المعاصر. على سبيل المثال عكست روايات «عبد الرحمن منيف» صورة المثقف الطليعي في صراعه مع الأنظمة الشمولية، صراع ينتهي دوماً بانكسار المثقف أمام أدوات السلطة، بينما رصد «جبرا إبراهيم جبرا» حالة المثقف البرجوازي الذي يناقش المسائل من بعيد وينظر لها من دون أن ينخرط مباشرة في الأحداث، أما المثقف في أعمال المغربية «فاتحة مرشيد» وهي تتحدث عن الواقع المعاصر فهو المثقف المحبط، الملفوظ من قبل المؤسسات والمجتمع معا، التائه في محيط غريب عنه. إن كل تلك الحالات تعكس بشكل ما الأمانة السردية بدرجات متفاوتة، لكن المفصل الرئيسي الذي يمكن الوقوف عنده وتأمله هو أن المجتمعات العربية بكل تمثيلاتها لم تبن حتى الآن علاقة صحية وإيجابية مع المثقف، حتى أن خلطا كبيرا يحصل اليوم بتصنيف الأكاديمي مثقفا، وهو ما يظهر ميلا إلى اختزال مفهوم الثقافة والإعلاء من شأن التكنوقراط كمفهوم وكفئة على حساب الثقافة والمثقفين. في هذه الحال يبدو السرد مطالباً بالتعبير عن هذه الحالة، وهو مطالب بتجاوز الإطار الفكري إلى الإطار الإنساني، حيث يمكن للروائي أن يستخدم أدواته الفنية لإعطاء بانورامية هذا المشهد الجديد حقه، كما يمكن له أن يستعرض المناخات والمشاعر وردود الأفعال والحيثيات التي بلورت إقصاء المثقف، بل وشوّهت من صورته أمام الأجيال الجديدة. كان المفكر والناقد المجري «جورج لوكاش» يرى أن الرواية هي كتاب التاريخ ومدونة الأفكار، بل وصانعة التغيير في المجتمع مع الأدوات الأخرى، وهو رأي انتقده الكثيرون في الغرب والشرق، ومع ذلك فإن استعادته اليوم ليست بالضرورة للاتفاق معه، بل لتحفيز السرد العربي الذي يبدو أنه يتناسى شريحة مهمة من شرائح المجتمع، ذات الصلة العميقة بأية حالة نهوض لمكوناته.