مأساة فيصل متواصلة تعمدت سرقة دراجة لأدخل السجن هروبا من جحيم الشارع توّسلت لوالدي تسوية وضعيتي قبل وفاته فواجهني بكلمة "خاطيني" لم يعش فيصل مع أمه إلا خمس سنوات، بعد مولده في 1975، ليتوجّه سنة 1980 إلى ميتم قصر الشعب، حيث تربى على يد الراهبات، وهي المرحلة التي وصفها في حياته ب"المرحلة الحلم"، قبل أن يتقرّر نقله في 1982 إلى منزل إحدى المربيات بباب الواد، وهناك بدأت معاناة حياة رفع فيها التحدي، وراهن على أن يجد لنفسه مكانا في المجتمع وأن يثور على وضعه دون أن يؤذي أحدا. * في ذلك المنزل الذي كانت صاحبته "ب.زهية" عاش فيصل ست سنوات من صيّرتهم الظروف إخوة بالأوضاع، وكابدوا جنبا إلى جنب سوء المعاملة ودفعوا ضريبة البقاء تحت سقف الفيلا بباب الوادي، "كنّا نتعامل كالأشقاء، أذكر من كانوا معي واحدا واحدا، كنت قريبا جدا من فتيحة، سميرة وفضيلة، وكان عمري 11 سنة، الإيجابية الوحيدة التي استفدنا منها من ذلك المنزل أنه كان يسمح لنا بالتمدرس، إذ درست في ابتدائية العقيد لطفي، إلى غاية السنة الرابعة أساسي ثم فررت من مقاعد الدراسة". * والسبب لم يكن زهدا في العلم، لأن فيصل كان يضمن المراتب الأولى التي لا تتوارى خلف المرتبة السابعة، حسب قوله، لكن كونه مشاغبا، عاقبه معلّمه "ر.ش" بلكمتين في الصدر، أفقدتاه التنفس للحظات، وأشعرتاه بالخوف من مدرس يعلم وضعه جيدا ولم يقدر فيه روح الشغب التي كثيرا ما تراود أطفال الصف الابتدائي وحتى الإكمالي، فقرّر فيصل تطليق المدرسة إلى إشعار آخر. * * يد رخيصة للبناء ولا دخول دون مال أو طعام * ويواصل حديثه عما عاناه وإخوته من ومصاعب الحياة "كان لزاما علينا أن نصطحب معنا نهاية اليوم إما نقودا أو أكلا، لأن السيدة زهية تخاطبهم بصريح القول: "ماتجيش بكتافك، وينطبق الأمر على الإناث كما على البنات". * وأمام هذا الشرط "كنت أذهب إلى المسمكة وأنتظر حتى ينتهي الباعة من عملهم وأجمع ما تبقى من أسماك، وفي أحيان أخرى كانوا هم يتصدّقون بها علينا، أو أسرق بعض النقود لترضى ربة البيت بدخولنا، أما إذا قدمنا خاليي الوفاض من كل شيء، فعقوبتنا المبيت في الشارع، وكم كان حظي وفيرا من هذا الوضع، الذي كلّفني مرضا أصابني في ظهري من شدة احتمال برد الشتاء وسيول الأمطار". * * كنّا نضرب بمركز الأبيار لأننا لسنا أبناء أحد * وبعد أن قضت السيدة جميع مآربها من أولئك الصغار الذين صاروا كبارا، طردتهم إلى الشارع، حتى تستقبل أطفالا آخرين، وهنا اتصل فيصل بالمساعدة الاجتماعية بقصر الشعب، وسرد لها الحكاية كاملة، وأراد أن يتم دراسته، وما كان منها إلا أن أرسلته إلى مركز إعادة التربية بالأبيار ليحصل على غرضه، أما البقية، فمنهم من تبنتهم أسرة أخرى، ومن البنات من تزوّجت. * لم تكن هذه آخر المآسي في حياة فيصل، بل إن فصلا آخر منها سيبدأ في مركز إعادة التربية بالأبيار، حين تفاجأ الولد أن المركز لا يوفر التعليمة للسنوات ما بعد السنة الخامسة ابتدائي، واضطره ذلك إلى إعادة السنة الخامسة ثلاث مرّات، بنجاح في انتظار أن توفر إدارة المركز مدرّسين لبقية المستويات. * وروى لنا أنه كان يوجد ثلاثون فردا في غرفة واحدة، اختلطوا فيها مع أصحاب الجنح والجرائم، "لم يكن أحد يهتم لنا ولا يحاولون التقرب منا، بل إننا كنا نضرب دون أسباب، فقط لأننا لسنا أبناء أحد". * اتجه فيصل إلى أحد أحياء القصبة، حيث الحي الذي نشأ فيه أولا، وحيث يعرف الجيران قصّته، كان يقضي النهار برفقة أصدقائه والليل في السيارات أو في حديقة "مارينجو"، وهنا يتأسف "..الليل والأعياد..هلكوني..إنها اللحظات التي ينفض فيها من حولي الناس وألتقي فيها وجها لوجه مع وحدتي وبؤسي، إلى أن أطلّت علينا العشرية الحمراء، وصرت طريد الشرطة تارة وطريد الإرهاب تارة أخرى، اقتادتني الشرطة عشرات المرات إلى مراكزها وقتل الإرهاب بعض أصدقائي أمام ناظري، وصار الخروج من العاصمة حلا لا مهرب منه". * وهنا وصله اتصال من إحدى أخواته من الملاجئ تدلّه على من يريد التبني، وكان الرجل في أدرار فتوجّه إليه فيصل، ليجد نفسه في خدمة الآخرين مرة أخرى، حيث وضعه الرجل في حراسة محطة بنزين التي تبعد عن المنزل بزاوية كنتا ب70 كلم، واستمر في العمل سنة بأكملها، فاجأه الناس أن أباه بالتبني ما هو إلا مشعوذ بالمنطقة، وتأكد فيصل من الأمر بنفسه، وماكان منه إلا أن رمى له ب"ديوان الشعوذة" في الفقارة، وعاد إلى العاصمة طالبا الدخول في سلك الأمن أو آداء الخدمة الوطنية، إلا أنه في كل مرة كان يرفض بمجرد إجراء التحقيق وتبيّن أنه لا يملك اسم أبيه. * * السجن أحب إلي من كيد الشارع وظلم سنوات الجمر * وحفاظا على روحه من الهلاك، أيقن فيصل أن السجن أحسن ملجأ له في سنوات الجمر من أي مكان آخر، وبالفعل ارتكب أول جنحة في حياته، وسرق دراجة بباب الواد ودخل على إثرها سنة حبسا نافذا في سجن سركاجي بالحراش، وعاد إليه سنة أخرى بتهمة الضرب والسب والشتم، وسنة ثالثة بنفس التهمة، وخرج في 1999 باحثا عن حل من والديه. * وقصد والدته بحيدرة فلم تنفعه بشيء، فاتجه إلى أعالي بوزريعة للقاء أبيه الذي يعمل تاجرا هناك، فقبل أن يسوي له وضعيته واتجها إلى محكمة بئر مراد رايس، وهناك تشاجر فيصل مع شرطي وكان حظه دخول السجن سنة بأكملها، إلى غاية 2000، بدأ كعامل حراسة في المواقف العمومية. * وفي 2007 لما عرف أن أباه يمكث بمستشفى بني مسوس تحت إصابة السرطان ذهب إليه وطلب منه أن يسوّي له وضعيته وما كان رده عليه إلا ب"خاطيني"! وهي الإجابة التي يرد عليها فيصل بأنه نسخة من والده وأعمامه. * واستقرّ المقام بفيصل في 2003 بحي جنان المالك بحيدرة، حيث كان السكان يبحثون على من يعتني بالحي ويراقب صيانة العمارات، وبدأ يزاول نشاطه بالتزام شديد، تحت وصاية السكان الذين كانوا يدفعون أجرته، وهو يسكن "أستوديو" بإحدى العمارات هناك بعد أن خلّص الحي من الصعاليك التي كانت تحتله بشرب الخمر واصطحاب النسوة، وما إلى ذلك من انتهاكات التي لا تنتهي إلا على يدي من عرف هذه الشريحة والطريقة المثلى للتعامل معها كما فيصل. * فيصل يعيش مع زوجته وابنته ذات الثمانية أشهر، ينتظر أحكاما عادلة من المجتمع قبل العدالة، محتفظا بصدمته في إطارات يفترض منها أن تساعده، ولا يطلب من الجزائر الوطن الأم إلا أن يحنو عليه كما يحنو على غيره.