كانت الساعة قد تجاوزت، منتصف ليلة الأحد إلى الإثنين، عندما دخلنا مسمكة ساحة الشهداء، صادفنا هناك العديد من "الحراڤة"، منهم فريد 32 عاما من القليعة بولاية تيبازة يترقب رسو باخرة للتسلل إليها، كان يرتدي لباسا خاصا بالغطس تحت بدلة رياضية، هو أب لطفلين، رفض عرض ضابط الشرطة عبد السلام بوظيفة داخل مقهى ب7 آلاف دج، كان رفقة قصر بعضهم كان تحت تأثير "الديليون"، هم يترددون على الميناء بحثا عن "الحرڤة"، "الهربة" و"الهدة"، مصطلحات لهدف واحد قطع البحر إلى "الحلم". إلتقينا أيضا آخرين يقيمون منذ 18 عاما داخل كوخ بورشة إنجاز ملعب فرحاني الذي تحول إلى ملجأ المتشردين وأطفال الشارع تحت "حماية" ورعاية الكلاب الضالة و"رئيس" يسيرهم، وتمكنت دورية الشرطة من إعادة إدماج إثنين من هؤلاء ...جولتنا لم تتجاوز إقليم دائرة باب الواد، امتدت من الساعة التاسعة ليلا إلى الثانية بعد منتصف الليل ..باب الواد الشهداء هي أيضا باب الواد "المتشردين" وأشياء أخرى. الساعة تشير إلى التاسعة ونصف ليلا، عندما انطلقنا رفقة ضابط الشرطة عميروش، مساعد رئيس مصلحة الشرطة القضائية بأمن دائرة باب الواد التابعة لأمن ولاية الجزائر، وتم التخطيط في السابق لحملة مشتركة بين خلية حماية الأحداث من الإنحراف التابعة لقيادة الدرك الوطني، بالتنسيق مع خلية الإصغاء والنشاط الوقائي بأمن دائرة باب الواد، تستهدف القصر المنحرفين عشية الإحتفال باليوم العالمي للطفولة، ورافقتنا المختصتين النفسانيتين لكن المهمة اتسعت بعدها لنكتشف بعض أزقة باب الواد ليلا، الحياة صعبة ومريرة في الشارع لكنها أرحم من البيت لدى بعض هؤلاء ... في عيد الأم ..محمد المفقود يعود إلى أمه وإخوته الساعة 21 و21 د: نصل إلى ملعب فرحاني بالرميلة، هو عبارة عن مشروع إنجاز مركب رياضي لكنه اليوم عبارة عن أطلال، يبدو المكان موحشا رغم تسلل ضوء مصابيح الإنارة العمومية لبعض زواياه، نلتقي هناك شاب من حي باب الواد "يشرب"، وشاهدته يستهلك قارورتين من الجعة، كان هادئا، هندامه سليم، لم يرتبك لأنه متعود على حملات الشرطة في هذا المكان "أنا لا أقوم بأي تجاوز"، لكنه يشرب الخمر لينسى هموم الحياة وظروفه الإجتماعية الصعبة "أنا أعمل في النور"، الشباب في الجزائر يعاني الضياع، أنا سأخطب قريبا وأفضل أن أحتفظ بمشاكلي لنفسي،أنا أشرب لكن لا أسبب مشاكل ولست مسبوقا عدليا"، أسأله: لماذا تشرب في هذا المكان القريب من "حومتك"؟، ليجيب "الحانات غالية، أفضل شراء قارورتين أو ثلاث وأتناولها هنا ثم أعود إلى البيت دون مشاكل". قال إن إسمه السعيد وعمره 28 عاما، يشرب يوميا "حسب المشاكل" ...أكمل القارورة نصف الفارغة وغادرنا. سرنا أمتارا قليلة، في زاوية يوجد أشخاصا وجدنا صعوبة في تبيان وجوههم في الظلام، اقتربنا منهم بصعوبة بسبب الكلاب الضالة التي كانت تحاصر المكان، وتنبح بشدة، إكتشفنا لاحقا أنها تريد منعنا من الإقتراب من المتشردين الذين تحولوا إلى أصدقاء لهم ينامون معهم ويرافقونهم طيلة الليل ويحرسونهم أيضا، حيث تطلب تهدئتهم تدخل "صالح" 16 عاما، كان يرتدي قميصا أحمر وسروال "جينز"، حافي القدمين رفقة ياسين 21 عاما، يبدو وسخا من هندامه وشعره الأشقر مخبل، والصغير محمد 14 عاما، يرتدي لباسا غير نظيف أيضا، نحيف الجسم وحاد النظر، كانوا جميعا جالسين حول "كرطونة"، يلعبون الدومينو، وقربهم بقايا "العشاء" من جبن وخبز ومصبرات اللحوم "كاشير". تعودوا هم أيضا على الشرطة وهؤلاء تعودوا أيضا على تواجدهم في هذا المكان مثل صالح الذي يعيش حياة التشرد منذ 14 عاما، تحدث عن حياته بمعاناة خفية، والدته كانت مغتربة في الخارج، دخلت الجزائر مع رضيعها لتصاب بانهيار عصبي وتعاني بعدها من مرض عصبي مزمن، يتدخل ضابط الشرطة عبد السلام، ليوضح انه يعرف "صفية"، هي متشردة قديمة بباب الواد، كثيرا ما تصدق الناس عليها وعلى ابنها صالح بالطعام واللباس "الكل يعرفهما في باب الواد والناس كانوا يرأفون لحالهما والمثير أن الأم كانت شبه فاقدة للعقل ولا تدرك الأشياء، لكنها كانت مرتبطة بجنون بصغيرها وتتقن تربيته والتكفل به"، يقول صالح أنه لا يعرف قصة والده، لكنه كان مرتبطا بوالدته التي لازمته حتى عند تحويله إلى مراكز حماية الأحداث وديار الرحمة "درست هناك بعض الشيء قبل العودة إلى الشارع"، صفية غادرت الحياة والشارع في جانفي 2005، ويوارى جثمانها الذي أرهقه التنقل بين الزقاق وجسدها الذي أنهكه النوم أرضا على الكرتون بمقبرة سيدي لحسن بسيدي موسى ليخلفها صالح ويتحول اليوم إلى "ولي" المتشردين من الأطفال، حسبما أبلغنا به ضابط الشرطة عبد السلام من مصلحة الشرطة القضائية بأمن دائرة باب الواد الذي تابع مسار هذا الطفل المتشرد، ويتفق معه زملاؤه عند القول، إنه يتعاون مع مصالح الأمن في مكافحة الجريمة البسيطة على اعتبار أنه يترصد التحركات ليلا عند وقوع سرقة، ويساعد المحققين على معرفة الغرباء الجدد الذين يلتحقون بحياة التشرد وحتى في ضبط الأطفال محل بحث في فائدة العائلات الذين يكونون وسط المتشردين، وأكد أفراد الشرطة العاملين بإقليم دائرة باب الواد، أنهم "لا يؤذون وليسوا متورطين في جرائم" ويعترفون بتعاطيهم "اللصقة" (الغراء) واستهلاكهم "الديليون". وكثيرا ما نظمت مصالح أمن دائرة باب الواد خرجات ليلية بالتنسيق مع مصالح "سامو" أسفرت عن تحويل هؤلاء الأطفال إلى مراكز حماية الأحداث وديار الرحمة، لكن سرعان ما يفروا بعد أيام للعودة إلى حياة التشرد. ياسين 21 عاما، أخبرنا أنه جاء من ولاية الجلفة، ويعيش في الشارع منذ عامين تقريبا بعد أن هجر قريته ووالدته "المهبولة" حسب روايته، نفى تعاطيه مخدرات أو"الديليون" مؤكدا أن الظروف الصعبة هي التي رمت به إلى هذه الحياة لكنه مرتاح مع صالح والآخرين، يعمل صباحا كحمال في الأسواق، ويجتمع الأصدقاء مساء حول طبق بارد لا يخرج عن الخبز والجبن و"القازوز"، يلعبون الدومينو، يدردشون وبعدها ينامون في زاوية تمت تغطيتها بالبلاستيك، كانت تنبعث منها رائحة كريهة، لكنها تقيهم البرد والمطر، لم ألاحظ أنهم يرتدون معاطف رغم برودة الطقس ليلا، والأغطية كانت ممزقة ورثة. تدخل شاب يكبرهم سنا، هو من حي باب الواد ومعروف لدى مصالح الأمن، تم طرده من البيت، قال إن أشقاءه مسبوقون قضائيا في المتاجرة بالمخدرات ولا مكان له بينهم في البيت، تجاوز 34 عاما، يحلم ببيت وزوجة وأطفال ككل الرجال، لكن "ما عنديش الزهر"، ويشرف هذا المتشرد العاصمي على حماية رفقائه من أي إعتداء خاصة من طرف السكارى الذين حاولوا الإعتداء عليهم لسرقتهم أو الإعتداء جنسيا عليهم، وقال محمد أصغرهم "لقد هاجمناهم بالحجارة والكلاب قبل أن ينصرفوا" ..محمد جاء من ولاية سوق أهراس، لم يفقد لهجته الشرقية، صغير لكنه يتحدث كالكبار، هو هنا في الشارع منذ 3 سنوات بعد هروبه من البيت، ويعترف بوجود والديه وأنه لا يعاني من أية مشاكل عائلية أوإجتماعية، وكانت مغامرة قبل أن يتوجه لي بالسؤال "أنتم صحافة؟ لماذا تحضرون دائما متأخرين؟"، لم أفهم قصده رغم إلحاحي على ذلك، وإكتفى بالقول إنه ضائع وأنه يستهلك "الديليون" وفاته الآوان، لكنه كان مخطئا هذه المرة، بعد ساعات خلال تنقلنا إلى نقطة أخرى، ترد إلى مصالح الشرطة معلومات بشأن الصغير محمد الذي يجري البحث عنه في إطار فائدة العائلات، لكن أفراد الشرطة يواجهون صعوبة في "إنتزاعه" من رفقائه قبل ان يرضخ أخيرا، ويقدم له شرطي طعاما ويقله في السيارة، وأوضح ضابط الشرطة عميروش، أنه سيتم إرسال برقية لمصالح أمن ولايته للتأكد من هويته، مؤكدا على إتباع إجراءات لتسليمه لوالديه، كان محمد مرتاحا نسبيا، وطرح ضباط الشرطة صعوبة إعادة إدماجهم بسبب عدم التصريح بهوياتهم الحقيقية وإدماجهم في عائلاتهم أ ومراكز الأحداث التي فروا منها. 19 سنة في الشارع مع المتشردين ومازال مازال.. الساعة 12.00 نصل إلى شارع مصطفى علوش، على بعد أمتار فقط من مقر المديرية العامة للأمن الوطني، كانت فاطمة تغط في نوم عميق، على قطعة كرتون بمحاذاة عمود وتضع خمارا على رأسها، أيقظها وجودنا لكنها لم تنهض من مكانها وحذرنا بعض أبناء الحي من تفوهها بكلمات بذيئة، عمرها 30 عاما، قضت 19 عاما منها في الشارع بعد فرارها من بيتها بالشلف "عندي مرت بابا حڤارة"، فاطمة لا تريد شيئا ولا تحلم، وأبلغنا شرطي كان يرافقنا، انها حاولت الإنتحار عدة مرات، آخرها منذ يومين عندما حاولت رمي نفسها عندما أهانها صاحب محل لبيع الأثاث وطردها من "الكرطونة" التي تشغلها، بصوت خافت، قالت لنا "وعلاش نعيش؟"، وأدارت ظهرها لتنام مجددا كأن وجود الآخرين لا يعني لها شيئا، وعلمنا من أبناء هذه الحومة أنها تعرضت لعدة إعتداءات جعلتها عدوانية، غادرنا باتجاه عائلة كتبنا عن مأساتها في عدة مناسبات، زوج يقيم على أرضية قرب عمارة، تم تسييجها ب"الكرطون"، ومع ذلك تمت محاولة سرقة "البيت"، استقبلتنا الزوجة باكية على تحويل ابنيها سامية 11عاما وهشام 9 سنوات إلى مركز حماية الأحداث ببئر خادم وشوفالي "أراهما باستمرار لكن هذا ظلم"، عائلة مصطفى تعيش حياة التشرد منذ سنوات ولم تلق طلباتها بالحصول على سكن إجتماعي "قولوا لبوتفليقة أنني غريب في الجزائر ولا أشعر بمواطنتي، ويقومون بطردي عند مرور الوفود الرسمية، حرموني من سكن واليوم من أولادي " ...وعلمنا أنه تم حجز أقراص مهلوسة لدى الزوجة للمتاجرة بها دون تفاصيل أخرى. الساعة 01 بعد منتصف الليل الوجهة كانت شاطىء كيتاني، وسط الصخور، كان أربعة شبان يتناولون الجعة، أفراد الشرطة يعرفونهم باعتبارهم من أبناء الحي "جيت نعمر راسي " قال أحدهم وتحفظ عن الدردشة معنا، ليقوم أفراد الشرطة بتفتيش الغرف الخاصة بالصيادين، ويتم العثور في إحداها على شخصين كانا يستهلكان الشيرة، بالأمس، تم سماع أقوالهما على خلفية تورطهما في سرقة الكهرباء من العمود الرئيسي، وأشار ضابط الشرطة عبد السلام من الفرقة المتنقلة للشرطة القضائية بالحمامات، أن فتاة قامت قبل يوم واحد بإيداع شكوى ضد 6 أشخاص حاولوا الإعتداء عليها باستعمال السلاح الأبيض بهذا المكان، لكن التحقيقات كشفت أنه تم استدراج الفتاة من طرف شاب رضخت لطلبه مقابل 1000دج، لكن بعدها اصطدمت بوجوده مع 5 آخرين وعندما حاولت الفرار، اعتدى عليها. وأكد القيام بدوريات على مستوى هذا المكان الذي تحول إلى مكان لممارسة الدعارة واستهلاك المخدرات، لكن المشكل الذي يواجههم ميدانيا يكمن في توظيف "عيون" لإبلاغهم بتحركات أفراد الشرطة "ما يجبرنا على المداهمة قدوما من البحر أو نكون بالزي المدني"، لفت إنتباهنا وجود غرفة مغلقة بإحكام كأنها "سجن سركاجي" علق أحد الزملاء، فتح الباب الحديدي بعد دقات عنيفة من شرطي، تظهر سيدة مع شابتين وفي زاوية تنام "رميصاء" التي تبلغ عامين من العمر، هي طفلة غير شرعية ناتجة عن إعتداء جنسي على والدتها المتشردة، المكان كان مضيئا بشمعة صغيرة، ولا تتجاوز الغرفة 5 أمتار "الله غالب زوجي رفض بناتي، لأنفصل عنه ونقيم هنا هروبا من الشارع" وأضافت أنها لا تعمل وتعيش من صدقات المواطنين لكن في الخارج، أكد "الجيران" أن الشابتين تشتغلان في الدعارة برعاية الأم (...). "الحراڤة" يتحالفون مع الحشاشين والصيادين بمسمكة "السكوار" الساعة 01 :30 د: نصل إلى المسمكة، وتزامن وجودنا مع عودة الصيادين بقواربهم، وكانت مركبات النقل المصطفة تشير إلى ذلك، إلتقينا بعض "الحشاشين"، لكن لفت إنتباهنا، شاب يشبه الإيطاليين، وسيم يرتدي بدلة رياضية، قال إن إسمه فريد من القليعة بتيبازة، عمره 32 عاما، متزوج وأب لطفلين، يعمل حلاقا، هو هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل يتنظر رسو باخرة للتسلل إليها و"الحرڤة"، تمسك بمشروعه رغم نصائح الضابط عبد السلام الذي طرح عليه نتائج هذه المغامرة التي تنتهي بالموت غالبا، دعانا كشهود في عرض عمل عليه في مقهى مقابل 7 آلاف دج، لكن فريد رفض ذلك بشدة رغم تدخلاتنا للعدول عن الهجرة السرية، قال إنه يبحث عن "التاويل" لأسرته، وواجهني بالرفض العنيف عندما سألته عن سبب معارضته لشغل أي عمل "لاأعمل ماسو (بناء) ماشي وجهي"، وكشف لنا الشرطي عن بدلة الغطاسين التي يرتديها "لأنه سيحرڤ بالسباحة"، وفي زاوية أخرى، كان يغط شاب في نوم عميق، لم يتحرك رغم حصارنا له وعلمنا لاحقا أنه كان "بالع" (استهلك كمية كبيرة من الغراء)، ونحن ننسحب إلى الخارج رأينا عشرات الشباب والقصر يغادرون المكان، أشار لنا الشرطي "هؤلاء حراڤة"، لنعرج إلى مخادع الصيادين، الرائحة لا تطاق، مزيج من البول والغراء وبقايا النفايات، وجدنا امرأة بالداخل تعرضت للضرب المبرح مما أدى إلى كسر أحد أسنانها، كانت ترتدي سروالا أسود وقميصا عاريا أحمر، وتجهش بالبكاء لكنها لم تبلغ عن المعتدي عليها، وردت علينا بصراحة عندما سألناها عن وظيفتها "أنا تاع ميليو"(وسط الدعارة)، وطرحت الدوافع التي لم تخرج عن المشاكل العائلية، وذهبت سيدة أخرى وجدناها مع شخص قال إنه يعمل تاجرا في مخدع بمفردهما، في نفس الإتجاه، وقالت إنها مرتبطة بهذا الرجل عرفيا "بالفاتحة"، هي ابنة باب الواد، مطلقة وأم لطفل يعيش عند جدته وبطالة . الساعة 02 : بعد منتصف الليل : نصل إلى ساحة الشهداء آخر نقطة في الجولة، يداهم أفراد الشرطة مركزا لتوليد الكهرباء وكانت المفاجأة كبيرة عندما وجدنا بالداخل 6 أشخاص، نائمين جميعا وكانوا تحت تأثير الخمر، تم التعرف على بعضهم من برج الكيفان، متورطين في إعتداءات بالخطف على متن دراجة نارية، وأسفر تفتيش أحدهم عن العثور على أساور شدد على أنها ملك زوجته وهي ليست ذهبية، قبل اقتيادهم لمركز الشرطة لسماع أقوالهم . انتهت المهمة، غادرنا المكان بإتجاه بيوتنا الدافئة، ولا نحمل من هذه الليلة إلا صور الأجساد المتناثرة هنا وهناك في كل مكان، وفي أنوفنا علقت رائحة الخمر و"الديليون". ربورتاج: نائلة.ب:[email protected]