تصوير مكتب بسكرة الحرفة قتلت 58 شابا في باتنة والمناجم ابتلعت 8 عمال في تبسة في عام واحد ماذا يمكننا أن نقول لشاب بطال، وهو يختار مهنة قد توصله إلى قبره في أقرب الآجال؟ بماذا يمكننا أن نعوّضه من عمل وهو يختار عن طيب خاطر مهنة أرسلت للعالم الآخر أترابه وربما أصدقاءه وإخوته؟ أسئلة طرحناها ونحن نتجه لمحاورة هؤلاء الشباب، الذين فضلوا مهن الموت على بطالة الموت، فكان الاختيار على أطفال الحجارة في "تكوت" بولاية باتنة، التي تعطينا كل يوم ضحية جديد، وفي مناجم تبسة التي كما تعطي العزة للناجين تعطي الموت لآخرين. * مرّ وقت لما كان الشاب الراغب في الزواج يُسأل من طرف أهل الفتاة: هل تمتهن حرفة صقل الحجارة؟ حتى إذا أجاب بنعم، رضوا به زوجا لابنتهم، ليضمن لها العيش الرغيد، أما الآن فقد أتى على أهل تكوت حين من الدهر يسأل فيه الخاطب السؤال ذاته، ويرفض طلبه إذا كان قد مارس أو يمارس مهنة الموت، هذه الصورة المأساوية تعكس بجلاء، حجم المعاناة النفسية التي تلازم مرضى السليكوز وأهاليهم في تكوت، بعدما أثبت الواقع أن هذه المهنة التي كانت مربحة ذات وقت، صارت مهنة للموت، حصدت إلى حد الآن 58 ضحية، منهم من تركوا زوجات صرن أرامل وأبناء صاروا يتامى. * عودتنا إلى هذا الموضوع تتزامن واستمرار المسيرة نحو المقبرة، حيث طالت المنية الضحية الشاب مزياني، الذي يحمل رقم 58 ضمن قائمة الضحايا التي تبقى مفتوحة، بالأمس القريب كانت مهنة صقل الحجارة نافعة ومربحة، لتزيين واجهات و"فيلات" الأثرياء بحجارة صيروها ملساء متعددة الأشكال والقوالب، وقتها كان كل من يفشل في الدراسة يلتحق بمن سبقه إلى المهنة من أقاربه وأصدقائه، أما المتمدرسون فكانوا أقل خوفا من مستقبلهم من نظرائهم في جهات أخرى، ما دامت المهنة المربحة تضمن لهم فرص الالتحاق بعالم الشغل دون عناء، وبتحول المهنة المربحة إلى مهنة للموت، لم يعد المتمدرسون في الثانوي والمتوسط يفكرون فيها، جاعلين مستقبلهم الدراسي في صدارة اهتماماتهم، وهذه هي الفائدة الوحيدة التي أفرزتها الظاهرة الوبائية في تكوت، بحسب أحد المهتمين بالوضع الصحي للسكان، ما دون ذلك كله مأساة ومعاناة. * * التنفس الاصطناعي آخر العلاج * يخضع حاليا حوالي 8 أفراد إلى التنفس الاصطناعي في منازلهم بتكوت، لا يبارحونها لارتباطهم الدائم بقارورات الأكسجين، وهي آخر مرحلة من مراحل العلاج لمحاربة الداء، بعد فشل الأدوية والعمليات الجراحية، وتزداد حالة المرض سوءا خلال فصل الشتاء ، حيث تزداد معاناتهم مع المرض، وتكون حاجتهم إلى الأكسجين أكبر، في حين يوجد مرضى آخرون، غير أنهم لا يتعاطون الأكسجين حاليا، نظرا لحالاتهم التي لا تستدعي ذلك. ولذلك فهم أحسن حالا من المجبرين على البقاء في منازلهم، على غرار الشابين محمدي وجغروري وغيرهما، حيث الأول اعتذر عن الحديث إلينا، بينما رحب الثاني ب"الشروق اليومي" في منزله الواقع في قرية شناورة، المنزل لذي يعد نموذجا حقيقيا لمعاناة المرضى وأهاليهم، لكونه شهد وفاة أحد ساكنيه، وهو الشاب بشير جغروري، شقيق الشاب الصالح الذي يخضع حاليا إلى التنفس الاصطناعي، وهذه حكايته مع الداء. * التحق الصالح جغروري بمهنة صقل الحجارة في بداية الألفية الثالثة، حيث اشتغل في عدة ولايات في الشرق والوسط والغرب، وبعد 6 سنوات بدأت أعراض المرض تظهر عليه، قومها بأدوية وصفها له طبيب عام، وقلل من ساعات العمل في اليوم، بعدما تفاقمت حالته الصحية نحو الأسوأ ، حيث صار لا يقدر على صعود السلالم، ما أرغمه على ترك المهنة. * في تلك الأثناء كان شقيقه المرحوم بشير، هو الآخر توقف عن صقل الحجارة، تزوج الأول وأنجب بنتا، بينما توفي الثاني في نوفمبر 2007، وتزامنت وفاته مع تدهور حالة صالح الصحية، حيث تم نقله إلى مستشفى باتنة، وأجريت له عمليتان في شهر واحد لأزاله الهواء من رئتيه، غير أن ذلك لم يجده نفعا، إذ زادت حالته تدهورا منذ 2009، فكان إخضاعه إلى التنفس الاصطناعي آخر حل اهتدى إليه، على غرار عدد آخر من المصابين بالداء، وأمام ضعف مدخول والده بلقاسم جغروري، يأمل صالح في الاستفادة من التأمين، وهي الأمنية التي صارت مطلبا يتقاسمه المرضى الذين أصبحوا بطالين على غرار كمال جغروري شقيق الصالح، وبشير هو الآخر طاله المرض ومكث في المستشفى 4 أشهر، قبل أن يخرجه والده لما شاهد حالته تدهورت أكثر، ولحسن حظه تحسنت تدريبجيا ولم يعد ملزما على تعاطي الأكسجين. ورغم كل هذا لا يزال العشرات من شباب تكوت يزاولون مهنة الموت، ولسان حالهم يقول:" أحييني اليوم واقتلني غدا"، فرارا من شبح البطالة. * * العلاج في الخارج هل يعيد الأمل؟ * لم يعد شباب تكوت المصابون بالسليكوز الرئوي يثقون في العلاج بمستشفيات الجزائر، ولا يثقون فيما يصفه لهم الأطباء من أدوية، هذه هي الحقيقية المرة التي لمسناها لديهم، وصار الكل مقتنعا بها، بعد عودة بعض منهم من تونس حاملين رسالة أمل يف الشفاء، وهو ما حذا بالشاب غافور إلى القول: "اجعلونا فئران تجارب لتشخيص الداء والدواء"، ومقصوده وضع حد للتضارب حول تحديد المرض من طرف الأطباء، وهو ما أكده لنا الشاب عبد الوهاب محمدي الذي مارس المهنة مدة 13 سنة، فطاله المرض وقصد العيادات الخاصة المتخصصة والمستشفيات، فنصحه أحد الأطباء باستعمال الأكسجين وسيلة لمكافحة الداء، بعدما بينت التحاليل التي أجراها في قسنطينة انخفاض نسبة الأكسجين في جسمه، قبل أن يسافر إلى تونس طلبا للعلاج، حيث قصد أشهر العيادات، فاتضح أن نسبه الأكسحين في جسمه مرتفعة، وقد نصحه الطبيب باتخاذ الحيطة من أن يصاب بنزلة برد، وممارسة نشاطه كأي شخص عادي. * وبحسبه، فإن 4 آخرين طلبوا العلاج في تونس، وآخر يوجد في فرنسا شفي تماما من المرض، وعلى ضوء هذه الأخبار التي يتداولها المرضى، تولّد لديهم أمل بالشفاء، وصارت لديهم قناعة مفادها أن الشفاء يوجد خلف الحدود، لكن هل الجميع لديهم من الإمكانيات ما يسهل عليهم مهمة السفر إلى الخارج؟ * لقد ضاق مرضى السيليكوز الرئوي في تكوت ذرعا من تواصل المسيرة نحو المقبرة، وعبروا عن ذلك في تجمهر احتجاجي أمام مقر البلدية، طلبا لأخذ قضيتهم على محمل الجد من طرف السلطات المركزية، حيث قال أحدهم بصوت عال: "لا نريد ملتقيات شكلية، بل نريد ملتقى يرعاه رئيس الجمهورية"، فيما دعا آخر إلى تسهيل إجراءات الحصول على جوازات السفر، أما آخر فقال: "لا توجد عبارة لا أمل في الشفاء في قاموس الطب"، الأمل قائم بحسب الشاب غافور، الذي يترقب ظهور أول حالة شفاء ليضرب البارود ويقيم الأفراح، لرسم الفرحة على وجوه الأرامل والأيتام. * * عمال المناجم على حافة القبور * شباب يعمل بالكفن وآخرون كتبوا وصاياهم * تصنف ولاية تبسة كمصدر ضخم لمواد الحديد و الفوسفات و الجبس، واستخراج الرمل والحصى، والمقدرة ب 11 منجما و13 مرملة و20 وحدة إنتاج للحصى، وهو ما جعلها تصنف من بين أكبر الولايات التي تحصل بها حوادث عمل مميته وإصابات مختلفة، جراء الظروف التي يعمل فيها العمال، أو المخاطر الظرفية التي تقع دون توقع حدوثها، سواء بالمناجم أو بغيرها، دافعة ثمنا من أرواح البشر مقابل استخراج مختلف المواد، فحسب إحصاءات السنة الماضية، فإن الذين لقوا حتفهم تجاوز عددهم 8 عمال وأكثر من 10 مصابين باصابات مختلفة، البعض منهم أصيب بعاهات مستديمة، وتعتبر هذه الأرقام قليلة جدا إذا ما تم مقارنتها بأرقام العشريتين الماضيتين، حيث كان عنصر الوقاية من حوادث العمل غير كاف، ومع مرور الأيام والسنوات اتخذت مختلف الإدارات المنجمية العامة والخاصة، وهذا بفضل الجهات المعنية بالمراقبة والتفتيش والوزارة المعنية والاحتياطات اللازمة، للتقليل من الحوادث كمرحلة أولى، ثم القضاء عليها بصفة نهائية، وهو حلم قد يتحقق حسب أحد المسيرين في حديثه إلى "الشروق اليومي"، مؤكدا بأن الوقت قد حان لتأمين حياة الأرواح، خاصة أولئك الذين يعيشون تحت الأرض، وما يعانونه من عزلة عن العالم الخارجي وقربهم من الموت، وهي الحقيقة التي وقفت عليها "الشروق اليومي" في أكثر من منجم بولاية تبسة، إذ أن العمال الذين يدفعون بأرواحهم لاستخراج ما بداخل الأرض من أجل الجزائر، يستحقون العناية والاحترام من الجميع، وينبغي تأمين عودة كل عامل في المناجم إلى بيته سالما. ومن جهتهم أكد بعض عمال المناجم المتقاعدين بتبسة والونزة والقنقيط وبوخضرة، أن المسؤولية ضخمة في حماية أرواح العمال، خاصة وأن الكثير منهم من يدخل إلى قاع الأرض ينتابه الشك بعدم العودة إلى أهله سالما، ولولا الشجاعة لما غامر أي عامل في هذه المهنة التي تعتبر من أصعب المهن، ولكن أحلاها على الإطلاق، خاصة وأن مورد الجزائر الاقتصادي بعد النفط هي المعادن، وعليه كما قال المتقاعد بن حسان "نحن كنا ننظر إلى قضية عملنا بالمناجم رغم الخطورة عبارة عن جهاد، لا تختلف عن المرابطين في الحدود، والعاملين من أجل ازدهار ورقي الجزائر" وعليه يتحتم على المعنيين توفير إجراءات السلامة المهنية بمختلف المناجم، التي تسيرها الدولة أو الخواص. * ومن جهته، كشف إطار بإدارة المناجم أن السبب الرئيس في وقوع الحوادث بالمناجم يعود أساسا إلى كثرة الإنتاج في الأيام القليلة الأولى، بعد استئناف الإنتاج قبل العودة تدريجيا إلى القدرة الكاملة، كما أن الإنتاج المفرط هو أحد العوامل وراء حوادث المناجم. بالإضافة إلى أعمار المناجم، حيث يرجع عمر منجم القنقيط مثلا إلى القرنين، والأمر كذلك لمنجمي بئر العاتر والونزة و بوخضرة. هكذا هي حياة آلاف من العمال بولاية تبسة التي تزخر بمناجم مستغلة وأخرى في طريقها إلى الاستغلال، يهربون من الموت على سطح الأرض إلى الموت في باطنها، تحت ركام الحديد أو الفوسفات والجبس. كم هي قاسية حياتهم .. يمضون الساعات داخل باطن الأرض في كل ليلة وساعة.. يرون الموت مرات ومرات.. عزاؤهم في ذلك إسعاد أبنائهم وعائلاتهم.. يعرفون ووطنهم انهم قد لا يخرجون من باطن الأرض ولكنهم يرون فيها رزقهم الذي قد لا يتحقق.. إنهم حقاً شريحة تهوى الحياة على حافة القبور.. عمال المناجم يعيشون أزمات نفسية وتشاؤما كبيرا إلى درجة أن بعض الأهالي يشيّعون أبناءهم وكأنهم متوجهون إلى الحرب، وقال لنا أحدهم إنه في بداية عهده مع هذه المهنة كان يرتدي ثيابه تحت كفنه، وأكد آخرون أنهم كتبوا وصيتهم، لأنهم يشعرون أن الموت أقرب إليهم من أي شيء آخر.