صورة شاحبة لأغنى بلدية في الجزائر وثاني أغنى مدينة في إفريقيا يعرفها الجزائريون في الداخل والمهجر برئة الجزائر الاقتصادية ويدينون لها بتمويل 48 ولاية، فهي الحبل السري لميزانية الدولة أما قاطنيها فينعتونها بمضخة الفساد في الجمهورية.. يسميها الأوروبيون عاصمة النفط وآبار البترول، أما الداخل إليها فيصفها بعاصمة الطرقات المهترئة والمرافق المنعدمة.. * يلقبها الأمريكيون بمغارة الذهب الأسود، أما العارفون بخباياها فيجمعون على أنها "مغارة عمي مسعود والمسؤولين المحليين".. هي أغنى بلدية في الجزائر وثاني أغنى مدينة في إفريقيا.. ميزانيتها السنوية بحجم ميزانية دولة الموزمبيق ومساحتها أكبر من مساحة الأراضي التونسية بأكملها.. الداخلون إليها يحملون تراخيص بالعبور، أما الخارجون فيها عن القانون فأغلبهم من المسؤولين... * مطلع الأسبوع الجاري شددنا الرحال باتجاه عاصمة الواحات ولاية ورڤلة في الجنوب الشرقي من الجزائر قاصدين أهم وأكبر دوائرها الإدارية حاسي مسعود التي تبعد حوالي 80 كلم عن عاصمة الولاية و900 كلم عن الجزائر العاصمة.. حاسي مسعود ببلديتيها البرمة التي تنام على أكبر حوض بترولي في الجزائر "حوض باركين" على بعد 430 كلم من مقر دائر ة حاسي مسعود وقرابة 500 كلم عن وسط مدينة ورڤلة، أما البلدية الثانية فهي حاسي مسعود أغنى بلدية في الجزائر والثانية إفريقيا بميزانية سنوية تتجاوز 1800 مليار سنتيم تجنيها من ضرائب ورسوم أكثر من 149 مؤسسة نفطية وخدماتية... * * القصة الكاملة للنفط في الجزائر.. * دخلنا مدينة حاسي مسعود عبر مدخلها الشرقي قادمين من تڤرت برا وسط زوبعة رملية هوجاء ملأت الجو رمالا وغبارا يمنعك من الرؤية حتى لأمتار قليلة في بيئة صحرواية صعبة وقاسية حيث شلت الزوبعة الرملية الحياة بجميع أوجهها في مدينة تهدي الحياة لدولة بأكملها وتُحرك مؤسسات عالمية ومجمعات متعددة الجنسيات، فالزوبعة الرملية أوقفت الملاحة الجوية بمطار كريم بلقاسم المتاخم لمنطقة "ايرارة" أشهر المناطق بحاسي مسعود، فهي تجمع أكبر المؤسسات النفطية الأمريكية والأوروبية وبالطبع الجزائرية (سوناطراك". * قصة النفط في المنطقة بدأت بالصدفة مع أحد البدو الرحل "روابح مسعود" مواليد سنة 1875 من قبائل شعانبة فرقة أولاد بلقسام بأولاد جلال حيث قصد جهة محاذية لحوض الحمراء بحثا عن ماء ينعشه وترتوي به أغنامه ونوقه فشرع في حفر بئر بقرن معز لعدم توفره على وسائل حفر، إلا أنه وبعد مدة من الحفر بدأ لون الرمل يتغير إلى أصفر محمر فأحمر نحاسي إلى أن بدت له مادة سائلة فظنها ماء إلا أن لا رائحتها ولا لونها يشبه الماء، مما جعل من البئر والحادثة حديث العام والخاص، إلى أن بلغ أسماع الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي نقلت عينة من المادة لمخابرها في فرنسا سنة 1917 وتكون المفاجأة التي غيّرت وجه وحاضر ومستقبل مدينة حاسي مسعود التي تعني بئر مسعود نسبة إلى بئر مسعود روابح. . * * جزائريون من 48 ولاية وأجانب من 104 جنسية.. * بئر مسعود روابح الذي أهدى الجزائر ثروة النفط زارته "الشروق اليومي" كمعلم تاريخي، إلا أن حالته المهترئة والإهمال الذي يلفه لا يختلف كثيرا عن حال عائلة وأحفاد مكتشف النفط في المنطقة، فالبئر أحاطه الأهالي بسياج ودهنوه بجير أبيض لعله يحفظه من رياح الرمال وقسوة الطبيعة وزينوه بأعلام بالية وبخط اليد وثّقوا على صفيحة قصديرية تاريخ بئر ومنطقة وثروة وأمة، أما عائلة مسعود روابح فلا تزال ابنته "بوكة روابح" التي تقارب التسعين تواجه شظف العيش ومرارة الحياة في بيت أو بالأصح جحر سقفه سعف الجريد وبابه بقايا النخل في قرية فقيرة ببلدية الرويسات الواقعة على بعد 05 كلم فقط عن مقر ولاية ورڤلة، والتفتت السلطات المحلية مؤخرا للحاجة روابح بعد أكثر من نصف قرن من المعاناة في صمت لتكرمها بتلفاز حتى تشاهد في جحرها الخيرات التي يدرها البئر الذي حفره أبوها ذات يوم. * بئر "مسعود" استقطب المستعمر الفرنسي وجمع الجزائريين حوله بعد الاستقلال قادمين من 48 ولاية باحثين عن منصب شغل ومنبع رزق بعد أن ضاقت بهم مدنهم وبلداتهم عندما عصف بها شبح البطالة، كما جذب البئر الذي صار آبار لآلاف الأجانب ممثلين ل 104 جنسية يشتغلون في 72 مؤسسة أجنبية تجمعها عقود شراكة وتعاون مع مؤسسة "سوناطراك" الجزائرية لتطوير عملية استخراج النفط وتكريرها في أكبر المصانع الجزائرية التي تضيء شعلها ليل حاسي مسعود، أما صيفها فهو الجحيم عندما تتضاعف درجة الحرارة الطبيعية التي تتجاوز ال 45 درجة لتتعدى عتبة الخمسين درجة بسبب حرارة النيران الملتهبة من مصانع تكرير البترول بالمنطقة. * * تراخيص حمراء وزرقاء وصفراء لدخولها.. * ورغم الأفواج البشرية الهائلة التي تدخل يوميا عاصمة النفط في الجزائر قادمة من الولايات ال 48 للجمهورية، بل من الجهات الأربع للمعمورة، فإن مهمة دخول قلعة الذهب الأسود ليست بالسهلة، حيث تطوق المدينة ثمانية حواجز أمنية متمركزة في مداخلها لتأمينها بصفة كاملة، ويجب أن يحمل كل داخل إليها ترخيصا بالعبور يستلمه من المراكز الأمنية على مستوى مداخل المدينة بعد مراجعة وثائقه والتؤكد من سلامتها وعدم تمثيله لأي خطر على المنطقة وقاطنيها والعاملين بها فاشتمالها على ثروة نفطية هائلة وضمها لآلاف الأجانب وأكبر المؤسسات النفطية العالمية يجعلها مدينة حساسة ذات خصوصية تستدعي استراتيجية أمنية خاصة. * وتختلف التراخيص الممنوحة لدخول منطقة حاسي مسعود وفقا للقرار رقم 834-95 الصادر في 12 فيفري لسنة 1995 من شخص لآخر، فالمقيمون بها يتحصلون على تراخيص ذات لون أصفر صالحة لسنة واحدة قابلة للتجديد، كما تحدد الرخصة منطقة تحرك صاحبها حيث يمنع عادة من التجول بمناطق الآبار البترولية والقواعد السكنية للمؤسسات الأجنبية ومصانع تكرير البترول حفاظا على أمنه وأمن المنطقة، أما الترخيص الممنوح للعاملين بالمؤسسات النفطية فهي تراخيص حمراء تحدد مدة صلاحيتها حسب مدة العقد الذي يجمع العامل بصاحب العمل، كما بإمكان أقارب المقيمين بالمنطقة أو الجزائريين الراغبين في زيارة مدينة حاسي مسعود من الحصول على تراخيص زرقاء تحدد أسباب زيارتهم ووجهتهم وكذا مناطق تحركهم. * * أغنى مدينة في الجزائر وأشهر بلدية بقضايا الفساد.. * رغم أن بلدية "حاسي مسعود" تعد أغنى بلديات الوطن من حيث المداخيل التي تجنيها خزينة البلدية من ضرائب ورسوم 149 مؤسسة بين شركات نفطية ومختصة في الحراسة من بينها 72 أجنبية و35 وطنية عمومية و42 وطنية وخمسة مصانع كبرى لتكرير البترول والغاز فضلا عن ما تدره 1572 بئر بترولي و116 بئر غاز، إلا أن وضعية طرقاتها المهترئة وانعدام أدنى مرافق الحياة العصرية بمدينة يقصدها آلاف الأجانب ممثلين ل 104 جنسية تُظهر حاسي مسعود في صورة أفقر مدينة ليس في الجزائر وحسب وإنما في إفريقيا، كما أن لجوء تجارها وأصحاب المحلات للمضاربة في الأسعار باعتبار أن أغلب قاطني المنطقة من فئة موظفي المؤسسات النفطية ذوي الأجور الخيالية ما يزيد من معاناة العائلات الفقيرة بالمنطقة. * ولعل ما حملته الحصيلة السنوية لمصالح الدرك الوطني بدائرة حاسي مسعود لسنة 2009 في إطار نشاط معالجة الجرائم الاقتصادية وحماية الاقتصاد الوطني من مؤشرات تشرح إشكالية أغنى بلدية في الوطني التي تفتقر لأبسط المرافق من خلال حجم الفساد المالي الذي ينخر المنطقة ويزج بها في مستنقع فساد المسؤولين المحليين ما يعرقل عجلة التنمية، حيث أحصت الحصيلة 7 قضايا ذات صلة بالتعريف الجمركي في حين تمثلت القضايا ال 12 المتبقية في قضايا صفقات غير شرعية ومخالفات اقتصادية تورط فيها "أميار" البلدية المتعاقبين، فضلا عن أمر قاضي التحقيق بمحكمة ورڤلة فتح تحقيق حول عشرات الإطارات العاملين بالمؤسسات النفطية المتواطئين مع مسؤولين محليين بالمنطقة في إبرام صفقات مخالفة لقانون الصفقات العمومية لسنة 2002 المعدّل والمتمم سنتي 2003 و2008 كما قضت محكمة ورڤلة نهاية السنة الماضية بسجن رئيس بلدية حاسي مسعود الأسبق ونائبيه وكذا عدد من المقاولين وإطارات بالمؤسسات الناشطة في المنطقة، ما أدخل البلدية في دوامة حيث لا يزال منصب رئيس البلدية شاغرا منذ أكثر من ستة أشهر، ليتولى الوالي المنتدب مهمة تسيير البلدية بالانتداب.