لاحظتْ أم حمزة خلال احتكاكها بالنساء اللواتي كن معها داخل المضافات، واللواتي بقيت معهن أياما، أن أغلبهن كن يمثل نفس حالتها، أي فُرض عليها أمر الدخول إلى المنطقة من قبل زوجها أو شقيقها أو فرد من عائلتها، في حين وجدت أن الباقيات قدمن بمحض إرادتهن، بعد أن فرت كل واحدة من بيتها باتجاه المجهول.. فتيات وجدن أنفسهن ضحايا إرهابيين كانوا يختبئون معهن في المضافات ويأمرونهن بالخروج إلى فناء المنزل عند سماع صوت الطائرة حتى لا تقصفهن. تكمل أم حمزة، التي لم تستطع مسك دموعها، سرد جحيم ما عاشته الأيام الأخيرة مع التنظيم: "سمعنا صوت صراخ النساء قادما من المضافة التي كانت بجانبنا لنفاجَأ بأنهن يحترقن وهنَّ على قيد الحياة". تتحسَّر شاهدتنا وتنهار وهي تعيد تذكُّر مشهد احتراق النساء والأطفال وصراخهم دون أن يجدوا المساعدة من أي إرهابي تابع لداعش. وحسبها، فإن من أشعل النار كان الأمير المكنى ب"أبي حاتم السينغالي". هذا الأخير، أمر بحرق كل مضافات النساء حتى لا يسلِّمن أنفسهن أو يقعن بين أيدي الجيش ويقدِّمن معلومات عنهم. نفس الأمير أمر بحرق المضافة التي كانت توجد بها أم حمزة، ما تسبب في ذعر كبير وسط النساء والأطفال، لم تنس مشهد النساء وهن يحاولن الهرب وكل واحدة تقول: "نفسي نفسي"، وتصعد وهي تحترق فوق جسد الثانية وسط إغلاق الأبواب من قبل الإرهابيين، الأمر الذي دفع بالنساء إلى كسر زجاج النوافذ ومحاولة الخروج منها، خاصة أن عددهن كان يتجاوز خمسين امرأة. تتذكر شاهدة العيان، المشهد وهي ترتجف. فقد احترق ساقاها وهي تحاول الإفلات من النيران التي أكلت جزءا من ثيابها، فيما لم ترحم أجساد نساء لم يستطعن النجاة.. أطفال صغار ماتوا دهسا تحت الأقدام وآخرون أصبحوا رمادا ولم تشفع لهم صرخاتهم التي وصلت آذان الإرهابيين. وتضيف محدثتنا أنها وبعد نجاتها رفقة بعض النساء، حاولن التوغل وسط الركام والوصول إلى الجيش لتسليم أنفسهن ليفاجأن بخروج شابة في الثلاثين من عمرها وهي تحمل حزاما ناسفا ترغب في تفجيره وسطهن، لقطة لا يمكن نسيانها، تقول: فقد ظن بعضهن أنهن نجون من الموت المحتم ليفاجأن بأن سيناريو الموت قد عاد إليهن، ولكن هذه المرة عن طريق عملية انتحارية الهدف منها "دخول الجنة"، حسب معتقد الإرهابيات الانتحاريات. تقول أم حمزة إن الفتاة لاقت هجوما قويا من قبل النساء اللواتي طردنها وهن يصرخن: "لن نسامحك إن فعلتها، سنقابلك أمام الله لن نسامحك".. هنا انسحبت الانتحارية السودانية "ولم نرها منذ ذلك اليوم.. فربما فجرت نفسها في جهة ثانية. فمعتقدهن خطير وإيمانهن بالجنة كانتحاريات كان أكبر". اليوم، وأم حمزة بين أيدي أجهزة الأمن الليبية، تبدي ندمها على المرحلة التي وصلت إليها، خاصة أن شقيقها الذي أوصلها إلى ما هي عليه، قُتل هو وأولاده خلال المعارك. لم تغادرنا المتحدثة إلا وهي تنصح جميع النساء بملازمة منازلهن وعدم الانجرار وراء تنظيم كاذب مغرَّر بفتيات يرين أمورا يعتقدن أنها إيجابية وهي في الأخير متاهة وفوهة الخروج منها تكلف صحابتها غاليا.
أم عمر ومضافات بن قردان التونسية أم عمر، أو هكذا لقبها التنظيم، فتاة تونسية عمرها 22 سنة، بدأت حكايتها حسب ما نقلته لنا، من قصة منع أهلها لها من التحجّب ووضع النقاب، ضغط الأهل عليها جعلها تتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي متنفسا لها. وهنا تقول محدثتنا إنها تعرَّفت على فتيات وكانت تشتكي إليهن المضايقات التي تتلقاها من قِبل أهلها، ليبدأ دور الفتيات في تقديم الوعود لها بتوفير "الحياة الإسلامية الصحيحة" التي ترغب فيها، و"تحكيم شرع الله" الذي يفرض اللباس الذي تحلم به. تقول أم عمر إنها الحياة التي طالما حلمت بها، وما زاد من قناعتها هو الأشرطة والأناشيد الدينية التي كانت الفتيات ترسلها إليها، التي تحمل الراية السوداء وتعد بإقامة "الخلافة الإسلامية". تقول أم عمر إنها كانت لا تعرف جنسيات الفتيات اللاتي كانت تتحدَّث معهن بحكم أن الحديث كان باللغة العربية وأن كل واحدة فيهن ملقبة بأم فلان، يعني شخصيات وهمية لا تقدم الأسماء الحقيقية وتختفي وراء شبكات التواصل الاجتماعي مثل الأنستغرام، عالم افتراضي رمى بالتونسية الصغيرة نحو المجهول. بعد أشهر من الحديث المطوّل مع شبكة المجندات لداعش، وبعد غسيل تام للدماغ، نصحت الفتيات الشابة صاحبة ال22 سنة، بالخروج من بيت أهلها، عارضات يد المساعدة في ذلك، وهذا عن طريق إرسال سيارة خاصة تقلها من أمام باب منزلها، وهو ما حدث فعلا، والوجهة كانت منطقة بن قردان التونسية، منطقة اكتشفت فيها أم عمر أنها لم تكن الوحيدة الفارَّة من منزلها أو التي تواصلت مع الشبكة. تقول محدثتنا إنها وقفت بمنطقة بن قردان التونسية على مضافات خاصة بالنساء، واحدة منها كان بها ثلاث فتيات تونسيات قررن أيضا التوجه نحو داعش، في المقابل كان يتكفل بالعملية أشخاص لم يكن مسموحا لهم بالكلام كثيرا مع الفتيات، وإنما تطبيق الأوامر بحذافيرها وهي نقل المنتسبين الجدد حتى من الرجال من داخل تونس نحو ليبيا وبالتحديد منطقة صبراته. وعن الرجال، تقول محدثتنا إن وجهتهم كانت الدول الأوروبية ولم تعرف السبب لكنها تؤكد أنهم ذكروا إيطاليا أمامها، الطريق كانت آمنة حسبها؛ إذ لم يمروا عبر البوابات الرسمية ولم يختموا جوازات سفرهم، وحسبها، فإن الأشخاص المهرّبين المنتسبين إلى داعش كانوا على دراية تامة بالطريق ووقت الإقلاع والوجهة المحددة للوصول، ما يعني أنهم أشخاص متعوِّدون على نفس المهمة. تكمل أم عمر، أنه وفور وصولهن إلى منطقة صبراته الليبية تم تسليمهن إلى عائلة ليبية، وسيدة كانت مكلفة باستقبال تلك الفئة "المهاجرات من الفتيات"، عرضت تلك السيدة زواج ابنها المنتسب إلى التنظيم على أمِّ عمر التي رفضت الفكرة جملة وتفصيلا لكونها لم تأتِ بغرض الزواج، وبعد أيام تم ترحيلهن نحو منزل آخر، وهنا بدأ سيناريو التزويج القسري أو الإجباري لجنود التنظيم، مبادرة تكفل بها الشيوخ الكبار أو "الدعاة" كما يسمونهم، الذين كانوا يقصدون الفتيات ويعطونهن دروسا في الدين و"وجوب النكاح مع المجاهدين"، ووصل بهم الحد إلى جلب عقود زواج شرعية، حسبهم، دون حضور الزوج وموافقة الفتاة، تقول أم عمر: "هنا عرفتُ حقيقة التنظيم وأن هدفهم من جلبنا كان لغرض جنسي لا أكثر، وكل الوعود التي قدمت لي عن الحياة البسيطة وتحكيم الشريعة الإسلامية لم تكن سوى طُعم لجلب أكبر عدد من الفتيات تحت مسمى جهاد النكاح مع المنتسبين إلى التنظيم". لم يكن أمام محدثتنا سوى التفكير في التخلص من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، تضيف أنها اتصلت بعائلتها خلسة وأخبرتهم بمكانها وتواصلت أيضا مع الأمن التونسي الذي طلب منها إبقاء الهاتف معها وفتح رمز تحديد المواقع، أمل لم يدم طويلا بالنجاة فقد انتبه أفراد التنظيم إلى تحرُّكات الفتاة وحكموا عليها ب"الردة"، و"الردة" لديهم تعني إبقاءها حبيسة الجدران إلى غاية تحويلها إلى "المفتي الشرعي" وإصدار الحكم النهائي في حقها. في تلك الفترة التي فاقت ستة أشهر، تقول أم عمر إن مكانها كان يغيَّر كل شهر، وفي كل مرة وبيت تجد فتياتٍ أخريات ممن تم استقطابهن من دول مختلفة. الحراسة الأمنية كانت مشدَّدة عليهن والخروج ممنوع. لم تيأس محدثتنا وحاولت خلسة التواصل مجددا مع أشخاص يمكن أن يقدِّموا لها يد المساعدة. وهذا عن طريق فتيات نصحنها بالحديث مع جنود التنظيم في سرت. وهو ما قامت به، حيث تواصلت مع شخص أخبرها بأنه قد يساعدها ويخرجها من مأزق "الردة" في حال قبلت الزواج به والحضور للعيش معه هناك في "دولة الإمارة"، لم يكن أمام الفتاة من خلاص سوى القبول. وتقول محدثتنا إن الشخص الذي كانت تتحدث معه تونسي الجنسية مثلها، عمره 28 سنة، أرسل إليها صورة له وصورة من عقد الزواج المختوم من قبل داعش، لكنها صُدمت بحقيقة أخرى وهي عدم الاتفاق بين التنظيمات الإرهابية بين سرت وصبراته. فهذه الأخيرة، حسبها، لم تكن تتبع لداعش بنسبة كبيرة ولا تدين له بالولاء مقارنة بباقي التنظيمات التي تتبع لها، أبرزها أنصار الشريعة، ولا تعرف إلى اللحظة كيف استطاع زوجها التونسي إخراجها من هناك بعد أن أرسل إليها سيارة تقلُّها إليه. الطريق إلى سرت كانت عبر مسالك سرية توصل إلى منطقة بني وليد. وهنا تقول أم عمر إنها اعتقدت في البداية أنها وصلت، لكونها رأت الرايات السوداء في كل مكان، غير أن زوجة السائق التي كانت معها أخبرتها بأنهم في منطقة بني وليد وأنهم سيبيتون تلك الليلية هناك في استراحة مخصَّصة للنساء. في الصباح، انطلقت السيارة متجهة مجددا إلى سرت. وهناك كان الزوج التونسي في انتظارها، ولم يكن يتوقع أنها سترفض البقاء معه في منزل واحد، حاولت أم عمر إقناعه بأنها لم تأتِ بغرض الزواج وأنها جاءت إليه لتخليصها ومساعدتها على العودة إلى أهلها. التونسي، أخذ الفتاة إلى منزل "أم وليد"، تونسية هي الأخرى، في محاولةٍ منه لتهدئتها وإقناعها بقبول الأمر الواقع. في منزل التونسية أم وليد، حاولت هذه الأخيرة مساعدتها لكن الجميع صُدم بقرار والي سرت، والقرار كان إما قبولها الزواج القسري أو تحويلها إلى السجن المخصص للنساء الذي تكون فيه الأرملة والمطلقة و"المرتدّة" وغيرهن ممن يُحكم عليهن بالدخول في خانة السبايا، أي يوميا قد تبيت مع شخص أو ربما كل ساعة. بقاء أم عمر على موقفها من الزواج، جعلها تتعرَّض للضرب المبرح على أيدي أفراد التنظيم إلى غاية استسلامها وخضوعها للأمر الواقع ودخولها بيت الإرهابي التونسي. بيت كان يتحول كل يوم اثنين حسبها، إلى مكان لتجمع عناصر التنظيم واجتماعاتهم السرية. تقول محدثتنا إنها كانت مصدومة من المحيط النسوي الذي كان مؤيِّدا للتنظيم الذي جعلها تُسقِط فكرة الهروب من رأسها خوفا من النهاية. أما زوجها التونسي فتقول إنه كان حذرا جدا إلى درجة أنه كان لا يُدخل حاسبه المحمول إلى المنزل وهاتفه كان لا يفتح إلا بكلمة سرية. بعد قيام حرب تحرير سرت، حاولت محدثتنا الفرار رفقة بعض العائلات التي سئمت بقاءها مع التنظيم، محاولات باءت بالفشل خاصة أن "فتاوى" الشيوخ والأمراء أمرت ببقاء كل النساء داخل المضافات وخروج كل الرجال إلى جبهات القتال. أخِذت أم عمر إلى مضافة فيها تونسيات مقاتلات مقتنعات بالفكر الداعشي المتطرِّف، مهمة تلك النسوة كانت معاقبة كل فتاة تسوِّل لها نفسُها الهرب. هناك شاهدتْ أم عمر بأم عينها قتل التونسيات لنساء وُضعن داخل خزانات المياه تحت الأرض، في حين كانت من تخرج وتركض باتجاه الأحياء تُقنص فورا من قبل عناصر التنظيم. وتتذكر محدثتنا أن الجيش في بداية الحرب كان يقول عن طريق مكبِّر الصوت، إن جهة البحر مفتوحة للنساء والأطفال حتى يخرجوا، لكنهم لم يكونوا على دراية بأن نفس الطريق تم تلغيمه من قبل مقاتلي داعش حتى لا تتمكن أي واحدة من تسليم نفسها. بقي أمام الفتيات وقتها خيارٌ صعب: إما الموت على أيدي إرهابيي داعش والتونسيات الحارسات، أو الخروج نحو الجيش وتقبُّل أي وضع في الطريق من قنص وتلغيم، فكرة تمت مشاطرتها من قبل سوريةٍ وعراقية. وفي إحدى الليالي تقول أمُّ عمر: "غافلنا التونسيات الداعشيات اللواتي كن بصدد شرب الشاي وبقينا نركض حتى وصلنا إلى أقرب نقطة للجيش". وبدموع حارة تبكي صاحبة ال22 سنة شبابها الضائع بين أيدي داعش.. تنظيم ظنت أنه سيكون الحضن الدافئ المعوِّض لضغوط العائلة، عائلة تندم اليوم على أنها تركتها أو كانت ضدها يوما.