اتهمت أرملة الشهيد محمد الزواري ماجدة صالح أجهزة الأمن التونسية بأنها كانت على علم بأن شيئاً ما يُدبَّر ضد زوجها، لكنها لم تقم بحمايته، واعتبرت في حوار خصت به "الشروق"، أن عدم تسوية وضعية إقامتها في تونس في حياة الفقيد وإلى غاية اليوم من المؤشرات على ذلك، واستدلَّت بمجموعة من الوقائع التي سترِد في هذا الحوار. وفي سياق آخر، أثنت على الوقفة الرجولية للشعب التونسي معها ومع عائلة زوجها، دون أن تنسى تقديم شكرها الخالص للشعب الجزائري الذي كان الشهيد يكنّ له احتراما وتقديرا خاصين. لنعد إلى تاريخ استشهاد البطل محمد الزواري في 16 من شهر ديسمبر 2016، هل يمكن أن نعرف تفاصيل ذلك اليوم بالتدقيق؟ وهل أحسستِ بأن زوجك سيحدث له ما حدث؟
في الحقيقة لازمني كابوسٌ ظل مستمرا طوال شهر قبيل استشهاد مراد (الاسم الثاني لمحمد الزواري) بأنه سيتركني، بعد آخر سفرية له إلى لبنان، لاحظت تغيرا قليلا على سلوكه، حتى أنه قلّل من مشاهدة التلفزيون، والذي كان يتابع بكثرة الأخبار التي تبثها قناة "الجزيرة" القطرية، وظل كذلك طيلة عودته من لبنان، كالعادة زوجي كتوم جدا، تصور أنه حتى أمر سفره إلى لبنان لم أعلم به. يوم الواقعة وعلى غير العادة بعد أدائه للصلاة نام قليلا، وهو في العادة كان يقرأ القرآن، ثم يتناول فطور الصباح ويشرع في العمل، وفي حدود السابعة والنصف حضَّرت له فطور الصباح وبدأ في عمله على جهاز كومبيوتره الشخصي، وبقي في العمل حتى وقت الظهر وبعد تأديته للصلاة، طلب مني أن أحضِّر له وجبة الغداء، بحكم أنه ذاهبٌ لأخذ نتيجة التحاليل الطبية الخاصة بالإنجاب، بحكم أننا لم نرزق بمولود رغم مرور 16 سنة على زواجنا، وبعد ذلك خرج من البيت في حدود الساعة 12و45 دقيقة، ليعود بعدها في حدود 13و50 دقيقة إلى البيت، وفجأة سمعت صوت ثلاث طلقات رصاص وهي التي اخترقت باب مستودع المسكن، بحكم أن منفذي العملية استعملوا كاتما للصوت، في البداية اعتقدت أن مصدر الصوت هو عمال البناء الذين يعملون في بيت أخ زوجي الساكن في الطابق العلوي من المنزل، لأخرج من البيت، حيث شاهدت سيارة الشهيد، وقد تحطم كل زجاجها الخلفي، ركضت نحو السيارة فرأيت زوجي وقد استشهد، لم أكن اعتقد أنه فارق الحياة وقتها، وبقيت أناديه، لكنه لم يكن يرد، ولم أعلم إلا بعد أن شاهدت هاتفه النقال وقد اخترقته رصاصة، كما أني وضعت يدي على رقبته فلم أحس بأي نبض لقلبه، وقتها تأكدت من استشهاده.
عندما خرجتِ، هل لمحتِ أحدا من منفذي الجريمة؟ لم أر أحدا، يبدو أن منفذي العملية درسوا موقع منزلنا جيدا، فعادة ما يكون شارعنا يعج بالحركة بين الساعة 12 إلى حدود 14، بحكم وجود روضة للأطفال فيه، لكن في يوم الواقعة، كان الشارع خاليا من المارة، وظللت أصرخ طلبا للنجدة، ظننت في البداية أن من قتل زوجي هم حراس الأمن التونسيين الخاصين به، وما عزز شكوكي أنذاك هو أن رجال الأمن لم يأتوا إلا بعد مرور ساعة كاملة عن الحادث رغم أن مركز الأمن لا يبعد كثيرا عن بيتنا.
في تقديرك، لماذا تصرّف رجال الأمن هكذا؟ ما راعني في تصرفات الشرطة، أنهم وفور وصولهم إلى البيت لم يقوموا بنقل جثمانه، بل توجَّهوا رأسا إلى غرف البيت وأخذوا 07 أجهزة من قطع الطائرات بدون طيار، التي كان يعمل عليها، و04 أجهزة إعلام آلي، و07 هواتف نقالة، وهي موجودة عندهم إلى حد الآن، أما جثمانه فلم ينقلوه إلا في حدود الساعة الخامسة والنصف مساء، بل إن أحد الضباط داس دمه الطاهر؟!
هذا كلامٌ جديد وخطير السيدة ماجدة؟ لا، ليس جديدا، لكنه لم يُنشر أو يُبث في أي وسيلة إعلامية، رغم أنني صرَّحت به للصحف ووسائل الإعلام في تونس، لكن لم يُنشر ولا أدري سبب ذلك رغم أن الكثير من الصحفيين يعدونني بذلك؟! لقد استغلت الشرطة التونسية وضعي ووضعية عائلتي، وقامت بالاستيلاء على كثير من مقتنيات الشهيد وذلك على مرتين، لكن الشيء الذي صدمني حقا هو قيام مصالح الأمن باستدعائي أنا وأخو زوجي إلى مركز الشرطة، حيث مكثنا هناك من الساعة الواحدة صباحا إلى غاية الخامسة فجرا دون مراعاة لا لوضعيتنا ولا حتى الظروف الجوية التي كانت تتسم بالبرد الشديد وقتها.
كيف كان التحقيق معكم؟ في الحقيقة كانت أسئلة المحققين من رجال الشرطة في تقديري تافهة، يسألوني عن مداخيل الشهيد كم؟ فأجبت بأنه لا علم لي، لأن زوجي من النوع الكتوم جدا، كما سألوني: لماذا تضعين النقاب؟!
هل تعتقدين أن مصالح الأمن في تونس كانت على علم بوجود علاقةٍ بين الدكتور المهندس محمد الزواري وكتائب عز الدين القسام؟ بكل تأكيد نعم، وما يُرجِّح كلامي هو تمنُّع السلطات، والعراقيل الكثيرة التي فُرضت عليَّ، لأجل الحصول على إقامة في تونس، ففي كل مرة يذهب الشهيد من أجل طلب تسوية وضعيتي يتمُّ رفض ذلك، هذا في الوقت الذي مُنحت للعديدات من مثل حالتي وثائق إقامة بكل سهولة، وذلك بغية وضعه تحت مراقبتهم الدائمة، والوسيلة في ذلك هي رفض منح وثيقة إقامتي، فوجودي هنا يعني أنه مهما سافر سيعود ثانية إلى تونس، وبالتأكيد فمصالح الأمن المختلفة كانت على علم بعلاقات محمد الزواري مع المقاومة الفلسطينية، رغم ذلك لم تحمِه، واستطاع الموساد أن يقتله في وضح النهار في قلب ثاني أكبر مدينة تونسية.
هل كنت تعلمين بأن الشهيد الزواري عضوٌ في كتائب القسام؟ لم أكن أعلم بانتساب زوجي إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، كما أنه لم يذكر لي لا حتى تلميحا أنه عضو فيها، وكل ما أعرفه بهذا الخصوص هو مناصرته القضية الفلسطينية على غرار باقي التونسيين والعرب والمسلمين، فهو يدعو بالنصر لفلسطين، كما لا يفوته دائما الدعاء بالموت شهيدا في سبيل الله. وحتى الطائرات بدون طيار التي صنعها، كنت اعتقد أنها تدخل في صميم تخصُّصه الجامعي وفي مجال بحثه لا أكثر ولا أقل. وبالمناسبة، زوجي وقبيل استشهاده بدأ يشتغل على إنجازه غواصة بدون رُبَّان، لكن للأسف تخطفته يد الإجرام الصهيوني، وعلى ما أعتقد فإن الصهاينة كانت لديهم معلوماتٌ بخصوص مشروع الأخير الذي حتما سيكون علامة فارقة في الصراع العربي الإسرائيلي، لذا فقد صرح الصهاينة بأن عملية اغتيال الزواري كانت ستتم في ذلك التوقيت حتى وإن تطلَّب الأمر تفجير بيته.
أين ذهب تخمينك عندما شاهدتِ زوجك يفارق الحياة رميا بالرصاص؟ وكيف تلقيتِ خبر نشاطه في كتائب عز الدين القسام، وأنه من اخترع الطائرات بدون طيار لصالح المقاومة الفلسطينية؟ في بداية الأمر اعتقدت أن المصالح الأمنية التونسية هي من قتلت محمد، لأن في بلداننا لا يُترك من يخترع ويبتكر، مثل ما كان يقوم به زوجي من خلال الطائرات بدون طيار، حيا والشواهد كثيرة. أما كيف تلقيت خبر أنه كان مجاهدا في كتائب القسام، فقد جاء بعد أن انهرت تماما إثر استشهاده، وكنت قبل أن أسمع الخبر قد قلت لما كان معي بأن محمد شهيد، لأنه مات بالرصاص، بل أكثر من ذلك زغردت عليه، أتذكر أني كنت في غرفتي أتلو القرآن الكريم، حتى طرقت الباب إحداهن وقالت لي "زوجك عضو في كتائب القسام التابعة لحماس"، لم أتمالك نفسي وشعرت بالفخر والاعتزاز بزوجي، ثم شاهدت قناة "الجزيرة" والتي زف فيها المكتب الإعلامي لكتائب القسام الشهيد الزواري وأعلن أنه ينتسب إليه وذكر عدداً من أعماله، خاصة تصنيع الطائرات بدون طيار لصالح المقاومة الفلسطينية، ثم تلاه إعلان تلفزيون العدو بأنه تم تنفيذ عملية "اغتيال" الزواري في مدينة صفاقسالتونسية، لكن الغريب حقا أن الأمن التونسي إلى حد الآن مازال يحقق في ملابسات اغتيال زوجي؟! بعد ذلك اتصل بي عناصر من كتائب عز الدين القسام ليعزّوني في استشهاد محمد، وأقاموا له بيت عزاء كبير في مدينة غزة، وألفوا أنشودة للاحتفاء باستشهاده.
تعالت المطالب الشعبية بعد استشهاد الزواري بمنحك الجنسية التونسية أو تسوية وضعية إقامتك بشكل كامل في تونس، إلى أين وصل هذا الملف؟ بعد استشهاد الزواري توافدت الحشود الشعبية والرسمية على بيتنا، وكانت مطالب منحي الجنسية التونسية تتردَّد في هتاف المواطنين، بينما وعدني عددٌ من المسؤولين المحليين، بأن ملف إقامتي سيتم طيه في أيام، لكن ورغم مضي 03 أشهر و15 يوما من الواقعة فوضعيتي هي نفسها، لكنني عازمة على الذهاب بعيدا في موضوع تسوية إقامتي، وإن تطلب الأمر سأعتصم أمام رئاسة الحكومة بتونس حتى يتم تلبية طلبي في الإقامة والجنسية، لأنني زوجة شهيد، وهو حقي فعلا.
كيف تقيمين ردود الفعل الشعبية والرسمية التونسية بعد حادثة استشهاد زوجك؟ لا يمكنني إلا أن أثني على الهبَّة الشعبية الكبيرة التي قام بها الشعب التونسي، من كل الولايات والمناطق، لقد قدّم الشعب التونسي لنا كل أشكال الدعم ولا زال، وهذا ليس غريبا عنهم في الحقيقة، لم يكن بيتنا يهدأ طيلة الشهر الأول من استشهاد محمد، أما عن الرسميين فلم يتصل بالعائلة أي مسؤول رسمي في الحكومة التونسية، وكان واضحا من تصريحاتهم أن الأمر حسب يوسف الشاهد يتعلق ب"مواطن عادي"، أما الأحزاب السياسية فحضر كثيرون إلينا على غرار الشيخ عبد الفتاح مورو عن حركة النهضة، والرئيس الأسبق الدكتور منصف المرزوقي. ولا يفوتني هنا أن أشير لشيء هو أن السلطات منحتنا جثمان الفقيد وأمرتنا بدفنه في ظرف عشر دقائق، وهذا ربما فهمته فيما بعد بأن مُنع التونسيون من الاحتفاء ببطل منهم، لكن وللأمانة فإن السلطة المحلية في مدينة صفاقس حاولت بما تستطيع أن تكرم الشهيد، من خلال تسمية إحدى الساحات العمومية باسمه.
هل تتلقى الآن زوجة الشهيد البطل محمد الزواري معاشا؟ لا أبدا، الكثيرون يعتقدون أن الشهيد أستاذ مرسّم بجامعة صفاقس، لكن هذا غير دقيق، هو أستاذٌ متطوِّع ولا يتلقى أي أجر عن ذلك، وكل ما لديه من مال مصدره أعماله الحرة، وحاليا لا أملك أي مورد رزق قارّ لي كمعاش لزوجي، لكن الحمد لله عائلة زوجي لم تتخلَّ عني، كان زوجي هادئ الطبع، خلوقا، مترفعا، حتى أنه وطيلة فترة زواجنا التي وصلت إلى 16 سنة لم نتخاصم يوما واحدا، وأحيانا كنت أمازحه وأقول لها "هيا نتخاصم"، فيقول لي "طيب سأختبئ وراء المائدة وأنت إرمِ عليَّ المنشفة".
وأنت الشخص الأقرب إلى الشهيد، هل يمكن أن نعرف علاقة الزواري بالجزائر؟ للشهيد علاقة مميزة مع الجزائر منذ صغره، إذ درس في ابتدائية شارع الجزائر بمدينة صفاقس، ومن هناك تكونت علاقة خاصة بين محمد الزواري والجزائر، كان الشهيد يطلق على الجزائر لقب "أم الشهداء" أو "أم الملايين"، وليس بلد المليون ونصف مليون شهيد، أحمد كان يرى دائما في الجزائر رمز الشهادة في سبيل الله، لذا فضل أن يطلق هذه التسمية ويرى فيها بلدا منجبا للأبطال والشهداء. وبالمناسبة، الزواري وعدني بالسفر إلى الجزائر، قبل شهر جانفي 2017، لكن للأسف حدث ما حدث، وهذا نزولا عند رغبتي أنا، وهي زيارة الجزائر، وكذلك من أجل تسوية بعض الوثائق الإدارية هناك بحكم أن تونس لا توجد بها سفارة لبلدي سوريا، كما لا يفوتني هنا أن أشكر الجزائريين الذين واسوني بكثرة بعد استشهاد زوجي، بل أنهم قدَّموا لي "دقلة نور" جزائرية هديَّة منهم لي.