يفيض مستشار رئيس الحكومة المؤقتة بلعيد عبد السلام في الحلقة الثامنة، بالعديد من الأسرار الثورية الحصرية، خاصة منها احتكار المفجرين لقيادة العمل الثوري، والنقد اللاذع الذي لحق بمؤتمر الصومام، والحزازات والحساسيات التي تفجرت جراء "تسلل" المركزيين للمجلس الوطني للثورة، وبزوغ جدلية أولوية السياسي على العسكري، التي طرحها عبان وناصره فيها "أيقونة" الثورة المسلحة العربي بن مهيدي، وعارضها العقيدين عميروش وبن طوبال بشراسة وصلابة، وكيف دفع عبان ضريبة طرحه "الطامح والجامح" من لدن الباءات الثلاثة، والشرخ الذي أصاب جسد الثورة، بين "المذكر" جيش التحرير و"المؤنث" جبهة التحرير ومن يقود من؟؟ كما يعرج على مساره الشخصي والثوري بعد عودته من فرنسا، عندما تم إيواءه من طرف مولود معمري إلى خصومته بخليفة العروسي في مدرسة الإطارات بوجدة، وختاما بنجاته بأعجوبة من الإعدام الذي أصدره في حقه عبد الحفيظ بوصوف، ولولا تدخل نائبه هواري بومدين الذي أنقذه على عجل من "مخلب" الزئبق بوصوف، لكان لقي نفس مصير عبان رمضان الذي جنت عليه فكرته، هذه التفاصيل المسجونة والمشحونة تقرؤونها لأول مرة في هذه الحلقة من شهادته التي خص بها الشروق.
لماذا لم تحضر الولاية الأولى لمؤتمر الصومام؟ لم تكن هناك إرادة لمنع الولاية الأولى من الحضور.
قضية أولوية السياسي على العسكري التي طرحها عبان رمضان في مؤتمر الصومام هل جاء بها لفرض نفسه كقيادة جديدة؟ أولوية السياسي على العسكري يعد من جوهر تكوين الجبهة نفسها التي قامت لأهداف سياسية، ولابد أن تكون العمليات العسكرية التي تقوم بها تخضع للهدف السياسي المتمثل في الاستقلال، وأساس التفكير إذا كان هناك عمل مسلح لا يحقق الهدف السياسي لا يعد عمل إيجابي مفيد.
العقيد عميروش أول المعترضين على هذا الطرح وقال: إن عبان أصبح سيد المؤتمر؟؟ ماسر معارضة عميروش لعبان؟ لأن بعض الحضور فهموا تغلب الفكرة السياسية على العسكرية، بأن السياسيين عندهم سلطة على العسكريين، فمثلا فرحات عباس أو يوسف بن خدة سياسيا هل هو متفوق على أي قائد منطقة يقوم بعمل العسكري في الميدان، هذا خطأ.
يقولون إن عبان نجح في فرض فكرته بدليل أن لجنة التنسيق والتنفيذ فيها ثلاثة سياسيين مقابل عسكريين اثنين فقط؟ الذين كانوا في لجنة التنسيق والتنفيذ من عسكريين وسياسيين، جميعهم يقودون عملية سياسية، لأن الجبهة عندما فجرت نوفمبر لم تقل قمنا لنحارب فرنسا من أجل المحاربة، بل قمنا من أجل هدف سياسي، وهو الاستقلال.
هل أراد عبان من المؤتمر خلق قيادة جديدة بديلة للقيادة النوفمبرية؟ ولذلك اصطدم ببن طوبال وأوعمران حول التحاق المركزيين كأعضاء في المجلس الوطني، فكرس بذلك الطابع السياسي على العسكري؟ ربما الجماعة الذين فجروا الثورة كانوا مخطئين في أمر قيادة الثورة عندما قرروا أن تبقى بين أيديهم ولا يتركون قياديين آخرين يشاركون في قيادتها، لكنهم نسوا كقادة لثورة أنهم معرضين لاستشهاد أو القبض عليهم، وخير دليل قرصنة طائرة القادة الخمسة، لأن المفجرين في حالة استشهادهم أو سجنهم هل تتوقف بسببهم الثورة؟ هنا لابد أن تكون هناك قيادة لمواصلة جذوة الكفاح المسلح، ولابد من دخول فاعلين جدد، والسؤال الذي ينبغي طرحه على الذين دخلوا للثورة هل ساهموا في انتصارها أم لا؟
"مقاطعا " هل ممكن تضرب لنا مثلا على ما تريد قوله؟ فمثلا فرحات عباس ورغم خطأه السياسي في ماضيه، لكن دخوله الثورة كان له أثر جد إيجابي، وساهم في انتصارها، ونعتبر التحاقه جلب شيء مهم، عندما وضح للرأي العام العالمي أن ما يجري في الجزائر ثورة شعب وليس تمرد أشخاص، لأن الفرنسيين كانوا يقولون عن الثورة مجرد عمل شرذمة من قطاع الطرق والمتطرفين والمشوشين والارهابيين.
علي كافي مثلا في مذكراته يقول إن طرح عبان في مؤتمر الصومام خلق شرخا كبيرا بين السياسي والعسكري، فصار هناك من يقول أنا مع جبهة التحرير وآخرين مع جيش التحرير؟ سمعت في المغرب، في بعض الأوقات يقولون إن جبهة التحرير مؤنث وجيش التحرير مذكر، فكيف للمؤنث يقود المذكر؟ إذا وصلنا لهذا المستوى من النقاش لم تعد مناقشة ثورية أو سياسية. فإن ذكر علي كافي هذا في مذكراته هو خطأ، فمثلا كيف وصل الأخير لقيادة للولاية الثانية هل بصفته السياسية أم العسكرية، أكيد قد وصلها كقائد سياسي، مثلا كريم بلقاسم أو عبان رمضان كانوا سياسيين قبل أن يكونوا عسكريين، فالنضال السياسي هو من قادهم إلى العمل العسكري.
ما سبب هذا الانتقاد الحاد لمؤتمر الصومام من عدة قيادات ثورية؟ الخلاصة التي نخرج بها، وهي أن بعض منتقدي مؤتمر الصومام يرون أخطاء في محتواه وقراراته ونسبوا هذه الأخطاء لعبان رمضان، صحيح هو من حضر وثائقه، وكان وراء قراراته التي أثر فيها شخصيا ووقف بجنبه العربي بن مهيدي كثوري مثقف، ويقال إن بعض أعضاء المؤتمر لاحضوا أن عبان وبن مهيدي قد تحالفا على خطة واحدة، ولكن هم متفقين فقط، لهم نفس الرأي وليس متحالفين.
"مقاطعا" مثلا قضية هيئة التنسيق والتنفيذ دار بشأنها جدل حول مقرها بين الجبال أو العاصمة واستقر أمرها في المنطقة المستقلة؟ وجودهم في المنطقة المستقلة هذا انتصار للثورة ومن معجزاتها وليس من سلبياتها، حتى إن لاكوست صرح أمام المجلس الوطني في باريس، قال تصوروا أن قيادة التمرد كانت بجوار مقر مكتبي.
نعود لمسارك الثوري صادف دخولك للجزائر عائدا من فرنسا انطلاق معركة الجزائر والتحضير لإضراب ثمانية أيام، حدثنا عن العودة والواقع الذي وجدته؟ عندما جئت من فرنسا إلى الجزائر وجدتهم يحضرون لإضراب ثمانية أيام، والذين اتصلت بهم من"الخاوة" قلت لهم ثمانية كثيرة حسب رأي طبعا، لأن في الإضراب لابد أن تأخذ بعين الاعتبار أن الناس مسؤولين على أرزاق عائلات وعلى نشاط اجتماعي، فرد عليّ ذاك المسؤول: "الأمر قد مشى الآن وخلاص"، لكنه اعترف أن ثمانية أيام كثيرة ولم يعد هناك مجال للتراجع، خاصة أن الاتصال ليس سهلا بين القيادة في الجزائر وباقي الفروع الأخرى، خاصة مسألة تبليغها بالتراجع عن الإضراب صعب جدا.
كيف قضيت تلك الأيام العصيبة عشية الإضراب الشهير؟ في ذلك الوقت بالذات جميع المسؤولين أو المطلوبين من السلطات الفرنسية تسعى الجبهة لتخبأهم عند الجزائريين، الذين هم في اتصال معها أو المحسوبين عليها، اختبأت عند بعض العائلات الفرنسية التابعة للكنيسة، وفي أوقات أخرى عند عائلات جزائرية وبعض الأساتذة الذين كانوا في الجامعة الفرنسية، وقد التقيت بمولود معمري، وقضيت عنده 12 يوما في ضيافته.
كيف وجدت مولود معمري سياسيا وفكريا وإيديولوجيا؟ كان مناضلا في جبهة التحرير، أما بخصوص ما يقال عنه ذلك الوقت أنه بربري، لكنه لم ألحظ عليه أي نزعة أو فكرة انفصالية، بل وجدته مؤمنا بقيم وثوابت الجزائر.
سبق وأن حدثتني أنك التقيت عبان رمضان في وجدة، ماهي المهمة التي جاء من أجلها؟ لما كنت مختبئا عند بعض الفرنسيين في العاصمة، جاء لي عبد مالك تمام وأبلغني أن يوسف بن خدة، أخبره أن جماعة لجنة التنفيذ والتنسيق في الجزائر، خرجوا في دورية للاطلاع والمراقبة حول الأشخاص وأعمالهم الموجودين في الخارج، ومنه عبان جاء إلى وجدة من أجل الاتصال بمسؤولي الجبهة المتواجدين خارج البلاد.
لكن ثمة من يتحدث أن في وجدة بدأ خلافه مع عبد الحفيظ بوصوف؟ هناك في المغرب المسؤول الأبرز والمعروف عبد الحفيظ بوصوف قائد الولاية الخامسة، وعبان نسي نفسه قليلا أمامه، عندما خرج من الجزائر ترك رجاله هناك وكان لابد أن يأخذ بعين الاعتبار أن ثمة قادة في الميدان، لكنه تصرف كقائد أعلى(الاستعلائية) من بوصوف.
مالذي تعرفه شخصيا عن تصفية عبان رمضان وهل خلافه مع بوصوف في وجدة هو من أدى إلى تصفيته؟؟ الشيء الذي أعرفه أنه قد صدر اتفاق بين العسكريين الثلاثة، كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوصوف بسبب خلاف سياسي بينهم أدى إلى تلك النهاية المأساوية.
الباءات الثلاثة اختلفوا سياسيا مع قادة كبار ولم يصدر في حقهم حكم بالإعدام لماذا عبان رمضان بالذات؟ عبان كانوا يخافون منه، لكون عنده تفكير ومواقف سياسية معروفة، وقد كان من أنصار استعمال العنف في السياسة، لأنه كان يؤمن بالتجربة الايرلندية، وقد صدر له في جريدة المجاهد، عندما كانت تصدر في الجزائر أثناء الثورة مقالا كتب فيه عن المكافحين الايرلنديين، وكيف شنوا حربهم على بريطانيا وبفضلهم صارت إيرلندا مستقلة، وخاصة أنهم وصلوا عن طريق العنف إلى نيل سيادتهم، والظاهر أن زعيم المقاومين الايرلنديين أعدموا رفقاءه لأنه تنازل للبريطانيين على القطعة الشمالية من إيرلندا.
هل هو ضحية طموحه الجامح لتزعم قيادة الثورة؟ هناك كثير من يريدون قيادة الثورة وليس عبان فقط، كل واحد منهم يرى في نفسه قائدا للثورة.
هناك من يقول إن عبان كان على مشارف خيانة من خلال اتصالاته المتقدمة مع الطرف الفرنسي؟ لا يمكن هذا أبدا، كل شخص مسؤول في الجبهة يحاول الفرنسيين الاتصال به "من هم وماذا يفكرون"، وقد حدثت محاولات عديدة في الماضي، وفي كثير من الحالات يأتي المرسلين من طرف الفرنسيين إلى القيادة عبر صحفيين، أما أنه تم تصفيته كونه على مشارف خيانة الثورة هذا مستحيل، ولم ولن يفعلها عبان. أتذكر يوما عندما التقيته وحدثني بخصوص التفاوض مع فرنسا، أخبرني بأن المشكل معهم لا يحل إلا على أساس اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر.
كيف يصفى قائد بوزن عبان دون محكمة إذن؟ الشيء الذي سمعته قد صدر في حقه الحكم بالإعدام، وقد استشاروا القادة الخمسة في السجن، وقد استشاروا بن بلة ولست أدري إن كانت الاستشارة كتابية أم شفوية.
كيف بلغك نبأ إعدامه لأن المشاع وقتها أنه سقط شهيدا في ميدان الشرف؟ لما غادرت المعتقل في وجدة، رغبت في الاتصال به قيل لي غير أنه موجود ثم سمعت فيما بعد أنه أعدم.
تنقلتم إلى وجدة من التقيتم هناك؟ النظام الذي وجدته هناك قابلني بحفاوة، وقد التقيت مع عبان رمضان صدفة في الزقاق.
نعود مجددا لمسارك كيف وصلت لوجدة وماهي المسؤولية التي توليتها؟ . تم توجيهي من طرف القيادة إلى مدرسة الإطارات بوجدة، أين تم إبلاغي عن طريق العقيد لطفي، بتعيني كأستاذ مؤطر في المدرسة، فيما تم تعيين خليفة لعروسي مديرا لها.
اختلفتم مع خليفة لعروسي إلى درجة الاصطدام ماهي الأسباب الحقيقية؟ اختلفت معه وغادرت مدرسة الإطارات، وبسببها انفصلت عن نظام بوصوف، وهناك فكر في إعدامي، وأنا بدوري فكرت في الانتحار بإعدام نفسي بنفسي .
مالذي حال بينك وبين الإعدام؟ بومدين كان نائبا لبوصوف عن الولاية الخامسة، زارني للمعتقل ليلا وقد قال لي: أعطيك ميثاق شرف كضابط في جيش التحرير بأن لا يصيبك مكروه، ويمكنك أن تغادر وجدة وتتصل بمن رغبت وتذهب إلى أين أردت.
من أخبرك بأن بوصوف كان ينوي إعدامك؟ بن طوبال هو من أبلغني أن بوصوف كان ينوي إعدامي، على أساس أني منشق وخارج عن النظام "سيستام".
كيف كان رد بن طوبال على بوصوف؟ قال له بن طوبال كيف يكون منشقا؟ فالمنشق يكون مع العدو وأي عدو عندك في المغرب؟
كيف كان لقاءك لأول مع بومدين وكيف وجدته عسكريا وسياسيا؟ التقيت مع بومدين عشية خلافي مع خليفة العروسي، جاءني للمعتقل وسألني: ما بينك وبين خليفة لعروسي؟، أخبرته لما كنت في فرنسا كنت ناشطا سياسيا وغادرتها لألتحق بالثورة تلبية لنداء جبهة التحرير وللانضمام إلى جيش التحرير، فكان رده: مهمتك أينما احتاجتك الجبهة تكون وتقوم بواجبك، ثم استفسرني عندما تذهب إلى الداخل ماذا ستفعل؟ إن أردت حمل السلاح ثمة ألوف ينتظرون حمله، ونحن بحاجة إليك هنا فلماذا تريد مغادرة المدرسة؟
كيف غادرت اتجاه الرباط؟ في يوم من الأيام تم إبلاغي بأنني مسرح، ويمكني التحرك أينما رغبت فتنقلت إلى الرباط للاتصال بقادة الجبهة هناك، فجاء ردهم بأنه تم تعيني في مكتب جبهة التحرير بطنجة، فيما بعد بلغني بأن جماعة التنسيق والتنفيذ وزعوا المسؤوليات على بعضهم، وعبد الحميد مهري الذي عرفته في سطيف ودخلنا اللجنة المركزية سويا سنة 1953 تم تكليفه بالشؤون الاجتماعية، فعينني مستشارا له في شؤون الطلبة، وكنت أعتقد أنني "تهنيت" من شؤونهم حتى وجدت نفسي قد عدت إليها.