إن استعمال الدّين (تدنيس المقدس) في معركة الشّرق والغرب المستعرة منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية استمرّت في كلّ الأزمان وعلى كلّ الجبهات لتظهر جليّة في أفغانستان رغم أنّ أفغانستان ليست بالأهميّة الجيوستراتيجية كمنطقة الشّرق الأوسط أو شمال إفريقيا إنّما اعتبرت منطقة "حزام الأمان" للشرق الأوسط. وللأستاذ هيكل توصيف دقيق نابع من امتلاكه لخزّان من المعلومات يقول في كتابه المذكور آنفا: (...كانت أفغانستان جسرًا غريبًا لكنّه جسر مرصوفٌ ومهيّأ لكي تمشي عليه الفتن وتتحرك المؤامرات لأنّ طبيعته الجبليّة ووديانه شبه المغلقة على نفسها بالقمم العالية ومناخه القارّي القاسي يجعله نموذجًا للمطلوب منه فهو معزول وعازل مطروق وإن كان بصعوبة سالك ولكن بشروط، وأهمّ هذه الشّروط هو التّوافق مع نفر من أهل البلد الذين يعرفون المداخل والمسالك وهم جميعا تركيب إنساني يمتزج فيه الضّعف بالقوّة والخيال بالقسوة والغِنى النّفسي بالفقر المادّي والكبرياء الفردي بالولاء القبلي..).
دعم المقاومة الأفغانية بدأ قبل الإجتياح السوفياتي ب 6 أشهر: بهذه الخلفيّة تعاملت أمريكا مع أفغانستان وقد أبرزت كلّ قرون الاستشعار لديها منذ انقلاب "طرقي" على محمد داوود وهدفت بهذا التّيقّظ إلى أمرين اثنين. 01- جرّ الاتّحاد السّوفياتي إلى مستنقع يمرّغُ كبرياءه كما مرّغت فيتنام كبرياء أمريكا. 02- منع الاتّحاد السّوفياتي من الوصول إلى المياه الدّافئة خاصّة بعد نجاح ثورة الخميني في إيران وخروج الأخيرة من المنظومة الأمريكيّة، يقول جون كولي في كتابه الحروب غير المقدّسة أفغانستانأمريكا والإرهاب الدّولي مايلي: (... إستراتيجية زبيجنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرّئيس الأمريكي جيمي كارتر تقوم على ضرورة استدراج الاتّحاد السّوفياتي لأفغانستان حتّى تكون له فيتنام السّوفياتية كما عانى الأمريكيون في حربهم في فيتنام، وقامت الإستراتيجية على أساس دعم المخابرات الأمريكية سي – أي - إيه للأفغان المسلمين المعارضين للنظام الأفغاني الموالي للشيوعيّة وذلك قبل 6 أشهر من غزو الاتّحاد السّوفياتي لأفغانستان في 25 ديسمبر1979...). وأغلب صانعي الحدث يومها من المسؤولين الأمريكان يؤكدّون هذه المعلومة فهي باللغة التراثية – رواية متواترة - وممّن أكدّ هذه المعنى المدير السّابق لوكالة الاستخبارات المركزيّة روبرت جيتس في مذكرّاته "الظلاّل" يقول نقلا عن بريجنسكي: (...إنّ أجهزة الاستخبارات الأمريكية بدأت بمساعدة المجاهدين في أفغانستان قبل 6 أشهر من التّدخل السّوفياتي، في هذه الفترة كنت مستشارًا للأمن القومي للرّئيس كارتر لذا فقد لعبت دورًا في القضيّة... ووفقًا للرّواية التاريخيّة الرّسمية بدأت مساعدات وكالة الاستخبارات المركزيّة للمجاهدين خلال عام 1980 ما يعني أنّه كان بعد غزو الجيش السّوفياتي لأفغانستان في 26 ديسمبر 1979 ولكن الحقيقة التي تمتّ المحافظة عليها كسرّ من الأسرار حتّى الآن هي على خلاف ذلك تمامًا في الواقع أنّه في يوليو 1979 وقّع الرّئيس كارتر التوجيه الأول لتقديم مساعدات سِرّية لمعارضي النّظام الموالي للاتّحاد السّوفياتي في كابول وفي نفس اليوم كتبتُ مذكرّة إلى الرّئيس شرحت له فيها أنّ هذه المساعدات في رأيي ستخفّز تدخلاً عسكرّيا سوفياتيا...). وبقي الموقف الأمريكي يتظاهر رسميّا بأنّه لم يُدعّم المقاومة الأفغانية إلاّ بعد الاجتياح السّوفياتي الذي كان حسب الموقف السّوفياتي الرّسمي يدافع عن نفسه وأنّ الاجتياح ما هو إلاّ خطوة محدودة الزّمان نلمس هذا التجاذب في الموقف الأمريكي والسّوفياتي في ما ذكره الأستاذ هيكل في نفس الكتاب القيم الآنف الذكر الذي ذكر فيه اللّقاء الذي جمعه في ليلة 28 نوفمبر 1989 بمقرّ السّفارة المصرّية في موسكو مع السفير المصري في موسكو يومها أحمد ماهر وبريجينسكي وأناتولي دوبرنين سفير الاتّحاد السّوفياتي في واشنطن لمدّة ربع قرن وحضر هذا اللّقاء أيضا عضو المكتب السّياسي للحزب الشيوعي السّوفياتي - والحادثة وقعت في أوج البروستروكيا والغلاسنونت التي قادها جورباتشوف يقول هيكل: (...في ركن من الصّالون الرّئيسي لبيت السفارة قلت لبريجنسكي ولدوبرينين معًا أنّ حكاية الدّخول العسكري السّوفياتي إلى أفغانستان والرّد الأمريكي عليه واقعة مهمّة في سياق الحرب الباردة تساوي التقصّي والتّدقيق ولذلك أستأذنهم في العودة إليها والشاهد إني لم أكن في حاجة إلى أكثر من سؤال واحدِ وجّهته لدوبرنين وردّ عليه بقوله: صحيح مازال اعتقادي أنّ أصدقاءنا الأمريكان أخطؤوا في تقدير نوايانا كان إجراؤنا دفاعًا صرفًا... ولكنّه أخذوه هجوميّا وعدوانيّا ... ثمّ كان أن تدخل بريجنسكي وأفاض ... قال... كيف كان يمكن لي ولغيري فجر 27 ديسمبر تقدير نواياكم باعتبارها عملاً دفاعيّا بينما كانت الشّواهد أمامنا تقول بعكس ذلك... وبصراحة فإنّي قلت للرّئيس أيضا: سيادة الرّئيس إنّ الرّوس وقعوا في فخّ وتلك فرصتنا لكي نردّ لهم جميل فيتنام ولذلك يتعين علينا أن نعمل على سدّ الطّرق أمامهم بحيث تتحوّل أفغانستان إلى مصيدة لا يخرجون منها إلاّ بفضيحة تهزّ هيبة الدّولة السّوفياتية وتكسر شوكتها...). ولم يمرّ قرار التدخّل السّوفياتي في أفغانستان من دون نقاشات عاصفة على مستوى القيادة السّوفياتيّة.
قرار التّدخّل السّوفياتي في أفغانستان: - انقسم أعضاء المكتب السّياسي للحزب الشّيوعي السّوفياتي كما حدث خلاف بين المكتب السّياسي وبين القيادة العُليا للقوّات المسلّحة السّوفياتية وبعد رفع الحظر على الوثائق السيّاسيّة السّوفياتية بأمر من بوريس يلتسن لتحديد المسؤوليّات عن النّهاية المأساوية للنظام الشيوعي في أفغانستان ومن هذه الوثائق ظهر أنّ الجنرال "ليونيد شيبار شين" ممثّل المخابرات السّوفياتيّة في كابول قد كتب إلى قيادته يخبرها أنّ الاتصالات السّريّة التي يجريها "نصف الشيوعي" الرّئيس الأفغاني حفيظ الله أمين مع بعض القيادات الإسلاميّة المتمرّدة وأنّ هذا الأمر يفتح الباب واسعًا ليتمكّن عملاء المخابرات الأمريكية من مقاليد البلد، كما تكشف هذه الوثائق قصّة المذكّرة المشتركة التي قدّمها إلى المكتب السّياسي للحزب الشّيوعي أربعة من أعضائه هم: يُورى أندربوف مسؤول الأمن الدّاخلي وأندريه غروميكو وزير الخارجية وديمتري أوسْتَنُوف نائب رئيس الوزراء ووزير الدّفاع وبوريس بوناماريوف مسؤول الشّؤون العقائديّة واقترح الأربعة في المذّكرة دخول قوات من الجيش السّوفياتي إلى أفغانستان حتّى لا تضيع ولمّا عرضت هذه المذّكرة على اجتماع المكتب السّياسي يوم 25 ديسمبر 1979م اعترض عليها خمسة أعضاء هم: سوسلوف وجريشين وكيرلنكو وبلش وتيخونوف وكان الأمين العام للمكتب السياسي هو ليونيد بريجينيف الذي عاش حيرة في القرار الواجب اتّخاذه خاصّة أنّ ثلاثة من كبار قادة الجيش كانوا ضدّ تدّخل الجيش الأحمر في أفغانستان وهؤلاء الثلاثة هم الماريشال نيكولاي أوجاركوف والماريشال سيرجي أخرامويف والجنرال فالنتين فادينيكوف وطالت المناقشات طوال يومي 25 و26 ديسمبر 1979م عند الظهر انضم بريجنيف إلى الأصوات التي تدعو للتدخل في أفغانستان وصدر القرار وفي غروب يوم 26 ديسمبر 1979 نزلت بعض الوحدات للجيش الأحمر مطار كابول وبدأت الفرق المدرّعة تجتاز الحدود وبلع الاتّحاد السّوفياتي الطُّعُم وانغمسَ كُدبٍّ هائج في المستنقع الأفغاني.
ردّ الفعل الأمريكي على الإجتياح السّوفياتي لأفغانستان: وعلى الساعة الثانية من فجر 27 ديسمبر 1979م انعقد مجلس الأمن القومي الأمريكي بحضور الرّئيس كارتر لبحث التدخّل السّوفياتي في أفغانستان ومناقشة البدائل ويعلّق الرّئيس كارتر على التدخّل السّوفياتي في أفغانستان في مذكّراته بالقول: كان غزو أفغانستان عدوانًا عن سبق تصوّر وتصميم يُرتكب ضدّ شعب محبّ للحريّة، شعبٌ يُكافح زعماؤه منذ سنوات من أجل الحفاظ على استقلالهم... وكانت فظاظة هذه الهجمة العسكريّة مثيرة بحدّ ذاتها لكنّها كانت تضغط فوق هذا بثقل جديد تهديدات خطيرة إلى إقليم من العالم تتوازن القُوى فيه بهشاشة لا مزيد عليها فإنّ السّوفياتيين ... اقتربوا اقترابا خطِرًا من حقول البترول ومن المياه الدّولية في الخليج الفارسي...). وخرج مجلس الأمن القومي بالتوجّهات التالية: 01 / بعد التّأكد من حجم التّواجد السّوفياتي في أفغانستان (يقرّ كارتر في مذكّراته بأنّه وصل إلى 80 ألف جندي) فإنّه "ضمن الاحتمالات التي لا يمكن استبعادها أن يكون الهدف التالي لهذه القوات عملاً سوفياتيّا في اتجاه الخليج حتّى بحر العرب والمحيط الهندي". 02 / إنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تستطيع أن تتدخّل علنًا في أفغانستان لعدم وجود اتّفاقية دفاع مشترك معها وأيّ تدخّل قد يؤدّي إلى صدامٍ مباشر مع الاتّحاد السّوفياتي ممّا يؤكّد وجود خطر مؤكّد على دول الخليج. 03 / إنّ الولاياتالمتحدة مدعوّة لتفعيل وتعزيز تواجدها العسكري دون صخب إعلامي. 04 / إن الولاياتالمتحدة مدعوّة لدعم المقاومة الأفغانية لتوريط الاتّحاد السّوفياتي في حرب استنزاف تُرغم السّوفيات على الانسحاب. 05 / يجب على الولاياتالمتحدةالأمريكية أن لا تظهر علانية في هذه المعركة وإنّما عليها البحث عن بدائل لظهورها العلني. 06 / دعم المقاومة الأفغانية يحتاج إلى استنفار كلّ الأصدقاء والمناصرين في العالم الإسلامي. 07 / سلاح وذخيرة المقاومة الأفغانية يجب أن لا يتوقّف عن التدفق حتّى ولو سُرق وأكدّ بريجينسكي هذا المعنى عندما سُئل من بعض أعضاء مجلس الأمن القومي عن السّلاح قال بالحرف: لابد أن نحصل عليه من أيّ مكان نشتريه نستأجره نسرقه إذا أدّى الأمر. 08 / يفضّل أن يكون السّلاح سوفياتيًّا حتّى لا تتّهم أمريكا بأنّها مصدره. 09 / استعمال الثقل المعنوي للسّعودية لإعلان جهاد إسلامي مقدّس ضدّ الاتّحاد السّوفياتي 10 / دعم قيادة السعوديّة للجهاد المقدّس بدول إسلامية أخرى. بعد انفضاض اجتماع مجلس الأمن القومي شرع في التنفيذ الحرفي لتوصياته وذلك بتكليف بريجينسكي بتفصيل المخطط التّقني للسير في اتجاه التنفيذ.
الشرّوع في تنفيذ مخطّط الجهاد الأمريكي: الآن وقد ثبت أنّ إعلان الجهاد على السّوفيات نبع من مجلس الأمن القومي الأمريكي وكلّ كتابات الفاعلين من السّاسة الأمريكان بالخصوص تعرّضوا لوقائع محضر جلسة مجلس الأمن المذكورة وإن اختلفت وجهات نظرهم في بعض التفاصيل وواصل بريجينسكي وهو الفاعل الأوّل في الحدث الأفغاني سلسلة أحاديثه الإعلاميّة مُؤكّدًا هذه الحقيقة في كلّ لقاءاته الصّحفية التي تتطرق لهذه المرحلة ولم ينكر أيّ سياسي أمريكي ذلك فهي إذن "رواية متواترة" وحتّى المصادر الإسلاميّة لم تُنكرها فهي في حالتين إمّا تؤكّدها أو تمرّ عليها دون أن تنفيها مردّدة مقولة: تقاطعت مصلحتنا مع أمريكا في إسقاط السّوفيات الشيوعين. - فها هو بريجينسكي في لقاء صحفي مع مجلّة "لونوفيل أو بسرفاتوار" عام 1998م يؤكّد ذلك بقوله: (... كنّا نريد أن نهدي روسيافيتنام الخاصّة بها ... استمرّت الحرب ما يقرب 10 سنوات وكانت موسكو مضطرّة للاستمرار في الحرب رغم عدم وجود دعم شعبي كامل لها وهو الصّراع الذي أدّى إلى إضعاف معنويات وأخيرًا انهيار الإمبراطورية السوفياتيّة...). -وهيلاري كلينتون وهي تلميذة لبعض طروحات بريجينسكي لمّا تولّت وزارة الشؤون الخارجيّة وحدثت القطيعة مع الإرهاب الذي صنع في محميّات (السي إيه أي) قالت لشبكة سي أن أن (... أنا أعني دعونا نتذكر أن أولئك الذين نقاتلهم اليوم نحن من قُمنا بدعمهم يومًا ما قبل 20 سنة فعلنا ذلك لأنّنا كنّا عالقين في صراع مع الاتّحاد السّوفياتي ولم يكن بإمكاننا أن نسمح لهم بالسّيطرة على آسيا... بمباركة الرّئيس ريجان وبموافقة الكونجرس... قمنا بالتعامل مع المخابرات الباكستانية ودعّمنا تجنيد هؤلاء المجاهدين من السّعوديّة وأماكن أخرى... استوردنا العلامة الوهابيّة للإسلام حتّى نستطيع الإجهاز على الاتّحاد السّوفياتي... في النّهاية انسحاب السّوفيات لم يكن استثمارًا سيّئًا فقد أسقطنا الاتّحاد السّوفياتي ولكن علينا أن نوقن أنّ ما نزرعه سوف نحصده...).