وصلت خارطة الطريق التي رسمتها الحكومة إلى واحد من المحاور الأكثر إثارة للجدل ليس من باب وجاهتها، ولكن من حيث جرأتها، فعندما تحدث تبون أمام نواب الشعب عن حتمية فصل المال عن السياسة، اعتبر الكثير هذا التصريح مجرد "ترف سياسي"، لأن الكثير ممن سبقوه من السياسيين رددوا مثل هذا الكلام غير أنه بقي حبرا على ورق. غير أن كلام تبون هذه المرة لم يلبث أن تمظهر في قرار طال أحد الرجال الأكثر قربا من صناعة القرار سابقا وهو رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، علي حداد، على الأقل بالنظر للحظوة التي لطالما تمتع بها وحصد بفضلها جل الصفقات الكبرى التي أطلقتها الدولة. فهل سيصل تبون إلى مسعاه أم أن الأمر سينتهي إلى اعتذار ل"حداد"، مثلما حدث مع طحكوت في قضيته مع استيراد السيارات؟ هذا السؤال المحوري سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عنه.
قرارات جريئة وتصريحات شجاعة هل سينتصر تبون في معركة فصل المال عن السياسة؟ بدأت حكومة عبد المجيد تبون في تجسيد مخطط عملها الذي نال موافقة غرفتي البرلمان، ويبدو أن الدور هذه المرة جاء على المحور المثير للجدل، وهو المتعلق بفصل المال عن السياسة، ولعل ما حدث ويحدث منذ مطلع الأسبوع، يؤشر على ذلك. ومعلوم أن تبون أطلق خارطة طريق فيها الكثير من الجرأة، كون بعضها طال بؤر متنفذة لطالما أطاحت بمن وقف في طريقها، مستخدمة قوة المال وما وفره لها من نفوذ، وهو الأمر الذي كان محل انتقاد أوساط سياسية، غير أن تلك التحذيرات لم تغير في واقع الأمر شيئا. فإلى وقت قريب كان علي حداد مالك أكبر مجمع للإنشاءات في البلاد، من أكبر "المحظوظين" في البلاد، من حيث الحصول على الصفقات وما يتبعها من امتيازات مثل التغاضي عن عدم احترام الآجال فضلا عن التسهيلات على مستوى البنوك.. أما اليوم فيبدو أن رأس حداد بات مطلوبا أكثر من أي وقت مضى، لكن بمبررات قانونية، لأن الإعذارات المنشورة في بعض الصحف الوطنية استندت على قواعد قانونية غير قابلة للتغاضي، على الأقل من جانب عدم احترام آجال الإنجاز. ويعتبر فصل المال عن السياسة، من أخطر المحاور التي تواجهها حكومة تبون، لأن المال اختلط بالسياسة خلال السنوات القليلة الأخيرة بشكل غير مسبوق، بل وصار يشارك في صناعة حتى القرار السياسي، بدليل الدور الذي لعبه رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، علي حداد، على عدة أصعدة. وجاء تضامن بعض منظمات رجال الأعمال والمركزية النقابية التي يفترض أن تكون أبعد ما يكون عن الباترونا، على الأقل من منظور ما يعتقده إيديولوجيا أمينها العام، عبد المجيد سيدي السعيد، مع رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، لتؤكد مدى صعوبة العقبات التي تنتظر الوزير الأول على طريق إبعاد المال عن السياسة. ويشكل البيان الذي توج اجتماع هيئة سيدي السعيد برفقاء علي حداد شكلا من أشكال التصعيد بين الحكومة من جهة والباترونا والمركزية النقابية من جهة أخرى، وهو التصعيد الذي ينذر بجعل هذا الصيف أكثر سخونة. غير أن المسألة تنطوي على الكثير من الألغاز، فالمعركة تدور بين أطراف معسكر واحد، فالوزير الأول عين لتوه من قبل رئيس الجمهورية، كما أن حداد والمتضامنين معه يشككون في أن تكون القرارات التي صدرت من الوزارة الأولى، تحظى بموافقة رئيس الجمهورية، فهل سيتدخل الرئيس ليقول كلمته في القضية؟ وفي انتظار إشارة من قصر المرادية للوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، تبدو المعركة محسومة مرحليا، لصالح الوزارة الأولى بحكم موقعها القانوني، وقد تتضح الكثير من تطورات القضية في غضون الشهرين المقبلين وفق ما ينص عليه دفتر الشروط الذي نشرت بعض مقتطفاته في الإعذار الذي ظهر في صحف وطنية مطلع الأسبوع الجاري. أما الطرف الآخر فتبقى بيده ورقة واحدة إلى غاية الآن، وهي تصعيد الضغط رفقة من يقف إلى جانبه، غير أن نتائج هذا الخيار يبقى محدودا لكون ظاهر المعركة يبدو قانونيا وإن كان من الصعب إقصاء البعد السياسي من تطور من هذا القبيل. ويرى متابعون أن القرارات التي كشفت عنها حكومة تبون إلى حد الآن، وتلك التي لا تزال قيد الإعداد، من شأنها أن تخلق له المزيد من المتاعب بسبب جرأتها، غير أن من يقدم على قرارات بهذا المستوى من الجرأة، يعتقد أنه يحظى بدعم من قبل الجهات في صناعة القرار قادرة على توفير الحماية له ولإنفاذ قراراته.
الخبير الدولي الاقتصادي عبد المالك سراي ل"الشروق": حداد أخذ أكثر مما يستحق.. وقرارات تبون جريئة! تم مؤخرا اتخاذ العديد من القرارات المهمة على غرار تجميد استيراد بعض المواد وإعادة مراجعة دفتر الشروط الخاص بمصانع تركيب السيارات، ويبدو أن الحكومة ماضية للقيام بما هو أبعد من ذلك. ما هو تعليقكم؟ تكلمنا عن هذا الأمر مرارا، وأكدنا أن الحكومة القوية هي التي تستطيع فرض قرارات صارمة على ملفات كانت محل جدل، ودعوة تبون إلى فصل المال عن السياسة تدخل في هذا الإطار، لكن هي في حاجة إلى قرارات جريئة بإمكانها إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية، عبر تحسين مداخيل الضرائب وجعل المواطن يثق في الدولة ويتوجه إلى البنوك لوضع أمواله وليس استهداف فئة معينة دون الأخرى، تحولت إلى "أولغارشيا" مفترسة، لذا فالدولة مجبرة على أن تطبق القانون في حق هؤلاء وتكون أكثر صرامة في قراراتها. فهمت القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة على أنها إنذار إلى رجال الأعمال المستفيدين من الريع والصفقات العمومية والمتقاعسين عن الوفاء بالتزاماتهم، وهو ما جعل البعض يعتقد أن السلطة شرعت في تجسيد ما وعدت به في مخطط عمل الحكومة، ماذا تقولون؟ في الحقيقة، هذه القرارات كانت منتظرة، إلا أنها جاءت متأخرة وكان بإمكانها أن تنجح وتكون أكثر فعالية لو طبقت في نوفمبر الماضي، فالبنوك تعيش في وضع صعب، ونفس الشيء بالنسبة إلى الجمارك وغيرها من القطاعات، فمن غير المعقول الاستمرار في هذا الوضع، لذا وجب وضع حد لكل ما يحصل من تجاوزات وإعادة النظر في بعض القرارات. الحكومة السابقة كانت مترددة وأضعفها القطاع الخاص الذي كان يسيطر على كل شيء ، لهذا أقول: "الوزير يبقى وزيرا والمسؤول يبقى مسؤولا ولا يجب تجاوز هذه المناصب بما تضمنه من صلاحيات". موقف الوزير الأول من رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، علي حداد، مؤخرا، هل هي بداية لمرحلة جديدة؟ وهل يمكن أن يكون لذلك ضحايا من داخل المعسكر الحاكم؟ في البداية، لا يجب إعطاء هذا الشخص أكثر من حقه، فالحقائق مرة ولا يمكن إخفاؤها، وفي الوقت الحالي نحن في حاجة إلى مواقف وطنية تفيد الشعب على غرار المحافظة على الشركات الوطنية واسترجاع الأراضي الفلاحية المنهوبة وغيرها من الملفات السيادية، لذا لا يجب حصر كلام تبون بخصوص فصل المال عن السياسة في قضية حداد، فالدولة لديها مسؤولية كبيرة أمام الشعب والشباب الذي ينتظر في ورقلة وغرادية وباقي ولايات الوطن أن تحسن وضعيته. ألا ترون أن مواصلة المشاريع وعدم تجميدها، رغم التقشف قرار صائب؟ استمرار المشاريع بالرغم من التقشف هو أمر عادي، خاصة إذا نظرنا إلى طبيعية المشاريع التي تمول فهي تندرج ضمن الأولويات، على غرار السكن والنقل والصحة، ومن واجب الدولة السعي للمحافظة على الجانب الاجتماعي الذي يعد خطا أحمر. ألغى الوزير الأول الكثير من القرارات التي اتخذتها الحكومة السابقة، ويتعلق الأمر بالمستثمرات الفلاحية والعقار الصناعي والمناطق الصناعية، ما هو تعليقك؟ في الحقيقة، هذه القرارات كانت منتظرة، ولا يجب أن ننظر إليها على أنها مست نحو 30 شخصا، تم فتح تحقيق في كيفية استفادتهم من أراض فلاحية، بل يجب أن ننظر إلى 4000 شخص ينتظرون الحصول على أراض فلاحية أخرى للبدء في مشاريعهم، فالدولة يجب أن تفكر على أنها في مستوى عال ولا يجب أن تقع في فخ الأقلية. ما تعليقكم على الحركة في سلك اللولاة، التي شملت 28 ولاية، وهل لها علاقة بالتوجهات التي باشرتها حكومة تبون؟ بعد اطلاعي على أسماء الولاة الذين تم تعينهم مؤخرا، ظهر بشكل جلي أن هؤلاء ينتمون إلى مدرسة واحدة، وهي "المدرسة العليا للإدراة"، وقضية الاختيار من صلاحيات الرئيس، ولا يمكن التعليق عليها أو إعطاؤها أبعادا قد لا تتحملها.
الخبير الاقتصادي عبد الرحمن مبتول ل"الشروق": "حداد وحلفاؤه لا يمثلون نحو 15 بالمائة من رجال الأعمال الجزائريين"! ما تعليقكم على توجه الحكومة الرامي إلى إشراك الشركاء السياسيين والاجتماعيين في الاتفاق على خارطة الطريق المستقبلية؟ مهما كانت خيارات الحكومة الحالية، لنجاح مبادرة الإجماع الوطني يجب أن تشمل النقاشات جميع الأطراف دون استثناء، وفتح باب الحوار مع ممثلي مختلف الشرائح الاجتماعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الضغط الذي تواجهه الميزانية والمداخيل خلال المرحلة المقبلة الممتدة من سنة 2017 إلى 2020، في ظل استمرار أزمة النفط واستقرار احتياطي الصرف حاليا عند 100 مليار دولار. من بين القرارات التي باشرتها حكومة تبون، قرار تجميد استيراد بعض المواد وتقليص أخرى وإعادة مراجعة دفتر شروط تركيب السيارات، ما هي القراءة التي تقدمونها؟ هنا أؤكد إلزامية انتهاج سياسة الانتقائية في الاستيراد وتقليصه بشكل كبير، فمداخيل الجزائر لا تتعدى ال30 مليار دولار في أحسن حالاتها اليوم، في حين أعتقد أن الواردات ستتجاوز 50 مليار دولار وقد تصل عتبة ال60 مليار دولار نهاية السنة، وفي هذا الإطار أرفض سياسة وقف الاستيراد كليا، بحكم أن مثل هكذا قرار يكرس الاحتكار ويتنافى ومضمون الاتفاقيات الدولية، خاصة ما تعلق بمفاوضات الشراكة مع منظمة التجارة العالمية وحتى اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، كما أشجع قرارات وزير الصناعة والمناجم محجوب بدة بشأن مصانع التركيب، فهذه الأخيرة تحولت إلى مجرد وحدات للاستيراد وإعادة البيع مقابل الاستفادة من سخاء الدولة بنسبة إدماج شبه معدومة، وهو ما يضر الاقتصاد الوطني أكثر مما ينفعه. يرى البعض أن توعد الوزير الأول لرجال الأعمال المستفيدين من الريع والصفقات العمومية يندرج في إطار محاربة "الشكارة"، ما هو تعليقكم؟ أعتقد أن الخيار المناسب الذي يجب أن يتبناه الطرفان المتمثلان في الحكومة ورجال الأعمال، هو التزام الهدوء وتفادي الصراعات، خاصة وأننا اليوم نعيش على وقع أنغام تألم الخزينة العمومية جراء استمرار الأزمة النفطية وتراجع المداخيل، فبدل الدخول في مثل هكذا دوامات وصراعات يجب البحث عن مخارج نجدة حقيقية لإنقاذ الوضع ومجابهة مشكلة شح المداخيل. هل تعتقدون أن موقف الوزير الأول من رئيس منتدى رؤساء المؤسسات علي حداد، مؤخرا، هو بداية لتجسيد تهديداته، بشأن الفصل بين المال والسياسة؟ ما أطالب به اليوم هو التغيير في الأشخاص الموقّعين على العقد الاقتصادي الاجتماعي. من المستحيل أن تستمر الثلاثية بنفس الأشخاص والوجوه منذ سنة 1995، حتى الإتحاد العام للعمال الجزائريين، أصبح اليوم لا يمثل العمال، بقدر ما تمثلهم النقابات المستقلة، ولذلك نطالب بالتغيير، وأذهب أبعد من ذلك لأقول أن منتدى رؤساء المؤسسات برئاسة علي حداد وشركائه المجتمعين بفندق الأوراسي لا يمثلون إلا 15 بالمائة من أرباب العمل ورؤساء المؤسسات، يجب توسيع الثلاثية لتمثل الجميع. هل تعتقدون أن ظروف البلاد اليوم تسمح بمواصلة المشاريع التي سبق وتم تجميدها في عهد الحكومة السابقة؟ أعتقد أن الوزير الأول اتخذ قرارا صائبا بعدم تجميد المشاريع التي استكملت 50 بالمائة منها، فالمصلحة العامة تقتضي تسليمها في الآجال المناسبة، مع عدم بدء مشاريع جديدة، وهذا لا يتنافى مع حقيقة أن الوضع اليوم يستلزم ترشيد النفقات وضبط المصاريف بشكل أكبر. أقدم الوزير الأول بمجرد تنصيبه، على إلغاء مجموعة من القرارات التي اتخذتها الحكومة السابقة ويرتبط الأمر بالعقار الفلاحي والصناعي والحظائر الصناعية، لماذا؟ قام الوزير الأول بإلغاء القرارات التي سبق وأن اتخذها وزير الصناعة والمناجم السابق عبد السلام بوشوارب، وأنا شخصيا سبق وأن انتقدت هذه المشاريع ووصفتها بغير المدروسة والعشوائية التي تمنح امتيازات بالجملة للأجانب ورجال الأعمال وحتى بدون مقابل. هل ترون أن توجه الحكومة الجديد وراء إبعاد بعض الولاة ونقل آخرين، خاصة أن الحركة الأخيرة شملت 28 واليا؟ فعلا توجه الحكومة الجديد يقتضي وجوه جديدة، ولكن هنا أعود لأقول إن الدولة ملزمة اليوم باعتماد نظام الأقطاب بدل الولايات واللجوء إلى الفيدراليات فهي أكثر نجاعة لبناء اقتصاد وطني قوي وأكثر حركية في ظل استمرار أزمة البترول التي نعيشها.