كانت الجزائر دولة مستقلة، لها علم، وعملة، وجيش وعلاقات ديبلوماسية مع الدولة الأخرى، لكنها كانت تعترف بالباب العالي أو الخلافة الإسلامية التي كانت تحت السلطة الثمانية، لأسباب دينية ترسل هدية إلى الخليفة في إسطنبول في كل ثلاث سنوات ولكنها لم تكن ضرورية، وبالإضافة إلى ذلك فإن العلم العثماني لم يكن دائما محل احترام من الجزائر. لقد كان للجزائر أسطول بحري قوى خلال الثلاثة قرون، وكان هذا الأسطول مسيطرا على كامل غرب البحر الأبيض المتوسط وعلى شواطئ الأطلسي الأفريقية حتى إنجلترا، وهذه السلطة البحرية قد فرضت نفسها على الدول الأوروبية بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية عدة سنين، وكانت الدولة الأوروبية الصغيرة (مثل بريطانيا والأراضي المنخفضة، والبلاد الأسكندنافية) تدفع الجزية للجزائر سنويا وتقدم لها مختلف الهدايا لكي تشيّد معا صداقة دائمة وتحافظ على تجارتها النشيطة. أما تلك الدول القوية التي كانت تتحرر من السلطة الاستعمارية ومن حروب المنافسة في أجزاء كثيرة من العالم، فقد دفعت هي أيضا الجزية للجزائر في كثير من الأحيان، ولكنها قد دخلت معها أحيانا في حروب، وقد كانت الجزائر هي المنتصرة دائما خلال هذا الصراع إلى الحملة الفرنسية 1830. ولكي نوضح الصورة حول السياسة الخارجية للجزائر، نذكر باختصار كيف طبقت هذه السياسة على كل دولة أوروبية على حدة وسنذكر في هذا المجال الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونستثني فرنسا التي سنخصص لها قسما من هذا البحث، لأنها تحتاج إلى تركيز أكثر في علاقتها مع الجزائر. القوة البحرية الجزائرية حجزت 11 سفينة أمريكية وأسرت 2 ألف أمريكي عام 1893 ارتبطت العلاقات بين أمريكيا قبل 1783، فقد كان لأمريكا مشاكلها الخاصة في نهاية القرن الثامن عشر، ورغم تلك فقد بدأت تتاجر مع العالم الخارجي وكانت تريد أن تمد منطقة حركتها إلى البحر الأبيض المتوسط، وقد أعلنت الجزائر الحرب ضدها، وهكذا حجز الأسطول الجزائري سنة 1785 سفينتين أمريكيتين في عرض المحيط. ونظرا إلى أنه لم يكن لأمريكا من الوسائل ما تعالج به هذا الوضع، فقد أضافت مادة في معاهدتها مع فرنسا تقوم بمقتضاها الأخير بمساعدتها. وكل من ج. آدامر، وب فرنكلين وت. جيفرسن، الذين كانوا في أوروبا في ذلك الوقت أعطيت لهم تفويضات من حكومتهم لكي يفاوضوا على معاهدة مع الجزائر. وفي 1793 حجز الجزائريون إحدى عشرة سفينة أمريكية أخرى في عرض المحيط وجاءوا بها إلى الجزائر العاصمة، وخلال هذه الأثناء كان هناك أكبر من مائة أسير أمريكي في الجزائر. وفي سبتمبر 1795 أمضيت معاهدة سلام بين الجزائروالولاياتالمتحدة اتفقت الأخيرة بمقتضاها على أن تدفع حوالي سبعمائة وخمسة وعشرين دولارا، أما داي الجزائر فقد وافق من جهته على أن يساعد على إبرام معاهدا سلام بين الولاياتالمتحدة وكل من تونس وطرابلس، وقد قال بعضهم "إن معاهدة السلام مع الداي قد قبلت بالحفاوة والتهاني في أمريكا، إنه أدت إلى إطلاق سراح الأسرى وأمنت التجارة، ولكنها كانت معاهدة مهينة كثيرا (لأمريكا) لأنها قد كلفت كثيرا من النقود ونصبت على جزية سنوية". ونظرا إلى حربه مع بريطانيا سنة 1781، فإن مدخرات أمريكا البحرية قد عانت كثيرا، وعندما عرضت على الداي أن تدفع له النقود بلاد من المعدات العسكرية، رفض وأعلن الحرب عليهما من جديد، ولكنها بعد ن وقعت السلام مع بريطانيا (1815) ظهرت أمريكا بقوة حبرية جيدة وأرسلت أسطولها أمام مدينة الجزائر كي يفرض السلام على الداي. وهكذا أبرمت بين الطرين معاهدة سلام في مدينة الجزائر سنة 1815، وقد جددت هذه المعاهدة عدة مرات، ومنذئذ أصبحت العلاقة الجزائرية الأمريكية عادية وبقي كذلك إلى الاحتلال الفرنسي علاقة الجزائر وبريطانيا. العلاقات بين الجزائر وبريطانيا فهي أقدم وأكثر تأثيرا من تلك التي كانت بينها وبين أمريكا، ومن جهة أخرى كانت هذه العلاقات أكثر تعقيدا في كل التفاصيل المتعلقة بالعلاقات الجزائرية البريطانيا، ولكن هدفه هو أن يعطي فكرة عن أهمية الجزائر في هذه الفترة التارخية، ولا سيما في العقلية الأوروبية. الجزائر أقامت علاقات ودية مع بريطانيا حتى قبل مجيء الأتراك في أوائل القرن السادس عشر، فأهمية الجزائر الجغرافية والسياسية والتجارية، جعلت بريطانيا وفرنسا تتنافسان بأشنها، ولكن الجزائر تعاملت مع كليهما واستفادت من هذه المنافسة بشأنها. لقد تمتعت بريطانيا بامتيازات خاصة لم تتمتع بها إلى فرنسا منذ عهد لويس الرابع عشر، وعلى أية حال، فإنه بينما كانت فرنسا في حرب في أوروبا تحت نابوليون، أعطت الجزائر تلك الامتيازات إلى بريطانيا سنة 1806 بنفس المعاملة التي كانت لفرنسا، وبعد مؤتمر فيينا، خرجت بريطانيا منتصرة وهاجم أسطولها في البحر الأبيض المتوسط الجزائر دون استشارة الحكومية، لكي يجبر الجزائريين على إطلاق سراح الأسرى البريطانيين والمالطيين والإيطاليين، خاصة أن معركة الجزائر التي جرت سنة 1816 مشهورة في تاريخ البحرية، لأن البريطانيين كانوا قد تحالفوا مع هولندا ومع بعض الأساطيل الإيطالية وقد ساومت وناورت في هذه الأثناء دون أن تخسر كثيرا، وفي معاهدة 26 أوت 1817 استرجعت فرنسا امتيازاتها في الجزائر عن طريق المساومة. وقد استأنف البريطانيون علاقاتهم مع الجزائر وواصلوا تأييدهم القوى لها ضد فرنسا، وبتعاقب الأيام واتتهم فرص ذهبية حين تصدعت العلاقات الفرنسية الجزائرية في 1827. الجزائر والدول الأوروبية الصغيرة أما العلاقات بين الجزائر والدول الأوروبية الصغيرة فقد كانت مختلفة نوعا ما. فبعض هذه الدول كانت تدفع الجزية إلى الجزائر، بحيث تدفع لها كمية معينة من النقود أو تتعهد بحماية السفن الجزائرية في موانئها لكي تقوم بأعمالها التجارية بحرية، وتؤمن خطوط مواصلاتها البحرية، ومن هذه الدول الدانمارك، والسويد، وسردينيا ونابولي، وغيرها. وقد كان هناك على العموم سلام دائم بين الجزائر هذه الدول. أما المجموعة الأخرى من الدول الأوربية، فتشمل إسبنانيا والبرتغال وهولاندا، فهذه الدول كانت تدفع الجزية الى الجزائر في أغلب الأحيان. ولكنها أحيانا كانت تدخل في حرب معها بطريقة فردية كما فعلت إسبانيا والبرتغال، أو بطريقة التحالف مع دولة أخرى كما فعلت هولندا حين دخلت في الحرب ضد الجزائر بالتحالف مع بريطانيا العظمى سنة 1816. إسبانيا كانت إسبانيا هي أكثر الدول المغضوب عليها من الجزائريين. فكثير منهم كانوا معروفين بالمور: أهالي أفريقيا الشمالة الذين عاشوا في الأندلس عدّة قرون والذين طردهم الصليبيون الإسبانيون أثناء وبعد الحكم الإسلامي في إسبانيا. وبالإضافة الى ذلك، فإن الإسبانيين قد طاردوا أولئك المسلمين الفاري في بداية القرن السادس عشر حين إحتلوا وهران، وبجاية، وهددوا مدينة الجزائر نفسها. وعلى أية حال، فإن العلاقات الجزائرية الإسبانية لم تصل أبدا الى درجة التفاهم. وقد فرضت الجزائر شروطا على إسبانيا مدة حوالي ثلاثة قرون رغم تدخل بريطانيا العظمى ونابولين، ورغم المحاولات الإسبانية لمحاصرة الجزائر بل حتى مهاجمتها بيأس، مثلما وقع في حملة أوريلي 1775، والحق أن بريطانيا العظمى قد قدمت مساعدتها لإسبانيا بخصوص وضع الأخيرة مع الحزائر. البرتغال لم تكن البرتغال تختلف كثيرا عن إسبانيا بإستثناء أن الأولى كانت أضعف وأقل، وأكثر تبعية في معظم الأحيان لصديقها أو حليفها، وبهذه الطريقة إضطرت الى دفع جزية سنوية الى الجزائر، وفي سنة 18910 كان هناك 615 برتغاليا سجينا في الجزائر. وقد توسطت بريطانيا العظمى فعمدت الى وضع خطة لتحرير هؤلاء الأسرى، وذلك بأن تدفع البرتغال الى الجزائر مبلغ 690337 دولار فدية. وقد نجحت هذه الخطة، فدفعت البرتغال وأطلق سراح أسرها. لقد كانت البرتغال "تصارع من أجل وجودها السياسي، وكانت أما تحت رحمة أعدائها الفرنسيين وأما تحت السلطة العسكرية لحيليفتها بريطانيا". هولندا إن العلاقات بين هولندا ودول شمال أوروبا من جهة وبين الجزائر من جهة أخرى، لها تاريخ سلمي طويل. فقد دفعت تلك الدول جزياتها الى الجزائر دون خرق للمعاهدات. وقد إحترم الجزائريون تلك الدول بعمق نظرا لسياستها السلمية وطابعها الدولي المرموق. ونذكر بعض الإحصاءات التي تبين الموارد التي إتصلت بها الخزينة الجزائرية سنويا من بعض الدول الأوروبية ولاسيما فرنسا: فرنسا (من حق صيد المرجان، وإحتكار الصوف، والشمع والجلود) 7000 دولارا ملك نابولي 24000 دولارا ملك السويد 24000 دولارا مالك الدانمارك 2400 دولارا مالك البرتغال 24000 دولارا العلاقات الدبلوماسية الجزائرية الفرنسية الوثائق الفرنسية تكشف مشروعا فرنسيا لاحتلال الجزائر عام 1729 وفي سنة 1791 إن العلاقات الفرنسية الجزائرية كانت قديمة الى حد كبير يسمح بإقامة صداقة قوية وتعاون دائم. وقد ظهر هذا التعاون والصداقة في شكل إمتيازات وقروض، ومعاهدات سلام بين البلدين. فمن أوائل القرن السادس عشر أعطيت فرنسا إمتيازات في الجزائر بممارسة التجارة وإستغلال بعض المنافع على الساحل. وقد تولت الشركة الإفريقية هذه المسؤولية. وأثناء الثورة الفرنسية كادت هذه الصداقة بين البلدين تتوقف، ولكن الجزائر واصلت منح فرنسا مساعدات إقتصادية وبالأخص النقود والحبوب. وعندما هاجم نابوليون مصر إضطرت الجزائر أن تعلن الحرب ضد فرنسا. وتحت تأثير وترغيب بريطانيا، بل لعله نظرا إلى تفوق بريطانيا في البحر جردت الجزائرفرنسا من إمتيازاتها على الساحل الجزائري ومنحت الى بريطانيا، ولكن ذلك لم يدم طويلا. وقد أشرت من قبل إلى أن بريطانيا هاجمت الجزائر سنة 1816. ونتيجة لهذا الحادث، إسترجعت فرنسا في الحال الإمتيازات بمعاهدة 1817. وبعد ثلاث سنوات أصرت الجزائر على أنه يجب على فرنسا أن تجدد المعاهدة لإعادة النظر في طريقة الدفع. وقد توترت العلاقات بين البلدين حتى كادت تنقطع. وكان داي الجزائر يواصل سؤاله للقنصل الفرنسي بخصوص الدّين الذي كانت فرنسا مدينة به للجزائر. وفي 1827، وأثناء حفلة دينية، وأمام القناصل الأجنبية والهيئات الدبلوماسية المعتمدة جدد الداي سؤال الى القنصل الفرنسي. ولكن جواب الأخير كان غير مهذب، فما كان من الداى إلا أن فقد توازنه وضرب القنصل على وجهه بمروحة من الريش وأمره بمغادرة المكان، وقد إعتبرت فرنسا هذا التصرف من الداي إهانة لشرفها وطالبت بالمبررات والتعويضات. وعندما لم تقتنع بالجواب، أعلنت حصارا كاملا ضد الجزائر. هذا الحصار لم يكن فعالا، وقد دام ثلاث سنوات بدون نتيجة. وهنا بدأت فرنسا تعد حملتها العسكرية ضد الجزائر. وفي 14 جوان 1830 نزلت القوات الفرنسية هناك. ولكن فرنسا في الحقيقة كانت تعد حملتها ضد الجزائر حتى قبل الثورة الفرنسية، فقد إكتشف في الوثائق الفرنسية أن هناك مشروعا غريبا قد م سنة 1729 الى الملك الفرنسي حندئذ بهدف إحتلال الجزائر، وفي سنة 1791 كان هناك مشروع غريب آخر يستهدف إحتلال الجزائر. ويشير بارسال حملة عسكرية الى سيدي فرج على الساحل الجزائري وبعد حوالي 17 سنة (1808) أعطى نابلوين نفسه أمرا الى أميره البحري، ديكري، لإعداد مشروع لمهاجمة الجزائروتونس. وفي رسالته الى هذا الأمير، ذكر نابوليون بأهمية الساحل الجزائري وطلب معلومات كاملة عن الجزائر قبل أن يشرع فعلا في إحتلالها. وقد أشار نابلويون في رسالته أيضا الى الأخطار التي يمكن أن تكون في جزيرتي صقلية ومالطة إذا عزم على إحتلال الجزائر. إن فرنسا إستمرت في علاقتها المعادية للجزائر، وكان هناك تبادل الرسائل والمراسلات بين حكام الجزائر وحكام فرنسا في مختلف المناسبات. ومن بين حكام فرنسا نابوليون الذي طلب من الجزائر في أوائل القرن التاسع عشر أن تحترم رعاياه في إيطاليا، وقد فعلت الجزائر ذلك. الوضع الداخلي في فرنسا لقد أعاد مؤتمر فيننا أسرة البوربون الى عرش فرنسا سنة، 1815 ورغم أن الشعب الفرنسي كان قد تعب من الحرب فإن أفكار الإصلاح والحرية، والدستور قد بقيت حية. وقد إنتشرت فكرة التهدئة والإستسلام بفضل حماية القوة الرجعية في أوروبا التي كان على رأسها مترنيخ، والإسكندار الزول فيما بعد وبعض الزعماء البريطانيين. ولكن لويس الثامن عشر تبنى كثيرا من الإصلاحات النابوليونية التي من بينها الدستور واتجاهات ليبرالية أخرى بخصوص الكنيسة، والصحافة، والفلاحين. وقد كان حزب الملكيين المتطرفين يتقدم تدريجيا. لذلك فإنه عندما مات لويس الثامن عشر سنة 1824، كانت الحكومة في فرنسا في أيدي الملكيين المتطرفين. وكان الملك الجديدو شارل العاشر، أولا في تعاطف مع الملكيين ثم أيدهم في النهاية بصفة كاملة. وقد كانت هناك علامات سخط في شعبه. فنمو الإتجاهات اليبرالية في فرنسا ثم الأفكار الجمهورية، والإشتراكية، والبونابيرتية... الخ، قد جعلت الملك يتحول إلى الملكيين والى الجماعات الرجعية. فقد أعاد شارل العاشر كثيرا من الإمتيازات الى طبقة رجال الدين وأعطى طبقة الإشراف مليونا من الفرنكات كتعويض عما فقدوه أثناء الثورة. وقد ألغى حرية الصحافة وجرد معظم الطبقة الوسطى من حق الإنتخابات. وعندما شعر شارل العاشر وجماعته الرجعية أن تيار الشعب الفرنسي بسير ضدهم رأوا أن يعدو حملة ضد الجزائر للنفخ في الروح الوطنية ولمنع، أو على الأقل، لتأجيل الثورة التي كان يتوقعها كل أحد. فالمك الرجعي ووزراؤه قد قاموا أيضا بمهمات أخرى، وهي حل مجلس النواب حين فاز الليبراليون بالأغلبية في الإنتخابات العامة. وفي يوم الإثنين 17 ماي 1830 أصدر شارل العاشر أمرا ملكيا بحل مجلس النواب ودعوة المجالس الإنتخابية للإجتماع في شهري جوان وجويلية وإجراء إنتخاب مجلس الشيوخ والنواب في الثالث من أوت. وكان هؤلاء الفرنسيون يأملون أن الحملة ضد الجزائر قد تغير نتيجة الإنتخابات السابقة وتجعلهم يفوزون بالأغلبية وبنجاح فائق في مجلس النواب الجديد، ولكن ما نتيجة مثل هذه الجهود المعتوهة؟ وقبل شهر واحد من ثورة جويلية التي نجحت في إسقاط الملك الرجعي، وكتب محررو مجلة غلوب "إن الأزمة التي تتخبط فيها فرنسا الآن تمثل منظرا مرعبا، وإنه المنظر المرعب للفوضى التي طالما لطخت مكانتها بالدم والتي هزت كيان أوروبا كالزلزال، يبدو أنها على وشك العودة من جديد". لقد كان حقا أن فرنسا كانت على وشك ثورة جديدة في جوان 1830، ولكن الثورة التي حدثت أثناء أقل من شهر واحد لم تكن زلزالا في أوروبا ولا في فرنسا نفسها. فثورة جويلية قد أسقطت شارل العاشر وجادت بلويس فيليب وقد إستمر هذا في تطبيق نفس السياسة سواء في الداخل أو في الجزائر. وقد ظنوا أن مثل هذه النغمة ستجعل هؤلاء يسرعون إلى تأييد الحكومة ويباركون حركتها العدالة والقومية. ومن جهة أخرى، فإن الجيش الفرنسي قد بقي مدة طويلة في سلام. فمنذ نابليون وفترة الاسترجاع التي تلته لم يكن "للجيش الأعظم" أي شيء يعمله، أما أوروبا عامة فقد كانت في سلام تحت الحكومات الرجعية مترنيخ، وليفربول والأسكندر الأول، ثم بالطبع شارل العاشر، وبدلا من أن يترك الجيش يتقدم نحو باريس النظام وتأييد الليبراليين، بدر شارل العاشر إرسال الجيش إلى طوولون استعداد "للمعركة المجيدة" على الساحل الآخر على البحر الأبيض المتوسط. ولكن ماذا عن بريطانيا العظمى وأوروبا كلها؟ هل أخذ الرسميون الفرنسيون ذلك في الاعتبار قبل أن يباروا في تنظيم الحملة؟ نعم لقد فعلوا واختلفوا في أسباب ومبرارات. فقد قالوا إن الجزائر لم تطع أمر المبعوثين البريطانيين والفرنسيين بإلغاء نظام الرق وقالوا أيضا بأنها قد استرقت ضباطا كانوا قد أسروا على بواخر تحمل علم روما التي كانت عندئذ تحت الحماية الفرنسية... إلخ، غير أن بريطانيا لم تكن مقتنعة بهذ الإدعاءات، وأصرت على أنه يجب على فرنسا أن تقدم تفسيرات وافية حول مصير الجزائر إذا نجحت الحملة وقد رد ملك فرنسا شارل العاشر عى السفير البريطاني في باريس، عن طريق رئيس وزرائه دي بولنياك (De Polignac)، أن إذا نجحت الحملة فإن فرنسا مع حلفائها. كل المؤرخين الفرنسيين يستعلمون كلمة "الممتلكات" أو"المنشآت الفرنسية"، بل حتى كلمة "ملكية" التي لها بالطبع أصول الإمبريالية وفكرة الإعتداء من أجل المصالح الاقتصادية. لسان رئيس وزرائه بأن احتلال الجزائر في حد ذاته أن يباركه كل المسيحيين وكل العالم المتحضر. وقد جاء في كلامه "إذا كان في الصراع الذي أوشك أن يبدأ نتيجة هامة، فإن الملك في تلك الحالة سيأخذ في الاعتبار أهمية هذه المسألة لإقرارا ما يجب أن تكون عليه الأشياء أمام الوضع الجديد، التي يجب أن تسجل أكبر ربح للمسيحية". أما الجريدة لومنيتور Le Moniteur شبه الرسمية، فقد نشرت أهم النقطة التي اعتبرتها فرنسا العناصر الأساسية التي أدت إلى حملتها ضد الجزائر، وبناء على هذه الجريدة فإن أسباب الحملة هي ما يلي: 1 لقد استرجعت فرنسا، بمقتضى معاهدة 1817، ممتلكاتها لبعض المؤسسات التجارية التي توقف استعمالها أثناء الثورة، ولكن الداي قرر أنه لا يسمح بامتيازات لفرنسا لا تتمتع بها الدول الأخرى، ولذلك هدم كل الحصون والمؤسسات وتوابعها التي كانت لفرنسا. 2 وبمقتضى نفس المعاهدة كان لفرنسا امتياز صيد المرجان على الساحل الجزائري بشرط أن تدفع هي 60 ألف فرنك سنويا مقابل ذلك. وبعد سنتين من المعاهدة طلب الداي من الفرنسيين 200 ألف فرنك ففعلوا، وفي سنة 1826 أصدر الداي قرارا يمنح بمقتضاه الحرية لكل الدول في صيد المرجان. وفي سنة 1814 أجبر القنصل الفرنسي، ديبوي ثانفيل على مغادرة مدينة الجزائر لأنه رفض أن يعوض بعض الجزائريين عما أقرضوه لبعض الرعايا الفرنسيين قبل أن يستشير حكومته. إن الداي قد رفض أن يعطي إجابات مرضية على حجز والاستيلاء على الباخرة الفرنسية لا فورتون في عنابة. 5 في سنة 1818 أجاب الداي كلا من أمير البحر البريطاني والفرنسي بأنه سيواصل نظام الاسترقاق ضد رعايا الدول التي لم توقع معاهدات معها. 6 وفي سنتي 1826 و1827 كان هناك خرق للمعادهات من الداي، فهناك بواخر ترفع علم روما قد صودمت رغم أنها كانت تحت الحماية الفرنسية. كما أن هناك بواخر فرنسية قد نهبت وأرغم ربانوها على أن ي صدعوا بواخر القراصنة الجزائريين بهدف الاستظهار بأوراقهم. 7 تصرف الداي نحو يهوديين، فبناء على إتفاقية 1818 كان اليهوديان سيعوضان، مع الاحتفاط ببعض النقوذ لإجابة مطالب بعض الفرنسيين ضدهما، وكان الداي طلب أن يدفع إليه شخصيا كل القرض الذي يصل إلى (700.000 فرنك) وأن على الرعايا الفرنسيين أن يلتجئوا إلى الحكومة الجزائرية لإجاب مطالبهم، وقد أضاف إلى هذا الموقف الذي يثير السخط (إشارة إلى ضرب الداي للنقل الفرنسي) تهديم المؤسسات الفرنسية، لذلك أصح حصار مدينة الجزائر أمر لا مناقص منه، وبعد أن كلف هذا الحصار فرنسا حوالي 20 مليون من الفرنكات حاولت فرنسا في جولية 1829 أن تتفح امفاضوات ولكنها فشلت، وقد وصف اليبان الفرنسي هذا ا لموقف من الداي بأنه قل جعل كل محاولة أخرى للتفاهم من جانب فرنسا غير متناسب مع شرف الأمة. وهنا نرى أن البيان الفرنسي الذي نشرته جريدة "لومنيتور" قد استعمل نفس النغمة التي ساتعملها هلتر قبل أن يهجم على ضحيته: الاتهام بخرق المعاهدات، والإدعاء بامتلاك بعض المؤسسات والممتلكات في بلد أجنبية، وإهانة شرف الأمة، وغير ذلك. وقال المؤرخ الفرنسي أرسن برتاي مؤلف كتاب "الجزائر الفرنسية" إن فرنسا قد خسرت حوالي 7 ملايين فرنك نتيجة للحصار، وأنها تعتبر نفسها صاحبة الحق في الممتلكات التي أسستها منذ القرن الخامس عشر، ولكن أكثر من ذلك أهمية هو أن المؤلف قد ذكر أحد الأسباب التي أشير إليها في البيان الفرنسي، وهو، غيرة فرنسا من أنكلترا لأن الداي قد أعطى الحقوق التجارية إلى التجار الأنكليز، فهذا التصرف، بناء على رأيه، قد أغضب فرنسا بالطبع. وبعد قتال مرير وخسائر كبيرة دخل الفرنسيون مدينة الجزائر في 5 جويلية من نفس العام، ولكن القتال في الشوارع وفي الضواحي قد استمر، ومن تلك اللحظة بدأ تاريخ المقاومة الجزائرية. هذا وقد أبيحث مدينة الجزئر إلى الجنود خلال أكثر من أربعة أيام. وقد سجل المؤرخون الفرنسيون أنفسهم بخجل انتهاك الحرمات والفظائع التي أصبحت هي قانون المدنية. واستحوذ الفرنسيون على خزينة الجزائر، وتؤكد وثائقهم بأن الخزينة التي تقع في القصب كانت تحتوي على حوالي 2.400.000 جنيه استرليني ذهبا، وبينا قدرت مصاريف الحملة ب 4.000.000 فقط، ولكن المؤرخين يذكرون أن الداي علي خوجة قد استعمل سنة 1817، 50 بغلا كل ليلة لمدة خمسة عشر ليلة لنقل محتؤى الخزانة. وهكذا انتهى وجود الجزائر كدولة مستقبلة، ورغم البيان الفرنسي فإن الجزائر قد ألحقت بفرنسا مباشرة. أما شارل العاشر فقد أسقطته ثورة جويلية التي جا إلى الحكم بلويس فيليب، الذي واصل نفس السياسة في الجزائر، ولم تستشر فرنسا حلفاءها كما وعدت من قبل أما منافستها بريطانية فقد كانت مشتغلة بأزمتها الداخلية وبموت ملكها. لقد كانت فرصة ذهبية لفرنسا أن تضع قدمها على الشطر ال خير من البحر الأبيض المتوسط وأن تبدأ عهدا جديدا يعرف بعهد الأمبراطورية الثانية الذي يمثل احتلال الجزائر فاتحه له. إن الحرب ضد الجزائر سنة 1830 كانت أعظم عمل مهين وعنيف ترتكبه أمة ضد أخرى، فقد استغل ملك فرنسا العواطف الدينية للمواطنين الفرنسيين والزوروبين طلبا للتأييد الكنسية، ولكن كان هناك معارضون كثيرون لهذه الحرب من الشعب الفرنسي، ومن بريطانيا، ومن الباب العالي، فالمعارضة في البرلمان الفرنسي قد عارضت الحرب ونادت بالسلام وقد قام بهذا الدور الجمهوريون والاشتراكيون، والليبراليون عموما، وقد قال مؤلف »الجزائر وماضيها« بأن الرأيالعام الفرنسي كان قد تأثر بالأفكار الباريسية وبالذات منذ أدب فولتير. (23) ولكن الذين أيدوا الاستعمار كانوا أهل النخبة الذين كانوا واعين لعظمة فرنسا، وتقاليدها الاجتماعية، وبالإضافة إلى ذلك كان هناك. التجار ورجال الأعمال في الأقاليم، ولا سيما بمرسيليا، وبالطبع كان هناك الجيش أيضا الذي ثارته إهانة الجزائر للشرف الفرنسي، كما كان يشاع. أما بريطانيا، فقد كانت ضد الحملة كما سبقت الإشارة، وقد أصرت على أن يقدم فرنسا مبررات وضمانا على القيام بالحملة، وقد نشرت جريدة "ليفربول ميركيري" رسالة من مدينة ميسينا (تاريخها 28 ماي 1830) قد أبحر نحو الجزائر... ولكن يشاع بأن هناك سوء تفاهم بين القنصل الإنجليزي وأمير البحر الفرنسي في الجزائر. وقد أشارت الرسالة أيضا إلى أن "قطعة من الأسطول الروسي ستتبع" متجهة نحو الجزائر. مؤامرة اغتيال الداي الجزائري بدأت فرنسا الحملة ضد الجزائر منذ 1827، ولكن لم يأت بنتيجة عندئذ، وقبل بداية 1830 كانت مدينة طولون مشغولة، فقد نودي على الجيش الفرنسي من مختلف أقاليم البلاد، كما أن البحرية كانت على استعداد أيضا، وقد وفرت الدولة لذلك أسلحة ومناورات جديدة، وكان العملاء والجواسيس الفرنسيون يعملون في مختلف الاتجاهات، من مصر إلى المغرب الأقصى تم طولون، وكانت هناك إتصالات سرية مع الخلفاء والأصدقاء، وبينما كان ملك فرنسا الكاثوليكي المتحمس يتآم ضد حرية شعبه وضد ديمقراطية الدستور الفرنسي، وكان داي الجزائر يواجه ثورة في بلاده (ربما من وحي المخبرين الفرنسيين) وفي نفس الوقت اكتشفت مؤامرة هدفها اغتيال الداي مما أدى قتل كثير من المتآمرين، قبل أربعة عشر يوما فقط من دخول الفرنسيين. وكانت هناك بعض المصاعب للحصول على الأسلحة، وفي بناء خطوط دفاعية، قوية وفي إعداد برية ضخمة لتدافع عن كامل الساحل الجزائري الطويل. ومن جهة أخرى، كان الفرنسيون يحاولون إضعاف معنويات أهالي الجزائر بواسطة عملائهم ومشوراتهم السرية، فقبل أن يغادروا طولون متجهين إلى الجزائريين أعلنوا بيانا طبعوه بالعربي وأرسلوا منه 400 نسخة إلى قنصلهم في تونس لتوزيعها في الجزائر. وفي هذا البيان ادعى الفرنسيون مايلي: إنهم قادمون إلى الجزائر لمحاربة ال أتراك وليس الأهالي. إنهم سيحمون الأهالي ولا يحكمونهم. أنهم سيحترمون دين الأهالي، ونساءهم، وأملاكهم، إلخ. (لأن ملك فرنسا، حامي وطننا المحبوب، يحمي كل دين). تذكير الأهالي بأن مصر قد قبلت صداقة الفرنسيين (30 سنة مضت على حملة نابليون على مصر) وأن هؤلاء سيعاملون الجزائريين بنفس المعاملة التي عاموا بها المصرين. 5 طلبوا من الأهالي أن يتعاونوا معهم ضد الأتراك أوعلى الأقل أن يبتعدوا إلى الريف »أن الفرنسيين ليسوا في حاجة إلى مساعدة لهزيمة وطرد الأتراك). ونظرا لأهمية هذا البيان أو هذه الوثيقة التاريخية، فإن سأكذرها كاملة في المحلق 24 وقد قاد دي بورمويل الذي كان قد فر جيش نابليون أثناء اللحظة الحاسمة في معركة "واترلو"، والذي كان وزيرا للحربية في وزارة بولينياك، قاد الجيش والأسطول الفرنسيين إلى الجزائر، ونزل الفرنسيون في سيدي فرج، وهو مكان لم يتوقع الجزائريون الهجوم منه، يوم الربع عشر من جوان 1830. نسخة من البيان الفرنسي الذي أعد في طولون بالعربية والموجه إلى الجزائريين عشية إقلاع الأسطول الفرنس نحو الجزائر. (إلى الكولوغلي، أبناء الأتراك والعرب المقاومين في إقليم الجزائر): إننا نحن أصدقاؤكم الفرنسيون نتوجه الآن نحو مدينة الجزائر، أننا ذاهبون لكي نطرد الأتراك من هناك، إن الأتراك هم أعداؤكم وطغاتكم الذين يتجبرون عليكم ويضطهدونكم والذين يسرقون أملاككم وإنتاج أرضكم، والذين يهددون حياتكم باستمرار، إننا لن نأخذ المدينة منهم لكي نكون سادة عليها. إننا نقسم على ذلك بدمائنا وإذا انضممتم إلينا، وإذا برهنتم على أنكم جديرون بحمايتنا فسيكون الحكم في أيديكم كما كان في السابق، وستكونون سادة مستقلين على وطنكم. إن الفرنسيين سيعاملونكم كما عاملوا المصريين، إخوانكم الأعزاء، الذين لم يفتأوا يفكرون فينا ويتأسفون على فراقنا طيلة الثلاثين سنة الماضية منذ خروجنا من بلادهم، والذين ما يزالون يرسلون أبناءهم إلى فرنسا يتعلموا القراءة والكتابة ولكل فن وحرفة مفيدة، ونحن نعدكم باحترام نقودكم وبضائعكم ودينكم المقدس، لأن ملك فرنسا المعظم حامي وطننا المحبوب، ويحمي كل دين. فإذا كنتم لا تثقون في كلمتنا وفي قوة سلاحنا، فابتعدوا عن طريقنا ولا تنضموا إلى الأتراك الذين هم أعداؤنا وأعداؤكم، فابقوا هادئين. إن الفرنسيين ليسوا في حاجة إلى مساعدة لضرب وطرد الأتراك، إن الفرنسيين سيظلون أصدقائكم المخلصين، فتعالوا إلينا وسنكون مسرورين بكم وسيكون ذلك فرصة لكم، وإذا أحضرتم إلينا الأطمعة والأغذية والأبقار والأغنام فسندفع ثمن ذلك بسعر السوق، وإذا كنتم خائفين من سلاحنا فأشيروا علينا بالمكان الذي يقابلكم فيه جنودنا المخلصون دون سلاح مزودين بالنقود في مقابل التمويل الذي تأتون به. وهكذ يحل السلام بينكم وبينا لمصلحتكم ومصلحتنا.