يجتمع الوفد الجزائري المفاوض بنظيره من الاتحاد الأوربي الثلاثاء القادم بلكسمبورغ لبحث سبل تطوير اتفاق الشراكة المبرم بين الطرفين العام 2002 والذي دخل حيز التنفيذ العام 2005 . وكان الطرف الجزائري أعاب على نظيره الأوربي أنه لم يهتم بجانب التوازن في الاتفاق بل ركز على الجانب التجاري مما حول البلاد في غضون 5 سنوات الى سوق رائجة لمختلف الماركات الأوربية، وأكثر من ذلك للماركات الأخرى العابرة للفضاء الأوربي. والنتيجة هي ارتفاع حجم الواردات الجزائرية من الاتحاد الأوربي من مستوى 10 مليار دولار إلى 20.3 مليار دولار خلال هذه الفترة، بينما لم يتعد حجم الصادرات الى الفضاء الأوربي 0.8 مليار دولار. فماذا ينتظر الجزائريون من الاجتماع الخامس لمجلس الشراكة المنتظر انعقاده الثلاثاء القادم؟ وما هي المحددات الجديدة التي ستحكم هذه الشراكة في الأفق المنظور؟ * محددات جديدة * تجري المحادثات القادمة بين الطرفين الجزائري والأوربي في ظروف تختلف جذريا عن الظروف التي سادت العام 1997 تاريخ انطلاق المفاوضات حول الشراكة الأورومتوسطية، وتختلف أكثر عن الظروف التي أحاطت بمرحلة التوقيع على اتفاقية الشراكة العام 2002. فالملف الأمني بالنسبة للجزائر بات جزءا من التاريخ، وسوق النفط خلال هذه الفترة مكنت البلاد من راحة مالية جيدة، وتراجع قيد الدين الخارجي إلى حدود الصفر، واجتازت الجزائر برامج تنموية مهمة قدرت لحد 2014 بما لا يقل عن 586 مليار دولار. ومن جهة أخرى، لم يعد النظام السياسي في الجزائر في حاجة إلى دعم أوربي إضافي لإنجاح الاختيارات الكبرى للبلاد وعلى رأسها أجندة رئيس الجمهورية في تحقيق المصالحة وبناء دولة القانون. * وفي الجانب الأوربي، زادت مخاطر انهيار نظام اليورو في غضون العشر سنوات المقبلة، وبلغت العملة الأوربية الموحدة أدنى مستوى لها إزاء الدولار منذ 4 سنوات، وتعيش الاقتصاديات الهشة في الاتحاد الأوربي أزمات هيكلية قد تعصف بكل من المجر وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا. * وأمام هذه المتغيرات الجديدة، برزت هموم أخرى لكلا الجانبين: فالجزائر مهتمة بشراكة استراتيجية متوازنة تسمح بتأهيل النسيج الصناعي المحلي واقتناص فرص حقيقية للاندماج في الفضاء المتوسطي من بوابة التصدير. والاتحاد الأوربي مهتم بالطاقة النظيفة وتأمين حاجة أوربا للطاقة للمدى البعيد خاصة وأن اقتصاد الرفاه في أوربا يحتم على واضعي السياسات مواكبة الطلب المتزايد على الغاز بنسبة تصل الى 23 بالمائة على آفاق العام 2050 وهو التاريخ المفترض للبدء في استغلال الطاقات المتجددة. * * الفكرة كانت سياسية * أبدى وزير الخارجية الجزائري في تصريح أخير له استياء واضحا من نتائج اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي بعد ثماني سنوات من التوقيع عليه وخمس سنوات من بدء التطبيق مما دفع بالمفوض الأوربي لسياسة التوسع والجوار "ستيفان فول" إلى طلب مقابلة الرجل الأول في الحكومة الجزائرية واقتراح برنامج مالي قيمته 200 مليون دولار لتنفيذ مشاريع على الأرض تخص التنمية والتشغيل. ومعلوم أن كلا من المغرب وتونس الذين دخلا مبكرين في اتفاق مماثل مع الاتحاد الأوربي قد استفادا من البرنامج المذكور العام 2009 كما استفادا من برنامجين آخرين يخصان تأهيل المؤسسات هما برنامج "ميدا 1" وبرنامج "ميدا 2" وذلك بمجرد التوقيع على الاتفاقية ، بينما لم تستثمر الجزائر في البرنامج الأول حتى الآن ولم تستفد من البرنامج الثاني إلا في حدود 30 بالمائة. وفي حين استغلت تونس مزايا انسياب التجارة إى الاتحاد الأوربي بنسبة مائة بالمائة وخاصة في مجال الصناعات النسيجية والجلود، لم تستهلك الجزائر نظام الحصص المفتوح أمامها إلا بنسبة 6 إعفاءات من مجموع 41 إعفاء ممكن على عكس الطرف الأوربي الذي استهلك جميع الاعفاءات، ونفس الشيء يقال عن تدفقات رأس المال الأوربي المباشر الذي لم يتجاوز العام 2008 عتبة نصف مليار يورو في حين تقاسمت الدولتان المجاورتان تونس والمغرب حصة معتبرة لامست 3 مليار يورو. ناهيك عن تزايد الواردات الجزائرية من الاتحاد الأوربي في خانة السلع والخدمات خلال فترة الاتفاق حتى اليوم بنسبة 80 بالمائة، بينما تراجعت الصادرات الجزائرية خارج النفط والغاز إلى أوربا بنسبة 50 بالمائة بمجرد منع تصدير النفايات الحديدية. وهكذا، يبدو أن اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوربي كانت فكرة سياسية بحتة ولم يكن من حظ التعاون الاقتصادي الاستراتيجي منها شيء ذو بال. * * نحو اتفاق معدل للشراكة * لا شيء يمنع الجزائر من استهلاك كامل الاعفاءات ذات المزايا الخاصة في تسويق المنتوج الجزائري الى الداخل الأوربي، ولا شيء يحتم على القطاع الخاص الأوربي الاستثمار في الجزائر، ولكن يمكن للسلطات الأوربية التخفيف من القيود الادارية ولاسيما ما تعلق بالمواصفات في إطار اقتسام الأسواق، وكما يحتم الاتفاق على الجزائر التطبيق المرحلي للتفكيك الجمركي على السلع ذات المنشأ الأوربي، فإن لاشيء يحتم عليها الاستمرارفي الاستيراد من أوربا بالنسبة الحالية التي لامست العام 2009 سقف 53 بالمائة من إجمالي واردات البلاد خاصة بعد دخول لاعبين جدد للساحة التجارية العالمية في حجم تركيا وماليزيا وجنوب إفريقيا. ويمكن للجزائر أن تستفيد من الفضاء التركي الذي يتيح مزايا تنافسية أهم بكثير من تلك التي تتيحها دول الاتحاد الأوربي منها خدمات نقل التكنولوجيا والتدريب ومعاينة المصنع على الأرض والشراكة بدون شروط ثم الأسعار المخفضة. * ويمكن للاتحاد الأوربي أن يضبط رؤيته تجاه الجزائر على خلفية الخطة الخمسية الجديدة (2010 2014) وحجمها 286 مليار دولار بتحويل الشراكة على أساس التجارة الى الشراكة على أساس النمو. وفي هذا الاطار يمكن للتعاون الحكومي بين الطرفين أن يغطي إنتاج المعرفة ومرافقة البحث وتحويل التكنولوجيا العالية وكذا التعاون ضمن شبكات المعلومات. والغرض من ذلك المساعدة على تحويل الاقتصاد الوطني من اقتصاد مبني على المحروقات إلى اقتصاد مبني على المعرفة في آفاق العام 2025 وهو التاريخ المفترض لتدشين الأقطاب الصناعية الوطنية الكبرى، خاصة وأن أهم شريك تجاري للجزائر أي فرنسا يتجاوز المحتوى المعرفي في صادراته نسبة 30 بالمائة، وفي القيمة المضافة للاقتصاد نسبة 25 بالمائة بحسب قاعدة معطيات المنظمة الأوربية للتعاون والتنمية، ويملك مزايا تنافسية مهمة في إنتاج المعرفة ونظم المعلومات والتنظيم المؤسساتي للشركات ذات الحجم المتوسط. * ويخضع الاتحاد الأوربي حاليا لقيود جديدة ناجمة عن تراجع اليورو أمام الدولار منها ارتفاع أسعار الطاقة مما سيدفع بالتضخم في القطاع الصناعي الى أعلى، ثم تراجع الطلب الداخلي في عدد من دول الاتحاد على خلفية سياسات التقشف الجديدة مما يهدد بموجة أخرى من البطالة تزيد من العبئ على موازنات الدول بسبب التحويلات الاجتماعية من جهة ومبدأ التضامن بين دول الاتحاد من جهة أخرى، كل ذلك يدفع للبحث عن أسواق جديدة لتعويض الطلب المفقود. ومن هنا يمكن للمفاوض الجزائري في الاجتماع الخامس للشراكة بلوكسمبورغ الثلاثاء المقبل اقتراح تعديل جدي على الاتفاقية يمكن من الاستمرار في المراحل المتبقية على آفاق العام 2017 ولكن على الفكرة الاقتصادية وقدم التوازن هذه المرة.