مع الدخول المدرسي الجديد، تطفو على السطح قضية حذف "البسملة" من الكتب الدراسية الرسمية لتدق إسفينا آخر في العلاقة – غير الصّحّية – بين النظام ممثلا هذه المرة في وزارة التربية من جهة، وبين عموم الجزائريين من جهة أخرى. وكما في كل دخول دراسي، يحتدّ الجدل حول قضايا الإصلاح التربوي وخيارات الوزيرة السيدة نورية بن غبريط، ويصطف الناس ما بين مدافع عنها ومهاجم لها، بمنطق عين الرضا وعين السخط، فلا حسنةَ للوزيرة تنفع مع خصومها، ولا سيئةَ تضر مع مواليها. لا مناص من الاعتراف بأن هناك أمراضا مستحكمة من جانب السلطة ومن جانب الشعب على حد سواء، وبدل العمل على تهدئة جبهة شعبية ملتهبة لم يعد هناك في خزائن الدولة ما يجعلها تكظم غيظها، ولو إلى حين، يبدو جليا للعيان أن مناكفات المسؤولين مع عامة الناس لا تمتد إلى قضايا جوهرية ذات طابع حيوي، ولكنهم اكتفوا بمبادلة من يعتبرونهم خصومهم صراعا سطحيا بصراع، وأيديولوجيا بأيديولوجيا. تحتاج المدرسة الجزائرية إلى إصلاحات جذرية، لعل أبرزها العمل على إنشاء جيل مُحبّ للمعرفة، شغوف بالقراءة والبحث، يتشبع بالقيم الإنسانية دون الوقوع في أسر الرؤى محدودة الأفق، حتى لا يكون وقودا لمعارك سياسية وأيديولوجية خاطئة. لكنّ المنظومة السياسية كلها تحتاج بدورها إلى إصلاح يُعيد الاعتبار للقانون ويكفل للمواطن حقوقه في التعبير والتفكير والاصطفاف، دون المساس بحقوق الآخرين وحرياتهم. علينا أن نؤكد أن الشعب نفسه يحتاج إلى عملية إصلاح مستعجلة في طريقة التفكير والتصرف كي يتشبع بقيم المواطنة والتحضّر، ولا ينسب إخفاقاته على المستويات الاجتماعية والمادية والتربوية (ومن بينها إلقاء القمامة في الطرقات) إلى الحكومة أو السلطة أو النظام. كما تحتاج هذه المنظومة إلى إصلاح جوهري يحدّ من سطوة المال الذي ينحاز لمصالح أصحابه على حساب وطن بأكمله لا يأسى عرّابوه على إحراقه إن أدار لهم ظهره ورفض أن يكون ملكية خاصة لهم. وحتى نكون أكثر إنصافا، علينا أن نؤكد أن الشعب نفسه يحتاج إلى عملية إصلاح مستعجلة في طريقة التفكير والتصرف كي يتشبع بقيم المواطنة والتحضّر، ولا ينسب إخفاقاته على المستويات الاجتماعية والمادية والتربوية (ومن بينها إلقاء القمامة في الطرقات) إلى الحكومة أو السلطة أو النظام. لكن إدارة الظهر لكل الأزمات المحيطة بنا، ولكل إخفاقاتنا، واللعب على أنقاض الهوية والطائفية والاستفزاز سيُحرق الوطن كله، بجميع من فيه. من حق وزارة التربية أن تعتمد برامج الإصلاح التي يقرّها الخبراء، ولكن ليس من حقها أن تجعل المدرسة الجزائرية رهينة تحرّش أيديولوجي أو سياسي، ودفع الناس إلى مواجهة "صفّين" جديدة: أنصار الحضارة والتمدّن في خندق، وأنصار الأصالة والتقاليد في خندق آخر، وهي مواجهة خاطئة زمانا ومكانا. لن أدخل في متاهات الجدل حول أهمية "البسملة" من الناحية البيداغوجية والتربوية، وما جدوى استهلال الكتب المدرسية بها أو حذفها، لأن الأمر لا يتعلق بقضية تربوية، ولكنه يتعلق بقضية أيديولوجية بالأساس. وفي باب الأيديولوجيا، يُصبح الرأي هوًى إذا أشهر في وجه خصومه سيف السلطة والنظام أو سيف الشريعة. الخلاف اليوم لا يضع نفسه في إطار معرفي، وإنما في إطار أيديولوجي هو إلى الاستفزاز أقرب. ولهذا نقول إنه ليس من حق الوزيرة ولا الوزارة أن تستفز أحدا، ولو كان أقلية. أثارت "البسملة" قديما قضايا فقهية وإيمانية مختلفة، فقد اختلفوا فيما إذا كانت آية "مستقلة" بنفسها من القرآن، أم أنها علامة فصل بين سورة وأخرى فقط، وهل هي آية في سورة الفاتحة دون ما عداها، وهل يُجهر بقراءتها في الصلاة الجهرية أم يؤتى بها سرّا. لكنّ الخلاف اليوم لا يضع نفسه في إطار معرفي، وإنما في إطار أيديولوجي هو إلى الاستفزاز أقرب. ولهذا نقول إنه ليس من حق الوزيرة ولا الوزارة أن تستفز أحدا، ولو كان أقلية. الوزارة تُصلح وتُسدّد وتُقارب، لكنها لا تنزل إلى مستوى الاستفزاز الذي يمكنه أن يعطي انطباعا بأن الصراع حول المدرسة صراع بين تيارين أحدهما يولي وجهه قِبَل الشرق فيما يوليه الثاني قِبَل الغرب. وللوزيرة سلطة القرار، والانصياع له يقتضي ثقة متبادلة بين الجميع من أجل مصلحة التعليم ومصلحة أبناء الوطن، ومن الخطأ الجسيم تحويل المدرسة الجزائرية إلى حلبة صراعات غير صحّية تضع التاريخ والجغرافيا في حالة مواجهة. تعتبر سورة "التوبة" السورة الوحيدة في القرآن التي لا تبتدئ بالبسملة، وذكر المفسرون أن ذلك يرجع لكونها سورة نقضت الاتفاق المبرم بين المسلمين والكفّار الذين أخلّوا بعهودهم، ولهذا لم يكن من المناسب فيها -حسبهم- أن تبدأ باستحضار صفة "الرحمة"، بل ابتدأت بالبراءة لأنها سيف مرفوع وليس وثيقة صُلح. وعندما تعمد الوزارة اليوم إلى حذف البسملة من الكتب الدراسية، فما هي الرسالة التي تُريد أن يتلقاها الناس؟ هل يفهمون منها أنها "براءة" من الوزارة، ومن الحكومة، من هذا الشعب أو مما تعتبره فئةٌ كبيرةٌ منه قيما أصيلة مُتجذّرة فيه؟ أم أننا سنضع هذا الإجراء الوزاري في خانة "المشاغبة" البعيدة عن أفق الإصلاح الحقيقي، ونعتبره "بصمة" تكشف عن الفاعل الحقيقي ووجهة البوصلة التي اتخذها معلما لإبحار السفينة.. سفينة الوطن الذي لم يرسُ -رغم كثرة المآسي والدروس المؤلمة التي تعلّمناها في فصولها- على برّ أمان بعدُ.