لا تزال الحلول التي وضعتها حكومة أحمد أويحيى تصنع الجدل داخل البرلمان وخارجه. ف"التمويل غير التقليدي"، خلف جدلا واسعا داخل الأوساط السياسية والاقتصادية، مثلما تحول إلى مادة للنكتة في الشارع، لأن طبع المزيد من النقود اعتبره الكثير هروبا من الحلول الصعبة إلى الحلول السهلة والجاهزة التي ستكون لها آثار سلبية في المستقبل حسب بعض خبراء الاقتصاد، بالنظر للوضعية الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد. ولم يكن هذا هو التوجه الوحيد الذي كان محل انتقاد وتشكيك من قبل أطراف العملية السياسية، فهناك نقاط أخرى لم تفلت من الانتقاد، وهو أمر طبيعي في مشهد سياسي يعج بالكثير من الأطياف السياسية. كما أنه من الطبيعي أن تجد توجهات الحكومة من يدافع عنها. فهل المنتقدون لخيارات الحكومة تعودوا على لعب دور المعارضة من أجل المعارضة وفقط، أم أنهم أصابوا فيما قالوا؟ وهل مواقف المدافعين مبنية على حقائق وقناعات، أم أنها "تمترسا" لاعتبارات سياسية وزبائنية؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها.
حكومة أويحيى في مواجهة الأزمة "الحلول السهلة" لحماية مكتسبات الفئات الهشة مثلما كان متوقعا، لم يحقق مخطط عمل الحكومة واجتهادات أويحيى لشرح برنامجه، التجاوب المأمول لدى الطبقة السياسية ولاسيما تلك الممثلة في الغرفة السفلى للبرلمان، فاستمر الانقسام الحاصل في المشهد، بين موالاة مؤيدة لكل ما يأتي من فوق، ومعارضة حافظت على "تمترسها" خلف مواقفها السابقة الرافضة لكل الحلول الآتية من السلطة، مع بعض التحفظات. وكان رفض بعض الأطراف السياسية للحوار الذي دعا إليه أويحيى قبل نزوله إلى قبة البرلمان، مؤشرا على موقفها من مخارج النجدة التي ضمنتها الحكومة في مخطط عملها، الذي نشرت بعض فصوله في أعقاب اجتماع مجلس الوزراء الذي صادق عليه. وشكلت القضية التي ابتكرتها حكومة أويحيى لمواجهة انهيار مداخيل البلاد المالية، والمتمثلة في التمويل غير التقليدي (طبع أوراق نقدية جديدة)، أولى الحلول التي قوبلت بالرفض، رغم اجتهادات الوزير الأول في تبرير هذا المخرج، خلال عرضه لمخطط عمل حكومته، من خلال التأكيد على أن "التمويل غير التقليدي" غير موجه للاستهلاك، مثلما تخوف البعض، وإنما موجه لتمويل الاستثمارات، فضلا عن أن القيمة المراد اقتراضها من البنك المركزي، لا تتعدى ال20 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يحول دون سقوط البلاد في مستنقع التضخم، ومن ثم تأمين القدرة الشرائية للمواطن. وينطلق الكثير من منتقدي هذا الخيار، من معاينة مفادها أن الواقع الاقتصادي للدول التي لجأت إلى تبني "التمويل غير التقليدي" تختلف عن الواقع الاقتصادي للبلاد، الذي يميزه عجز كبير في الخزينة العمومية، ويقابله شح مزمن في موارد البلاد المالية وتبعيتها المطلقة لموارد النفط، التي تبقى غير مأمونة الجانب بسبب ارتباطها بسوق تحكمها آليات من الصعوبة بمكان التحكم فيها. المفاجأة المثيرة التي تم الوقوف عليها هنا، هو أن مسألة "التمويل غير التقليدي" لم تكن مثار رفض من قبل المعارضة فحسب، بل وصل التشكيك فيها حتى إلى بعض الحساسيات داخل أحزاب الموالاة، وفي مقدمتها حزب جبهة التحرير التي لم تنسق في الدفاع عن هذا الخيار، وهي تختلف مع أويحيى في مدة العمل ب"الآلية الجديدة"، حيث ترفض أن تصل مدة الاقتراض من البنك المركزي إلى خمس سنوات، بسبب تداعياتها على الفئات الهشة من المجتمع. وإن كان المبرر الأول للجوء الحكومة إلى آلية "التمويل غير التقليدي" هو عدم إلقاء المزيد من الأعباء على الجزائريين، في شكل ضرائب جديدة في قانون المالية للسنة المقبلة، كما قال أويحيى، إلا أن ذلك لا يبرر رهن مستقبل البلاد على المدى المتوسط، حسب الرافضين لهذه الآلية. ويلوم الكثير من العارفين بالشأن الاقتصادي أويحيى على لجوئه إلى الحلول السهلة، بطبع نقود جديدة، في الوقت الذي توجد فيه خيارات أخرى أكثر نجاعة، منها تحصيل أموال التهرب الضريبي، وإدخال "الملايير" الهاربة من القانون والموجودة في السوق الموارية في الدورة الاقتصادية الرسمية، وهو الأمر الذي تحقق شق منه، وبقي الشق الآخر والمتمثل في تحصيل أموال المتهربين من الضرائب. وبات واضحا من خلال الصدام الحاصل بين الطرفين أن الهوة أوسع من مجرد خلاف حول توجهات اقتصادية للحكومة، بل الأمر أبعد من ذلك، لأن الطرف الآخر في المعادلة يعتبر الأزمة سياسية قبل أن تكون اقتصادية. ويجسد هذه القراءة، الموقف الذي بلوره الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، بشأن خطاب أويحيى في البرلمان، فهو يعتبر المخطط المعروض فقير من حيث آليات التعاطي مع الطبقة السياسية خارج قبة البرلمان وداخلها، والإشارة هنا إلى ما تعلق بتجسيد مبدأ الحريات السياسية المكرسة بنصوص الدستور المعدل في فيفري 2016، مثل رفع الحظر عن المسيرات بالعاصمة، وتبسيط إجراءات إنشاء الأحزاب والجمعيات، وعدم التدخل فيها، وإعادة الاعتبار للرقابة البرلمانية على أداء الحكومة.
رئيس الكتلة البرلمانية لتحالف حركة مجتمع السلم ناصر حمدادوش: "أخشى من ضرائب قاسية في قانون المالية المقبل" هل وقفتم على فروقات في مخطط عمل حكومة أحمد أويحيى مقارنة بالوزير الأول السابق؟ البرنامجان مختلفان. في البرنامج الجديد، هناك تركيز وتسبيق ولأوّل مرّة في تاريخ مخططات الحكومة على قسم الأمن والاستقرار ووحدة البلاد، والذهاب إلى حلول ومقاربات أمنية، لقبول الإجراءات المالية والنقدية الجديدة، وفيه تراجع واضح عن "فصل السياسة عن المال"، وتراجع على "مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي"، واعتراف بحقيقة الأزمة، ولكن مع التهرّب من الاعتراف بأسبابها الحقيقية، وتركيز على الأزمة الاقتصادية واختزالها في الأزمة المالية، مع أنها أعمق من مجرد هذا التسطيح والاختزال.
قدم المخطط مخارج نجدة من الأزمة التي تعصف بالبلاد، هل تعتبرونها ناجعة وكفيلة بحلحلة الوضع الاقتصادي؟ الحلول المقترحة في مخطط عمل الحكومة حلول ظرفية وتسكينية وجزئية، لا تكفي لمواجهة حقيقة الأزمة متعدّدة الأبعاد، فهو قد اختزلها في إجراءات مالية ونقدية، دون رؤية كلّية سياسية واقتصادية واجتماعية، وحتى الإجراءات المالية والمتمثلة في تعديل قانون النقد والقرض من أجل "التمويل غير التقليدي"، هو تعديل جزئي غير موسّع، ليشمل التمويل التشاركي وكلّ صيغ التمويل، التي تحفّز المجتمع الجزائري على الادّخار والاستثمار، وامتصاص الكتلة النّقدية في السّوق الموازية، مع ما يحيطه من مخاطر مثل السّقوط الحرّ لما تبقى من قيمة الدينار، والارتفاع الفاحش للأسعار، والتصاعد الخطير لنسبة التضخّم، والانهيار المروّع للقدرة الشرائية، والرّكود الاقتصادي، وارتفاع نسبة البطالة، وانتشار الطبقية.
لا يزال الانقسام حاصلا بشأن بعض توجهات الحكومة، ومنها الاستدانة بطبع نقود جديدة.. هل كانت توضيحات أويحيى مقنعة للمتوجسين من هكذا توجه؟ توضيحات أويحيى بشأن التمويل غير التقليدي غير كافية وغير مقنعة، والذّهاب إلى هذا الإجراء الآن وبهذا الشّكل وبهذه المدّة الطويلة 5 سنوات، لن يحقّق الأثر المرجو منه، من تحقيق النّمو ورفع الطلب ولن يُكتب له النجاح، لأنّه لا ينجح إلا في الدول ذات الأنظمة المسؤولة، ويتطلّب احتياطي الذّهب، أو قوّة اقتصادية وإنتاجية فعلية، أو ما يتوفّر لها من احتياطي النقد الأجنبي، مع ما يحيط ذلك من المخاوف والمحاذَير لدى هذه الدول والمؤسسات الدولية.
المخطط تحدث عن ضمانات بعدم المساس بالمكاسب الاجتماعية للجزائريين.. ألا تتخوفون من أن تمتد يد أويحيى إليها، لاسيما وأن ماضي الرجل معروف على هذا الصعيد؟ الواضح أنّ المخطط خيّرنا بين "المديونية الخارجية" أو "التقشّف" أو "التمويل غير التقليدي"، وكأنه لا توجد بدائل أخرى، والواضح أنه تراجعٌ عن مراجعة سياسة الدّعم الاجتماعي التي دعا إليها المخطط السابق للتخوّف من التداعيات الخطيرة والمباشرة على الجبهة الاجتماعية، ولكنّنا نؤكّد بأنّ الذّهاب إلى "التمويل غير التقليدي" تهديدٌ آخر، وقد يكون أخطر، ومع ذلك فإنه ليست لنا الثقة في هذه الحكومة، ستفاجئ الجميع بقانون مالية أشدّ قسوة في زيادات في الرّسوم والضّرائب والأسعار.
بعض السياسيين يلومون مخطط عمل حكومة أويحيى على "غرقه" في البعد الاقتصادي، ونسي الشق السياسي الذي يعتبر مهما، من جانب حلحلة الاحتقان السياسي الحاصل، هل تشاطرون هذه القراءة؟ لقد اختزل مخطط عمل الحكومة الأزمة في الجانب الاقتصادي، ثم اختزلها في الأزمة المالية، ثم اختزلها أكثر في الأزمة النقدية، وهي مغالطةٌ كبرى، لأن الأزمةَ متعدّدةُ الأبعاد، وهي أزمةٌ سياسيةٌ قبل أن تكون اقتصاديةً أو اجتماعية أو مالية أو نقدية، وليست مجرّدَ أزمة حكومة أو وزير أوّل لتغييره. والأزمةُ المالية والاقتصادية ليست أزمةَ أسعارٍ للبترول لأسباب خارجية كما يدّعون، بل هي أزمةُ تراجعِ الإنتاج الجزائري للمحروقات، وارتفاعِ الاستهلاك المحلي للطاقة، وانتقالِ العالَم إلى الطاقات البديلة، وإلى منافسة دولية على البترول، وهو ما يتطلّب مباشَرة حوارٍ وطني شامل، بإرادة سياسية صادقة.
النائب عن حزب جبهة التحرير الوطني عبد الباقي ملياني طواهرية التزامات الرئيس ستحمي الفئات الهشة من توجهات أويحيى هل من فروقات في مخطط عمل حكومة أحمد أويحيى مقارنة بمخطط الوزير الأول السابق؟ الجديد في مخطط عمل الحكومة الجديدة لأحمد أويحي، هو إتيانها بخطة التمويل الداخلي أو ما عرف بالتمويل غير التقليدي، أيْ أخذ قروض من طرف البنك الجزائري، عبر طبع أوراق نقدية جديدة. فكما هو معلوم الدولة تٌعاني من عجز في الميزانية، ولهذا السّبب بحثت الحكومات المتعاقبة مؤخرا، عن حلول أو مصادر تمويل جديدة لإنجاح برامجها، فمثلا حكومة سلال جاءت بصيغة الامتثال الضريبي المُوجّهة أساسا لجمع الأموال الموزعة في السّوق الموازية، والآلية اعتمدت على ترغيب المواطنين لوضع أموالهم بالبنوك، مع استفادتهم من ضمانات وامتيازات، لكن الصِّيغة لم تلق تجاوبا من الجزائريين لعِدّة أسباب، ثم طرحت الحكومة صيغة القٌرُوض الّسنديّة، وأرفقتْ العملية بترويج وإشهار كبيرين، ومع ذلك لم تلق الصيغة استحسانا بسبب الفوائد وأمور أخرى، ليَطرح أويحيى خيار التمويل الداخلي من أجل إتمام المشاريع.
قدّم المخطط مخارج نجدة من الأزمة التي تعصف بالبلاد، هل تعتبرونها ناجعة وكفيلة بحلحلة الوضع الاقتصادي المتردي؟ هذا المخطّط أو ما يعتبر أيضا "مخرجا" يعتمد أساسا على التمويل الداخلي، أي أخذ الأموال مباشرة من البنك المركزي، لكن ومن وجهة نظري، من الأفضل لو أعطيت لهذه الصيغة مهلة زمنية بين سنة أو سنتين على أقصى تقدير، لكن الحكومة تقول بأنها ستعتمدها لمدة خمس سنوات، وهذه الفترة الزمنية أعتبرها مدّة زمنيّة طويلة، لأن هذا النوع من الآليات يجب أن يكون مرتبطا بفترة قصيرة المدى لا تتجاوز العامين على أقصى تقدير، وذلك لتفادي بعض الآثار الجانبية. ومع ذلك نتمنى أن تنتعش أسعار النفط قريبا، أو نجد بدائل اقتصادية مناسبة للخروج من هذه الضائقة المالية.
لا يزال الانقسام حاصلا بشأن بعض توجهات الحكومة، ومنها الاستدانة بطبع نقود جديدة.. هل كانت توضيحات أويحيى مقنعة للمتوجسين من هكذا توجه؟ الآثار الجانبية في حال تواصلت عملية التمويل الداخلي لأكثر من 5 سنوات، هو إمكانية حدوث حالة تضخم، وهو ما يؤثر على القدرة الشرائية للمواطن وعلى القدرة الإنتاجية للمتعاملين الاقتصاديين، وتؤثر على الاقتصاد ككل. وكما هو معلوم عملية طبع نقود جديدة لابد وأن ترافقها تنمية اقتصادية وإعادة بعث للاستثمار وطاقة إنتاجية تَقِينا حدوث مخاطر.
المخطط تحدث عن ضمانات بعدم المساس بالمكاسب الاجتماعية للجزائريين.. ألا تتخوفون من أن تمتد يد أويحيى إليها، لاسيما وأن ماضي الرجل معروف على هذا الصعيد؟ لا تخوف في هذا الجانب، لأن رئيس الجمهورية قطع وعدا على نفسه بالحفاظ على المكاسب الاجتماعية وتعزيزها، ولدينا كل الثقة في رئيس الجمهورية للوفاء بوعده، بل هو حريص كل الحرص على دعم المكاسب الاجتماعية والحفاظ عليها في قانون المالية 2018، ويكون هذا التجسيد من خلال برنامج الحكومة الجديدة، والذي سيواصل العمل لإنجاز البرامج السكنية، وتشييد المؤسسات التربوية والمستشفيات وضمان مجانية العلاج والتعليم، وتقديم المساعدات الاجتماعية للعائلات المعوزة، ودعم المواد الغذائية الأكثر استهلاكا مثل الزيت والسكر.
يلوم بعض السياسيين مخطط عمل حكومة أويحيى على أنه غرق في البعد الاقتصادي، ونسي الشق السّياسي الذي يعتبر مٌهما، من جانب حلحلة الاحتقان السياسي الحاصل، هل تشاطرون هذه القراءة؟ الجانب السّياسي متكفَّل به في القوانين الوضعيّة والدّستور الجزائري، وكما هو معلوم، الجزائر من بين الدول التي تمارس فيها الديمقراطيّة، من حرية التعبير واحترام الرأي والرأي الآخر. فهناك أحزاب سياسية معارضة تتكلم بكل حرية، وتشارك في الانتخابات والحياة السياسية، إذن فالجانب السياسي متكفل به في الدستور.