المدرسة السننية، هي المدرسة الإسلامية التي انتهجت البحث في قضايا الإنسان: فردا ومجتمعا، انطلاقا من سنن الله في الوجود؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان والكون والحياة، وجعل للتفاعل بين هذه الأطراف الثلاثة التي سماها مالك بن نبي رحمه الله "الإنسان والتراب والوقت"، قوانين ناظمة وثابتة ومطردة لا تتبدل ولا تتغير، وسماها في كتابه العزيز "سننا" (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) [الفتح 23]، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) [فاطر 43]. والفضل الأول في التنبيه إلى هذه المنظومة السننية التي تحولت مع مر الزمن إلى مدرسة في الفكر الإسلامي والإنساني، يعود للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، الذي قرر في مقدمته أن هذه السنن هي "القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الإجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له. وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصور من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه...، وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الضد والصواب فيما ينقلونه. وهذا علم مستقل بنفسه. فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة أخرى" [من المقدمة]. أما الفضل الثاني فيعود لمالك بن نبي الذي أعاد بعث هذا الاكتشاف بعد ما يقارب الستة قرون من الركود ليتحول بعده إلى مدرسة تؤسس وتقعد لهذا التوجه في معرفة عالم الإنسان وحركته وعلاقاته ببعضه البعض، فردا وجماعة. وبحكم أن هذا التوجه جهد عقلي ينظر في واقع الإنسان وتفاعله مع محيطه، فيحلله ويركبه وفق ما خلقه الله عليه من قوانين ثابتة، انتقلت هذه البذور المؤسسة لعالم الإنسان من ابن خلدون إلى الغرب الوارث للحضارة الإسلامية بعد سقوطها، فنشأت وتطورت الكثير من العلوم الإنسانية: علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإقتصاد وعلم السياسة...إلخ، يد الغربيين واستفاد منها مالك بن نبي، فأخذ عن شبنغلر وتوينبي وماركس وفرويد ودوركايم وغيرهم وغيرهم..، ولكن البذرة الأساس بقيت دائما عند ابن خلدون ومنها استمد مالك بن نبي جوهرها، لما بين المدرستين الغربية والإسلامية من فوارق جوهرية في النظر إلى الإنسان، فالمدرسة الإسلامية تنظر إلى الإنسان على أنه مستخلف في الأرض، فهو جزء من التركيبة الكونية وهو مسؤول عنها، أما المدرسة الغربية فتنظر إليه على أنه هو السيد الذي يمكنه أن يستغني عن الله، وذلك بتضخيم المادة في الحياة وتضخيم قدرات الإنسان حتى كادت تؤلهه بسبب تطوير آليات تحكمه في الكثير من أسباب الحياة. وأهمية هذه المدرسة وفكر مؤسسها، هي أنها تبحث في حقيقة مشكلة الإنسان منطلقة في ذلك من المسلمات التي هي محل إجماع بين بني البشر، ولا يختلفون فيها مهما تعددت أعراقهم ومشاربهم ونوازعهم ومعتقداتهم، وهي ليست خاصة بجيل دون جيل، أو بحضارة دون أخرى، أو بدين دون آخر، فهي ثابتة ثبوت الجبال وتحولها عندما تتغير مبررات ثباتها، ولكنها موصولة بالهيمنة الإلهية عليها، وذلك ما يميزها عن المدرية الغربية. ولذلك عندما كان الناس في الثلث الأول من القرن العشرين، يشتكون من الوجود الاستعماري وآثاره السلبية ويعلقون عليه كل مشكلاتهم وهزائمهم وفقرهم وتخلفهم وتخاذلهم، كان مالك بن نبي رحمه الله يعيد الناس إلى المشكلة الأهم والممهدة له، وهي مشكلة القابلية للإستعمار؛ لأن الشعب الذي لا يحمل في نفسه بذور الهزيمة والذل والخنوع، لا يمكن أن يستعمره شعب آخر مهما أوتي من قوة، هذا من جانب، ومن جانب آخر وهو الأدق في تقديري، وينبئ بقدرة عالية على فهم مشكلة الإنسان، عندما أعاد بن نبي قضية النهضة إلى أصولها وعناصرها المكونة لها، وهي تمثل رأس المال الأولي تمكينا للإنسان وهداية له، ليقوم برسالته في هذا الوجود، وهذه الأصول هي: [الإنسان، التراب، الوقت]، وهي ثلاثية كل منطلق في الحراك الإنساني، يضاف إليها الدين كمولد للطاقة لتحقيق عملية التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة، وهذا متوفر لدى كل الشعوب، فلماذا يصنع الياباني والأوروبي والأمريكي بهذه الثلاثية نهضة، بينما لا يفعل بها العربي والإفريقي والآسيوي شيئا؟ بل إنه يصنع بها هزائمه.. هناك سنن تحكم هذه المعادلة وطرق التفاعل بين أطرافها، قوانين ناظمة، في ظل إرادة الله المطلقة. والأصل في هذه المعادلة بطبيعة الحال هو الإنسان.. فهو في مشروع النهضة متعلم ومثقف وفعال وفي واقع التخلف جاهل سائب خامل!! ففي الأولى كاشف لسنن الله ومستثمر لها، فتطيعه وتستسلم لقراره وإرادته الوظيفية، وفي الثانية جاهل بها أو متجاهل لها ولتأثيرها على الواقع، فتتجاهله وتتمرد عليه وتعصيه كما عصى الله فيها. لا شك أن بن نبي لم يعرض علينا فيما طرح من أفكار مدرسة بتفاصيلها، وإنما وضع معالم لمدرسة كان ينبغي لكل من يفكر في واقع المجتمع الإنساني والإسلامي: الفرد والمجتمع، أن ينتهجها ليصل إلى فهم المشكلة، ومن ثم يتوصل إلى علاجها، وسمى ذلك مشكلة الحضارة، فمشكلة الإنسان في جوهرها هي مشكلة حضارته كما يقول بن نبي؛ لأن مشكلة الحضارة هي مشكلة المشترك الإنساني، ومشكلة المشترك الإنساني تكمن في عدم القدرة على استثمار هذا المشترك، قبل أن نتكلم عن دين الإنسان وخلقه وثقافته، فالإنسان قد يكون متدينا ويملك من الفضائل الكثير، ولكنه عندما لا يشعر بضرورة التعلم وسلبية الفقر ويفضل القعود عن العمل والركود عن النشاط، لا يمكن أن يكون إلا متخلفا، ولذلك نرى أن الحضارة تهتم بالإنسان في جميع مجالاته، وتهتم بالوقت فتستثمره بأفضل السبل، وتهتم بكل ما تنتج الأرض وما يكتشف منها وما بقي في بطنها، بينما المجتمعات المتخلفة فإنها تهمل الإنسان ولا ترى معنى لتربيته وتعليمه وتدريبه، ولا تهتم بالوقت بالكيفية التي تحوله إلى طاقات ومنتوجات مادية ومعنوية، وتبَذِّر المادة الأولية التي هي التراب في معادلة بن نبي ولا تلقي لأهميتها بالا. فمالك بن نبي إذن أسس للمدرسة ولم يضع لها تفاصيلها، مثلما وضع ابن خلدون يده قبل ستة قرون على رأس المنهج، وهو أن هناك قوانين تحكم الإنسان، تقدما وتأخرا، صعودا ونزولا، عنى وفقرا، وعلما وجهلا، ولهذه القوانين في حركة المجتمع فردا وجماعة، ثوابت ومتغيرات، وكليات وجزئيات. فالثوابت هي ما ينبغي الحفاظ عليه وعلى استمرار واعتباره الأصل الحاكم على المتغيرات، "القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الأجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به" [المقدمة]. أما المتغيرات فلها مبررات البقاء والإزالة متساوية، فتتغير بتغير الزمان والمكان والحال والأشخاص...إلخ؛ لأن وجودها من عدمه ظرفي وليس دائما، على خلاف الثوابت التي هي علاقات ثابتة بين المقدمات والنتائج لا تتغير ولا تتبدل. لقد اشترك بن نبي مع ابن خلدون في إبراز أهمية الكشف عن هذه القوانين التي هي سنن الله في الوجود على ما بينهما من فرق زمني واسع –ستة قرون-. وهذا الاشتراك ليس في وحدة الموضوع فحسب، وإنما هو اشتراك في وحدة الموضوع وفي اتحاد المنهج وفي كيفية التناول التي لا تفصل بين علاقات عناصر المادة، وبين المادة والروح، وفي المرجعية الثقافية والدينية، ولذلك عندما يقرأ الإنسان لمالك بن نبي رحمه الله يلاحظ انه أقرب إلى ابن خلدون من أي عالم من علماء العصر ومنهم أرنولد توينبي الذي هو أقرب زمانيا وفكريا لبن نبي. يتبع