بقلم: شيخ فاطمة الزهراء إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي وبصفة أدق العربي نجده حافلا بالجهود الإصلاحية ومحاولات التجديد، ولعل أبرزها تلك التي قام بها السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، محمد السنوسي، والشيخ عبد الحميد بن باديس وغيرهم كثير، ويجدر بنا الإشارة إلى أن واقع العالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر أين امتدت إليه فتوحات الأتراك التي لم يكن حكم أكثرهم صالحا ولم يسوسوا الأمم بسياسة العدل، وأهملوا صرح العلم ومتابعة السير بالحضارة، فزاد العالم العربي تدهورا على توالي الأزمات وبلوغه درجة كبيرة من الانحطاط، والظلم والفقر، حيث كان يعيش تحت ظلم واستبداد الأتراك. وقد وصف سائح فرنسي هذه الفترة من خلال إقامته بالشام قرابة أربع سنوات بقوله (إن الجهل في هذه البلاد عام وشامل مثلها في ذلك سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم، وفن، والصناعات فيها من أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا). وقد وصف لوتروب ستودارت حالة البلدان العربية في القرن الثامن عشر في كتابه (حاضر العالم الإسلامي) بقوله (كان العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ ومن التدني والانحطاط أعظم دركة... وطبقت الظلمة على كل صقع من أصقاعه، وانتشر فيه فساد الأخلاق، وتلاشى ما كان باقيا من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس وساد الجهل... وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، أما الدين فقد غشته غاشية سوداء وكثر عدد الأدعياء الجهلاء الذين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل ويرغبونهم في الحج إلى الأولياء، ويزينون للناس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت من الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر ويتعاطى الأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل.... أما الغزالي فقد وصف التدهور المريع الذي شهده الوطن العربي دينيا وثقافيا بقوله (إنها أمة إسلامية واهنة القوى، ساقطة المستوى، مبعثرة في ربوع الشرق كأنها أطلال دارسة لحضارة طال عليها الأمد وانقطع بها الزمن، وأدبرت عنها الحياة، فهي في شيخوختها العاثرة، تذكر ماضيها فترجوه، ويلحقها حاضرها فتبكوه، إنها بين اليأس والأمل، وبين الحياة والموت وبين رغبتها في العيش الكريم وتعثرها في الأخذ بأسبابه، تواجه الدنيا بأمانيها ويواجهها القدر بدروسه، وتنزل إلى الحياة برغائها المجردة)، فكان بذلك العالم العربي لقمة سائغة استساغتها الدول الغربية بعد أن استيقظت من الحروب الصليبية وأنشأت لنفسها حضارة مؤسسة على العلم، الحرية، وتقدم في الصناعة، ورقي في النظم الحربية على أساليب جديدة، فتساقطت الأمم العربية في يده، واستغلها لمصلحته، وقد وصف الغزالي نوم العالم العربي الإسلامي ولا مبالاته بالاحتلال الذي استغله، رافضا السبات الذي كان يعم العالم العربي الإسلامي بقوله (الأمة التي تقبل الخنوع وتعطي الدنية من نفسها لن تحرم من مكان تعيش فيه، فأن سادة العالم لن يرفضوا الاستكثار من الخدم والاتباع، ولا ضير على الواحد منهم أن سخر مستعمرة واسعة الرقعة ليعيش ما فيها من إنسان، وما فيها من حيوان سواسية في العمل له والفناء فيه، بيد أن الشعوب الخادمة لغيرها ليست إلا شعوبا ماتت فيها المواهب الإنسانية العليا وارتكست فيها الملكات الذكية اليقظة فهي تصف بالحياة كما يصف السادة بالحياة كلاب الصيد التي تلهث بين أيديهم أو أبقار الحرث التي تعمل في حقولهم، أما هم من الناحية الإنسانية المحضة فأموات)، فكان من جراء هذا الاستعمار والضغط الذي مورس في العالم العربي الإسلامي والانحطاط الذي صعقها ظهور الفكر الإصلاحي، فحاولت الحركات الإصلاحية وصف الدواء للسقم الذي كان يميت وينتشر في كامل جسد العالم الإسلامي العربي، وقد أوضح مالك بن نبي بأن العالم العربي الإسلامي مريض، استسلم للمرض وفقد شعوره بالألم وكأن المرض أو السقم أصبح يمثل جزءا من كيانه. ولقد عرف العالم العربي الإسلامي في مطلع القرن العشرين صحوته واندماجه الجزئي في النهضة بعد سباته الطويل، إلا أن هذه الصحوة التي كانت خافتة والتي أسماها مالك بن نبي بالنهضة الإسلامية لم يكن فيها تحليل منهجي لمرض العالم العربي الإسلامي بقوله (من الممكن أن نتفحص الآن سجلات هذه الحقبة ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالات الصحف، والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الاستعمار، الجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون. لقد أكد مالك بن نبي أن المجتمع لا زال يعاني من مرضه على الرغم من قيام النهضة والإصلاح لأن جميع المصلحين لم يتفقوا على رأي واحد، وكان إصلاحهم على حسب فكرهم ووجهات نظرهم بقوله (إن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعا لرأيه أو مزاجه، أو مهنته، فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما رأى رجل الدين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ... الخ، على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراض فعلى الرغم من كل المحاولات الإصلاحية على اختلاف توجهاتها، والهادفة إلى إنهاض العالم الإسلامي العربي والتي أسماها مالك بن نبي (ببادرة الحضارة) إلا أنه لا توجد علامات الشفاء أو البرء من المرض أو إعادة انبثاق للحضارة فكيف ذلك؟ يقول مالك بن نبي إن الحضارة تلد منتجاتها والعكس هو الذي أصاب المجتمعات الإسلامية العربية، فقيام حضارة ليس قائما على اقتناء ما هو محسوس من الحضارات الأخرى، فكان هذا أقرب إلي قيام حضارة شيئية، فإنتاج الحضارة لا يكون من التكديس القائم على جلب المنتجات المختلفة من الحضارات الأخرى، ومن الواضح أن العالم الإسلامي العربي يعمل منذ أمد بعيد على جمع أكوام من منتجات الحضارة أكثر من أن يهدف إلى بناء الحضارة، فالحضارة حسب مالك بن نبي هي نتاج ثلاثة متغيرات أساسية هي الإنسان والتراب الذي يقصد به المادة والوقت، ولكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بتكديس المنتجات الذي قد يؤذي على طول الزمن وبدون قصد إلى ما يسمى بحالة الحضارة التي تختلف في مفهومها عن بناء الحضارة وإنما يجب التركيز على المركبات الحضارية سالفة الذكر والمتمثلة في الإنسان، المادة، والوقت، ولكن على الرغم من وجود هذه العناصر الثلاثة لا يوجد ناتج حضاري تلقائي لأن ذلك يعود إلى غياب ما يسميه مالك بن نبي مركب حضاري بمزج العناصر الثلاثة ببعضها البعض وهو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة و يعتبرها أساسا لإنهاض الحضارة ورقيها فكيف ذلك؟ يرى مالك بن نبي أن الحضارة تعرف ثلاث مراحل هي: النهضة، الأوج، فالأفول، فمن المعلوم مسبقا أن أي حضارة تقع بين نقطتين هما الميلاد والاضمحلال، وما يتوسط هذين الطورين مرحلة الأوج وانتشار الحضارة وتوسعها، وبما أنه نتحدث عن العالم الإسلامي والحضارة الإسلامية فأنه لا بد من الاستناد إلى الفكرة الدينية والإنسان، إذ أن هناك علاقة عضوية بين فكرة وهي الإسلام والفرد الذي يمثل بالنسبة إليها السند المحسوس فالفرد عند نقطة الصفر من طور ميلاد الحضارة يكون في حالة يسميها المؤرخون المسلمون بالفطرة أين تكون الغرائز مسيرة له فيكون بذلك إنسان طبيعي ولكن بعد انبثاق الفكرة الدينية تتولى إخضاع هذه الغرائز، حيث يسميها مالك بن نبي بالعملية التكيفية والتي لا تقضي على الغرائز نهائيا، ولكنها تتولى تنظيمها وضبطها بقواعد نظام معين، وفي هذه الحالة يتحرر الفرد من قانون الطبيعة فيخضع وجوده إلى مقتضيات روحية التي طبعتها الفكرة الدينية ويمارس حياته وفق قانون الروح، وبذلك يكون الطور الأول من أطوار الحضارة هو الطور الذي تروض فيه الغرائز وتقيد بنظام وتكبح جماح الغرائز، ويواصل المجتمع الذي أبرزته الفكرة الدينية تطوره وتخلق شبكات من الروابط الداخلية فتنشأ المشاكل المحسوسة لهذا المجتمع نتيجة توسعه حيث تتولد ضرورات أخرى وحتى تلبى هذه الأخيرة يسلك المجتمع منعطفا جديدا بالاحتكام إلى العقل الذي لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فقبل ظهور الفكرة الدينية تميز الإنسان بميزة العقل الذي لم يملك القدرة على التحكم في الطبيعة أو الفطرة على حد تعبير مالك بن نبي وبالتالي ظهور أعراض تلاشي الفكرة الدينية وهكذا تشرع الغرائز في التحرر وتنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح، ويستمر هذا التطور في نفسية الفرد مما يدفع إلى ضعف الانفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، وعندما يبلغ تحرر الطبيعة أو الغريزة أقصاه يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة فيسميه مالك بن نبي بطور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماما فتنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية، والتي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها داخل مجتمع منحل يكون قد دخل تماما في ليل التاريخ وبذلك تتم دورة الحضارة فيصبح مجتمعا منجرفا في الفوضى ومتمرغا في الجهل وعلى هذا المنوال تنتهي دورة الحضارة، حيث تبدأ عند انبثاق فكرة دينية وتنتهي حينما تفقد الروح الهيمنة التي مارستها على الغرائز أو الطبيعة حسب تعبير مالك بن نبي، فيكون الإنسان عند بداية الدورة الحضارية في حالة في حالة سابقة للحضارة أين يكون نابضا بالطاقة مستعدا لدخول الحضارة ولديه قدرة على تأدية العمل النافع. أما في نهاية الحضارة أو في مرحلة أفولها فإن الإنسان يصبح مسلوب الحضارة غير قادر على إنجاز عمل محضر إلا إذا تغير هو نفسه، وبذلك يصبح التغيير عملية حاسمة في إعادة قيام الحضارة، وفي ذات الوقت يتضح لنا كيف يمكن للفكرة الدينية أن تكيف، وتعدل سلوك الإنسان حتى تجعله قابلا لإنجاز رسالة حضرية، كما أن لها أهمية جد أساسية متعلقة باستمرار الحضارة والنشاط الاجتماعي لا يكون فعالا ومثمرا وقابلا للبقاء إلا مع وجود سبب معين، والفكرة الدينية بعد أن تكبح الفطرة لدى الإنسان وبذلك يرسم المجتمع لنفسه هدفا يتوارث من جيل إلى جيل، فتغيب المزاحمة لتحقيق المصالح الخاصة، وتخلق تعاونا وتعاضدا أو ما يسمى بالارتباط التعاوني وبذلك تضمن استمرار الحضارة وتواصلها. فالحضارة حسب مالك بن نبي تولد مرتين، أما المرة الأولى فهي ميلاد الفكرة الدينية أما الثانية فهي تسجيل لهذه الفكرة الدينية في النفوس بمعنى دخولها في أحداث التاريخ، ولأن المدينة الإسلامية قد جمعت المولودين في وقت واحد فان ذلك يعود إلى الفراغ الذي عرفته الفكرة الدينية في النفس العربية التي لم تنشأ فيها ثقافة أو ديانة سابقة، فكان لها دور إن لم نقل الوسيلة إلى الحضارة، حيث يقول هرمان دي كيسرلنج في كتابه البحث التحليلي لأوربا بقوله (وكان أعظم ارتكاز حضارة أوربا على روحها الدينية) ثم يفسر الروح كعامل اجتماعي فيقول ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على المنطق أو العقل ،أو مبادئ مجردة، إنما هو ذلك الشعور القوي في الإنسان والذي تصدر عته مخترعاته وتصوراته، وتبليغه لرسالته وقدرته الخفية على إنتاج الاستياء، ويتعلق الأمر هنا بشروط خلقية، روحية لازمة للإنسان لكي يستطيع أن ينشئ ويبلغ الحضارة وهي نفس الشروط التي أسار إليها القرآن الكريم من تغيير للنفس الذي جعله أساس كل تغيير اجتماعي بقوله تعالى (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فالمؤثر الديني يغير النفس بمنحها مبدأ الشعور. * أستاذة بجامعة ابن خلدون تيارت/ ماجستير علوم الإعلام والاتصال