ذكرت جريدة "السنة" لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين (عدد 5 في 8 ماي 1933. ص 8) نقلا عن كتاب "طبقات الشافعية" للإمام السبكي أن خالد بن أحمد الطهلي والي بخارى أرسل مبعوثا إلى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري – رضي الله عنه – طالبا منه أن يأتيه بكتابيه "الجامع" و"التاريخ" ويقرأهما عليه في مجلسه.. فرد الإمام البخاري مبعوث الأمير وقال له: أنا لا أذِلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كان للأمير حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجب الأميرَ قولي فإنه يستطيع أن يمنعني من إلقاء دروسي، وعندها سيكون لي عذرٌ عند الله – عز وجل – بأنني لم أكتم العلم الذي أمرت – شرعا – بتبليغه، ولن أكون ممن يُلجَمون بلجام من النار يوم القيامة لكتمانهم العلم. كرر الأمير طلبه إلى الإمام البخاري ليعلِّم أولاده في قصره، فرفض الإمام ذلك، فاقترح عليه أن يعلِّمهم في مجلس لا يحضره غيرهم، فأجاب الإمام البخاري: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون غيرهم.. فتبيَّن للأمير أن الإمام البخاري "غير قابل للاستخدام"، ويئس من ترويضه، فحرَّض عليه "علماء" آخرين عندهم "قابلية الاستخذاء"، فتسلقوا الإمام بألسنتهم، وقالوا في علم الإمام البخاري ما تهوى أنفسهم، وما يهوى الأمير، فأمر بإخراج الإمام من بخارى ظلما وعدوانا.. هذان مثلان لحاكم وعالم، فأما الحاكم فاستعلى على الناس وتميز عنهم، وما هو – ومن فوقه ومن دونه من الحكام – إلا خدامٌ للأمة كما تقضي شرعة الإسلام، لولا أن أناسا قديما وحديثا صيّروهم أصناما، بل الأصنام من بعضهم أطهر كما قال الشاعر عمر أبو ريشة: أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل ظهر الصنم. وأما العالم فقد عرف قيمة العلم وشرفه فصانهما، فرفعه الله – عز وجل – مكانا عليا، وأخلد اسمه. إن كثيرا من العلماء، خاصة في هذا العصر الأسوإ، لا يشرِّفون أنفسهم ولا العلم الذي آتاهم الله – عز وجل – فانسلخوا منه، وأخلدوا إلى الأرض، وغلبت عليهم شهواتُهم، ورضوا أن يكونوا "كلابا" للسلاطين والحكام الظالمين الفاسدين، وبرروا لهم جرائمهم، وزيَّنوا لهم أعمالهم فسوف يلقون غيا.. ثبَّتنا "الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، وعارا وشنارا على كل من رفعه الله بالعلم فأبى إلا أن يكون تمرغا في أوحال الكذب والنفاق والتملق لينال عرضا زائلا من الدنيا.