في هذه الحلقة من الحوار المطول الذي أجرته "الشروق" مع قائد الولاية الرابعة التاريخية، يتحدث العقيد يوسف الخطيب المدعو "سي حسان" عن ظروف التحاقه بالثورة التحريرية كطالب كان يدرس الطب بالجامعة المركزية، وعن الخلية التي كان ينشط فيها، وكذا محاولات الجيش الفرنسي اختراق الثورة لتثبيط عزيمة المجاهدين، ويكشف عن الرقم المهول من الرجال الذين تمت زراعتهم في أوساط الولاية، كما يتحدث عن حادثة "سي صالح زعموم" الذي انتقل إلى باريس وفاوض الجنرال ديغول من أجل تقرير المصير، دون علم قيادة الثورة. كما يتحدث رئيس لجنة الحوار الوطني في التسعينيات عن كيفية اتصال سي صالح بالسلطات الفرنسية، وعن وضع الولاية الرابعة بعد هذه القضية، ومواجهتها لمخطط شال، بالإضافة إلى أحداث أخرى عايشها الرجل تذكر لأول مرة. لما انطلقت الثورة كنت طالبا .. دور الطلبة في الثورة التحريرية شكرا. بسم الله الرحمن الرحيم. في البداية يجب أن نعرف من هو الطالب؟ هل هو الذي درس في الجامعة فقط؟ أو الطالب بصفة عامة، أي الذي كان يدرس في الثانويات أو في بعض الزوايا. إذا اعتبرنا أن الطلبة هم أولئك الذين كانوا يدرسون في الجامعة. أنا كنت يومها طالبا بالجامعة. جاء الأمر بالإضراب، وقبل الدعوة للإضراب، أنا كنت موجودا في خلية تابعة لجبهة التحرير الوطني، عن طريق الدكتور النقاش الذي ينحدر من وهران، كان يعرفه صديق لي، وهو الذي عرفنا. إذن كوّنا في خلية كانت تضم كل من الدكتورة نفيسة حمود، زوجة لاليام، وطبيب الأسنان بن ونيش، وثلاثة طلبة بينهم أنا، والآخر سيد أحمد بوضربة كان يدرس سنة ثالثة طب، والثالث نسيته. كنا نحضر أنفسنا للانضمام إلى الثورة.
كنت تنشط هنا في العاصمة؟ طبعا كنا هنا في العاصمة في الجامعة المركزية. كان عدد الطلبة قليلا جدا في الجزائر بالنظر لعدد سكانها، كان نحو 500 طالب جامعي على مستوى الجزائر برمتها، علما أن أغلبية هذا العدد كان يدرس في فرنسا. إذن تكوّن الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين في جويلية 1955، بعد النداء الذي وجهه الشهيد عبان رمضان في الأول من أفريل 1955، للجزائريين، لعموم الجزائريين من مثقفين وغير مثقفين. وفي فيفري 1956 جاء إلى الوجود الاتحاد العام للعمال الجزائريين، وفي سبتمبر 1956 تم إنشاء الاتحاد الوطني للتجار الجزائريين. وبخصوص الطلبة، كان هناك الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، كان يدافع عن الاستقلال وعن مبادئ الثورة وعن الطلبة الجزائريين بالطبع. ولما جاء الأمر بالإضراب جاء من جبهة التحرير.
من هم أبرز الطلبة في ذلك الوقت؟ دعني أكمل وسأجاوبك. اتحاد الطلبة يقول نحن نحن.. الأمر جاء من جبهة التحرير.. نحن كنا جزءا من النظام، وما دام هناك اتحاد الطلبة، فهذه الهيئة هي التي يفترض أن تطبق الإضراب على الامتحانات والدروس. وبالطبع كان في الموعد، عقد اجتماع بنادي الترقي بالقرب من جامع كتشاوة، وكان فيه نقاش كبير، وخلص الجميع إلى خيار الإضراب. والإضراب كان على مرحلتين، أولا القيام بإضراب عام، ثم الالتحاق بعدها بجبهة التحرير. فيما يخص المرحلة الأولى، الإضراب كان عاما في الجزائر وفي فرنسا، ولكن المرحلة الثانية والمتمثلة في الالتحاق بجبهة التحرير كانت مختلفة. هناك عدد قليل فقط من الطلبة الذين كانوا في الجامعة من التحق بجبهة التحرير. كان عددا قليلا فقط من التحق بجيش التحرير، وغالبية ممن كانوا يدرسون الطب، هذه هي الحقيقة.
هل يعني هذا أن طلبة التخصّصات الأخرى لم يلتحقوا بجيش التحرير؟ كان هناك طلبة بالطبع من تخصصات أخرى، لكن طلبة الطب كانوا أكثر من غيرهم.
وماذا عن بعض الطلبة ذائعي الصيت، مثل طالب عبد الرحمن؟ طالب عبد الرحمن كان يدرس الكيمياء وأنا لم أكن أعرفه، لأنني كنت أدرس الطب، وحتى في الولايات الأخرى، الثانية أو الثالثة أو غيرها، طلبة الطب التحقوا بجيش التحرير أكثر من غيرهم ممن هم في تخصصات أخرى. لأن تخصصهم كان مطلوبا بقوة في الثورة، بحكم وجود البلاد في حرب مع العدو. كنت موجودا ومستعدا للالتحاق بجيش التحرير.
كيف التحقت بالثورة؟ مثلما أسلفت، كنت في خلية من خلايا جبهة التحرير، وكنت أنتظر الأمر بالالتحاق بجيش التحرير، كنت على أتم الاستعداد مجهزا بعتاد الطبيب، بعد العتاد والأدوية. وفي الخلية التي كنت أنتمي إليها تدربنا على العمليات الطبية الصغيرة وعلاج الجرحى.. الإضراب كان في 19 ماي 1956، كنت في البداية موجها نحو الولاية الثالثة، غير أن الأمر تغير لاحقا، وتقرّر توجيهي نحو الولاية الرابعة، منطقة المدية..
كيف كانت وجهة الطلبة.. غالبيتهم توجّهوا نحو الولاية الثالثة، وأنت نحو الولاية الرابعة، هناك من التحق بولايات أخرى؟ أنا لم أكن مطاردا من طرف الجيش الاستعماري.. وفي أحد الأيام ركبت في قطار كان متجها نحو الجلفة، وعندما وصل المدية، التحقت بأحد مراكز جيش التحرير بالمنطقة الرابعة بالولاية الرابعة، وكان يوجد فيه الطبيب إسماعيل بوضربة، وهو شقيق أحد الطلبة الذي كان معي في كلية الطب.
تذكر بعض الأسماء ممن التحقوا معك بجيش التحرير؟ نعم، بالتأكيد، أذكر السعيد حرموش وكان من الأوائل الملتحقين بالثورة، نذكر أيضا، جيلالي رحموني جاء من تونس، وجاء أيضا آيت إيدير وهو جراح كبير، لكنه لم يصل، لأنه استشهد في الحدود، وأيضا إسماعيل دهلوك وهو لا يزال على قيد الحياة، هناك قدي بكير من غرداية لكنه جاء من المغرب، بنشونة من الشلف... كل هؤلاء متخصصون في الطب. كان معنا أيضا طالب آخر متخصص في الحقوق يدعى بن حمودة، علي لونيسي كان يدرس الأدب. في المنطقة الثالثة كان صديقا لي يدعى بجاوي، إلى جانب لاليام وزوجته، وبن سالم، لا يزال على قيد الحياة.. كان طالب آخر يمثل الولاية الثانية، هو لمين خان.
على أي أساس يتم التوجيه نحو الولاية التاريخية؟ جبهة التحرير هي من توجّه، بالنسبة لي، أنا كنت تحت مسؤولية الدكتور النقاش، والأكيد أن التوجيه كان بحسب حاجيات الجبهة. اهتمام جبهة التحرير بالطلبة لم يتوقف عند العاصمة، بل امتد حتى إلى الثانويات، ومن هناك يمكن الإشارة إلى الطالب الشهيد عمارة رشيد الذي قام بالتحسيس في الثانويات خاصة على مستوى ابن عكنون، وكان على اتصال بعبان رمضان. وللأمانة يمكن القول إن أكبر عدد الملتحقين بالثورة من الطلبة كان من الثانويين.. هذه هي الحقيقة.
هل لأن عدد الطلبة في الجامعة كان قليلا؟ العدد كان قليلا حقا، أنا كنت في الطب، وعدد الطلبة كان نحو 10 من المائة فقط. وفي العشرة من المائة التحق اثنان فقط بالثورة.
عندما نتحدث عن الطلبة والثورة، يتبادر إلى الذهن، ما يعرف بحادثة "لا بلويت"، وهي واحدة من المحاولات التي قامت بها المخابرات الاستعمارية لاختراق الثورة؟ فقط إضافة قبل الإجابة على سؤالكم. حتى نكون صرحاء، هناك الكثير من الطلبة الذين التحقوا بالخارج ومن هناك ناضلوا في جبهة التحرير. الآن نعود للسؤال. حقيقة الاختراق وقع. نتكلم عن الولايات. الولاية الرابعة لها خصوصية كغيرها من الولايات التاريخية الأخرى. وعندما نتحدث عن الخصوصيات، هناك السلبيات والإيجابيات. بالنسبة للولاية الرابعة كان هناك عديد السلبيات، وأقصد بالسلبيات الأمور التي قد تعرقل انتشار الثورة، من بينها العدد الكبير من المعمّرين الذين كانوا يسيطرون على الأراضي في هذه الولاية، إلى جانب ذلك هناك كثرة المدن الكبيرة، وفي مقدمتها العاصمة التي توجد بها المؤسسات الاستعمارية المدنية منها والعسكرية، كذلك القوة السياسية والعسكرية الاستعمارية. ومع ذلك كان التجنيد لصالح الثورة قويا، بدليل العدد الكبير من الطلبة الذين التحقوا بالثورة سواء من الجامعيين أو الثانويين، والمثقفين وهؤلاء جميعا أصبحوا فيما بعد إطارات للثورة، خاصة بعد انعقاد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، الذي جاء بقرارات وضعت قيد التطبيق بالعاصمة خاصة.
إذن إطارات الولايات الرابعة أصبحوا تقريبا كلهم مثقفين، ولكن الاختراق مسّ هذه الإطارات. ما معنى الاختراق؟ لما جاء الجنرال شارل ديغول إلى السلطة في فرنسا في العام 1958، اقترح "سلم الشجعان" على الثورة، ووقع نوعا من التراجع في الثورة التي وصلت عنفوانها بعد 1956، من حيث العدد والعتاد. سنة 1958 سميناها سنة الحرب النفسية، لأن الاستعمار قام بهجوم كبير في تلك السنة من أجل إفشال الثورة، كان يرمي آلاف المناشير، ينتقد من خلالها قيادة الثورة الموجودة في الخارج. هذا الوضع جعل قائد الولاية الرابعة التاريخية، الشهيد سي محمد بوقرة، يرسل بعض الشباب نحو الخارج، لأنه وقف على بداية تأثرهم من الناحية النفسية، ثم جاء مقترح ديغول "سلم الشجعان". كان هناك من التحق في السابق بالثورة وهناك من التحق حديثا، وبدأت الشكوك تنتاب صفوف الثورة، فوقع "سلم الشجعان" موقعا حسنا لدى بعض أبناء الثورة الذين عانوا من الحرب. لكن أين اتضح الخطر؟ عندما ظهر جليا أن بعض الشباب يريد "سلم الشجعان"، لكن ما هو مقابل هذه المبادرة؟ تسليم المعلومات للعدو، هنا بدأت الخيانة.
في أي ولاية وقع هذا الأمر؟ انعقد اجتماع العقداء في ديسمبر 1958 في الولاية الثانية بالقرب من ميلة، ولم يحضره علي كافي لأسباب ما، وبعث ملاحظ هو لمين خان، وحضره الحاج لخضر مسؤول الولاية الأولى، ومثل الولاية الثالثة العقيد عميروش، والولاية الرابعة سي محمد بوقرة، والخامسة تغيبوان والولاية السادسة سي الحواس. في هذا الاجتماع فجر العقيد عميروش قنبلة اختراق الثورة، وأبلغ مسؤولي الولايات. نعود للولاية الرابعة، في فيفري 1959، قام ديغول بهجوم عسكري شامل ضد الثورة سماه مخطّط شال، وتحت وقع هذا الهجوم اكتشفنا.. لما عاد سي محمد بوقرة من الاجتماع وجد موقوفين بالولاية، فقام بالتحقيق معهم، وخرج بعدها مؤكدا وجود اختراق للثورة، وأنشأ لجنة تتكون من لخضر بوالشمع وهو نقيب من الولاية الرابعة..
لكن كيف اقتنع الشهيد بوقرة بوجود اختراق للثورة؟ قلت لما عاد من اجتماع العقداء، كان قد استمع من الشهيد عميروش بوجود اختراق، ثم قام بعدها بالتحقيق على مستوى الولاية الرابعة، وسمع من موقوفين أكدوا الشكوك، مثل إصدار تقارير وتسليمها للعدو.
الذين سلّموا المعلومات للعدو كانوا إطارات سامية أم جنودا بسطاء؟ نعم، كان من بينهم إطارات كبيرة ومتوسطة، لأننا في الولاية الرابعة خلال سنوات 1956 و1957، سنوات ازدهار الولاية، وكان الإطارات الشباب قد فشلوا، وانهارت معنوياتهم ولم يعودوا يؤمنوا بالثورة. في شهر أوت 1959 انعقد مجلس الولاية الرابعة، لم يتبق سوى سي صالح زعموم وسي محمد بونعامة، وقد أنجز تقرير مفصل وأرسل للحكومة المؤقتة.. هناك بعض الشكوك حول أشخاص، غير أن عدم توفّر أدلة قاطعة ضدهم تم تركهم وشأنهم، لكنهم بقوا يقومون بمهامهم القذرة سنة من بعد، قبل أن تتفطن الثورة إليهم..
هل حاكمتهم الثورة؟ بالتأكيد، حاكمناهم على أساس أنهم كانوا يقدّمون معلومات للاستعمار، والتقرير موجود وهو يتحدث عن نحو 400 متهم.
رقم كبير أليس كذلك؟ نعم، هذا الرقم كبير، لكنه صحيح ومثبت بالأدلة.
كلهم من الطلبة؟ فيهم من الطلبة ومن غير الطلبة.
وماذا كان مصيرهم بعد المحاكمة؟ إلا من لم تثبت بحقهم أدلة دامغة، هؤلاء تركوا.
ومصير ال 400؟ كلهم حكم عليهم بالإعدام، ونفذ فيهم الإعدام على مستوى الولاية الرابعة. طبعا هذا القرار كان من أجل الثورة، لقد أنقذت الثورة ب "شعرة"، كما يقال. أنا كنت في الونشريس، خلال مخطط شال في 1959، ووقفنا على حالة من الأمل لدى الفرنسيين في القضاء على الثورة، لقد كان الجنود الفرنسيون يحملون الحبال بأيديهم ويصعدون الجبال لتكبيل المجاهدين وجلبهم للساحات العامة.. هكذا كانوا يردّدون. كانوا يعتقدون أن الثورة سيتم القضاء عليها، غير أن الرد كان بتقسيم وحدات جيش التحرير إلى فرق محدودة العدد وعدم مواجهة العدو وجها لوجه.
هناك من يقول إن الولايتين الثالثة والرابعة أكثر الولايات تعرضا للاختراق، لماذا برأيكم؟ مثلما أسلفت، السبب واضح، وهو أن العاصمة مثلا كانت مركز الاستعمار الفرنسي في الجزائر، هناك الكثير من المؤسسات العسكرية والمدنية في العاصمة، فضلا عن كثرة المعمّرين.. الاستعمار عمل كل ما بوسعه من أجل القضاء على الثورة، ومحاولة الاختراق من الداخل والهجوم العسكري الشامل، كانت من بين المحاولات للقضاء على الثورة. وقد صرح الفرنسيون في أكثر من مرة أنهم تمكّنوا من القضاء على الثورة بعد المجهودات الكثيرة التي قاموا بها، ولكن قادة الثورة عرفوا كيف يواجهون هذا التحدي، من خلال الإجراءات التي تم اتخاذها في الحين لمواجهة مخطط شال مثلا.
فرنسا حاولت اختراق مختلف الولايات ومنها الولاية الثانية، التي أذكر فيها حادثة لم تلبث أن تم اكتشافها من قبل قيادة الولاية وإطاراتها.. لماذا فشلت في هذه الولاية ونجحت في ولايات أخرى؟ نعم عندنا معلومات حقيقية بهذا الخصوص. لقد اكتشف الاختراق في بدايته. نعم القصة معروفة، واحد أنزلته طائرة فرنسية لكن الخدعة لم تنطل على الثورة. ما هو معروف هو أن الاستعمار حاول مع جميع الولايات ولم يقتصر على ولاية بعينها.
قلت إن سياسة الجنرال دي غول أضرت كثيرا بأبناء الثورة. فكيف واجهت الثورة هذه التحديات؟ لم تتوقف العمليات العسكرية من جانب جبهة التحرير، رغم محاولات ديغول الفصل بين الشعب والمجاهدين من خلال إقامة المحتشدات، كما لعب الهجوم الذي أطلق في 1958، دورا أيضا، إضافة إلى ذلك بعض المسؤولين الذين أدلوا بتصريحات.
ماذا تقصد ومن هم هؤلاء المسؤولين؟ لا أريد الخوض كثيرا في هذه المسألة. لكن هناك مسؤولين تأثروا من عملية شال العسكرية، وأدلوا بتصريحات تؤيد مقترح دي غول "سلم الشجعان". ولكن الثورة حاربت هذه المناورات وقضت على كل من ثبت تورطه في الخيانة.
وماذا عن قضية سي صالح زعموم الذي كان من قيادات الولاية الرابعة التاريخية؟ قضية سي صالح تختلف كلية عن عملية الاختراق التي سبقت الإشارة إليها. ينبغي وضعها في سياقها الطبيعي.
ما هو سياقها؟ من هو سي صالح؟ سي صالح مناضل كبير منذ البدايات الأولى للثورة. الولاية الرابعة كانت تعاني دائما من مشكلة نقص السلاح. منذ أول نوفمبر كانت هناك بعض قطع السلاح مخبأة في منطقة الأوراس، نحو 300 قطعة من مخلفات المنظمة الخاصة التي كانت تحضر للكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي. 20 قطعة من تلك الأسلحة قدمت للولاية الثانية، ونحو 30 قطعة أعطيت للولاية الثالثة التاريخية، والولاية الرابعة والولاية الخامسة لم تحصل ولو على قطعة واحدة، وقيل لقادتها سيأتيكم السلاح من المغرب.. لذلك فقد عانت منذ البداية من أزمة نقص السلاح. بالنسبة ل "سي صالح" لما غادر الولاية الرابعة حلّ محله أوعمران، ولما غادر هذا الأخير حلّ محله الصادق دهيليس، وكلهم من أجل السلاح، لكن من دون نتيجة تذكر. الولاية الرابعة كوّنت بعض الكتائب لجلب السلاح من المغرب، فسافر سي صالح نحو المغرب لكن من دون جدوى، بل اقترح عليه البقاء في المغرب، كما سافر إلى تونس أيضا من أجل الغرض ذاته، لكن من دون جدوى، فعاد إلى الجزائر مجددا في العام 1958. وقبل الوصول إلى قضية "سي صالح" أو قضية "ليجيي" أو "تيلسي"، منذ 1954 وهذه المنطقة معزولة، منذ اجتماع 1957 اتخذ قرار دعم الداخل، لكن من دون نتيجة أيضا. وبعد 1958 بدأ الداخل يعتبر نفسه معزولا تماما، هذا هو السياق السائد، وكأن مسؤولي الخارج تخلوا عن الداخل، وهناك رسائل وجهها "سي صالح" لرئيس الحكومة المؤقتة، فرحات عباس يتحدث عن هذه المسألة. في جانفي 1960، مجلس الولاية الرابعة، لم يتبق فيه سوى سي صالح وسي محمد. ووقع اجتماع لإكمال اجتماع الولاية ومعرفة الوضعية. وفي هذا الاجتماع تحدث المسؤول لخضر بوالشمع الذي كان مسؤولا بالمنطقة الرابعة للولاية الرابعة وحليم الذي كان مسؤولا بالمنطقة الأولى بالولاية الرابعة أيضا، أصبحا أعضاء.. وبعد الاجتماع تقرر تطبيق القرارات التي عجز عن تطبيقها مسؤولو الولايات الذين سبق الإشارة إليهم (اجتماع العقداء في 1958).
وما هي هذه القرارات؟ قرروا التنسيق ما بين الولايات وإرسال وفد إلى الخارج. هكذا قسمت المهام. "سي صالح" يبقى في مركز قيادة الولاية ويتصل بالولاية الثالثة، و"سي محمد" يتصل بالولاية الخامسة باعتبار أنها تحد الولاية الرابعة من جهة الغرب، وكان يعرف تلك الجهة، ولخضر بوالشمع و"حليم" يتصلان بالولايتين الأولى والثانية ويسافران إلى تونس، غير أنهما قاما بمسافة يوم، ثم عادا إلى الولاية الرابعة، بعد ما تناهى إلى سمعهما أمورا "لا تفرح" من الإذاعة، وهنا لخضر بوالشمع يعترف بأنه هو من اتخذ قرار العودة.. خافا ربما، ولذلك عادا، لم يعرفا أين يتجهان في الخارج.
لماذا خافا وممن؟ خافا على حياتهما بصراحة.. إذن، لخضر وحليم هما من قاما بواسطة عبد اللطيف الذي كان مسؤولا على المنطقة الثانية بالولاية الرابعة، بالاتصال بالقاضي الذي ربطهم بمصالح الرئاسة الفرنسية.
أنت هنا تتحدث عن بداية الاتصال بين "سي صالح زعموم" والجنرال دو غول من أجل المفاوضات؟ نعم. تقرر الاتصال بالمسؤولين الكبار في فرنسا.
وما هي القناة التي ربطتهم ب"دو غول"؟ قلت بواسطة أحد القضاة كان يعمل بالمدية.
وما اسمه؟ يسمى مازيغي عبد القادر على ما أذكر.
وكيف تمت عملية الاتصال؟ هذا القاضي اتصل بالنائب العام الفرنسي، وقام هذا الأخير بالاتصال بوزير العدل إدمون ميشلي، الذي يعتبر من المقربين من دي غول.. فتم الوصول إلى دي غول.. والهدف من هذه الاتصالات هو تطبيق تقرير المصير، الذي جاء على لسان دو غول، الذي كان قد صرح في 16 سبتمبر 1959. وقبل أن يقرر "سي صالح" الاتصال بالجنرال دي غول من أجل المفاوضات على تقرير المصير، كان قد اتصل أيضا بالحكومة المؤقتة ليشرح لها الظروف التي أصبحت تعيشها الثورة بسبب الإجراءات التي اتخذها دي غول مثل عملية شال العسكرية، يضاف إلى ذلك الانهيار النفسي لبعض إطارات الثورة واكتشاف عمليات الاختراق المنظمة لجيش التحرير.. غير أن الحكومة المؤقتة لم ترد. هذه هي الأمور التي كانت وراء اتصال "سي صالح" ب"دي غول" من أجل المفاوضات حول تقرير المصير.. ربما القرار استند إلى مقررات مؤتمر الصومام التي تحدثت عن أولوية الداخل على الخارج.. ولكن الهدف كان معرفة كيفية تطبيق تقرير المصير الذي تحدث عنه دي غول.
وهل وقع اللقاء بين "سي صالح زعموم" والجنرال "دي غول"؟ اللقاء وقع حقيقة في باريس.
متى ومن حضر هذا الاجتماع؟ اللقاء تم في العاشر من جوان 1960، وحضره كل من "سي صالح" و"سي محمد" و"لخضر بوالشمع" في قصر الإيليزي بباريس. ما كان يهم "دي غول" في ذلك الوقت هو توقيف الحرب. الجماعة حاولوا معرفة موقف الحكومة المؤقتة، لكن من دون جدوى، والقادة الخمسة في السجن، فقرروا المبادرة.
البعض يصف ما حدث بالخيانة، فكيف كيفتم القضية أنتم على مستوى الولاية الرابعة؟ بالفعل، البعض تحدث عن خيانة، لكن الحقيقة غير ذلك، وهي محاولة معرفة ماذا يقصد دي غول بتقرير المصير.. هذا فقط.
نعود لقضية "سي صالح"؟ إذن التقى الثلاثة الجنرال دي غول، ثم عادوا بعد نهاية الاجتماع. لما عادوا أصبحت القضية شأنا داخليا بيد الولاية الرابعة. البعض اعتقد أن سي محمد بوقرة جزء منها. سي محمد كان في الونشريس (غرب الولاية الرابعة)، والاتصالات مع دي غول بدأت في مارس وامتدت إلى جوان من نفس السنة.
من كان قائد الولاية في ذلك الوقت؟ سي صالح هو من كان قائد الولاية.. سي محمد لم يسمع بالقضية إلا في ماي، بعد أن اتصلنا به وأخبرناه بالقضية، فوصل إلى مركز الولاية في المدية، فوجد سي صالح ولخضر وحليم.. وصل في الليل ووجد عساكر فارتاب فتمت طمأنته، ولما اجتمع بالثلاثة وضعوه أمام الأمر الواقع، فخاف على نفسه، هذه الأمور كتبها سي محمد بوقرة. ولما عاد إلى الونشريس لم يكن موافقا على الاتصال بالسلطات الفرنسية.
كيف تعاملت الولاية الرابعة مع قضية "سي صالح"؟ "سي صالح" كان قائدا للولاية وكان برتبة عقيد، وقوانين الثورة لم تكن تسمح بمحاكمته من قبل من هو أدنى مسؤولية ورتبة منه، أما رفيقا "سي صالح" وهما لخضر بوالشمع وحليم بن يحيى، فقد حاكمتهما الولاية تحت مسؤولية سي محمد بوقرة، ونفذ فيهما حكم الإعدام، لأنهما كانا عضوي مجلس الولاية بالنيابة، كما أن رتبتهما لم تكن تحول دون محاكمتها. وقد ترك بوالشمع رسالة يعترف بما نسب إليه. وكانت في نية سي صالح ورفيقيه عدم القيام بأية خطوة قبل الاتصال ببقية الولايات بعد عودتهم من لقاء دي غول لتبليغ ما قاموا به، وبالفعل اتصلوا بالولاية الثالثة، حيث اتصل سي صالح وحليم بمحمد أولحاج مسؤول هذه الولاية (3)، وحاولوا إقناعه، لكنه لم يقتنع. ولما عادا تمت محاكمة حليم، وبالنسبة ل"سي صالح"، فقد اتصل سي محمد بوقرة بالحكومة المؤقتة ليستفسرها عن مصيره، فطالبت الحكومة بإرساله إليها في الخارج (تونس). عندها بقي سي صالح في قيادة الولاية بسلاحه معززا محترما، إلى أن جاء الأمر بعد سنة بتنقله إلى تونس، أي في جويلية 1961.
إذا بقي سي صالح في قيادة الولاية من دون مهمة؟ نعم، بقي في المركز.. حتى قيل إن سي محمد بوقرة كان يشاوره في بعض الأمور، لأنه مناضل قديم منذ البدايات الأولى للثورة. ما قام به لم يكن خيانة. إذن في جويلية 1961 انتقل سي صالح إلى تونس، وفي 21 جويلية وصل إلى مشدالة (شرق ولاية البويرة)، قامت فرنسا بعملية عسكرية جرح خلالها في بداية الأمر وبقي حتى الصباح، وقد تم التعرف عليه من خلال وثائقه.
قلت جرح ولم يستشهد؟ نعم، جرح في الليل، وفي الصباح ربما تحرك فتم قنصه حسب المعلومات التي بحوزتنا. وإذا تم القبض عليه وأجهزوا عليه.. لست أدري. ربما لم ترد فرنسا أن يبقى شاهد على هذه القضية المثيرة للجدل.
وماذا عن اللقاء الذي جمع الثلاثة ب"دي غول" في باريس؟ ما كان يهم الجنرال دي غول هو وقف الحرب. تم الحديث عن جيش التحرير، مصير من قام بالعمليات.. والخلاصة لم تكن هذه القضية خيانة، كان يجب وضعها في سياقها الطبيعي، في الداخل كانت الأمور جد صعبة، والاستعمار استغل هذه الظروف لبث الشقاق بين الداخل والخارج.
العاصمة كانت تسمى "منطقة حرة"، رغم أنها كانت تابعة جغرافيا للولاية الرابعة.. هل هذا يعني أن الولاية الرابعة ليس لها أية سلطة على العاصمة؟ بارك الله فيك، هذا سؤال جد مهم. وقد قرأت الكثير عن هذه المسألة. العاصمة وقبل الهجوم العسكري للجنرال شال. نبدأ في 1956، بدأ قمع شخصي ثم أصبح بعد ذلك جماعيا. في 1957 وضع الشعب في محتشدات، بهدف عزل الثورة والفصل بين المجاهدين والشعب، وسمينا هذا الحرب النفسية، لكنهم لم ينجحوا في ذلك. ولما جاء دي غول إلى الحكم في 1958 تم إطلاق مخطط شال العسكري بهدف القضاء على الثورة بالقوة والعنف، وجاء بهذا الجنرال شال المختص في سلاح الجو، وطلب منحه كل الصلاحيات والإمكانيات على أن يقضي على الثورة كما قال، فوضعت بيده كل الإمكانيات البشرية، حوالي خمسين ألف جندي، والمادية كل العتاد الموجود في فرنسا، وزادت الولاياتالمتحدةالأمريكية تقديم عتاد من الحلف الأطلسي، ونذكر هنا الطائرات المروحية (الهيليكوبتر)، كما تم رفع عدد الحركى في صفوف الجيش الفرنسي.. كل هذا من أجل القضاء على الثورة. أنا عشت هذه الحرب في منطقة الونشريس بالقرب من الشلف وقد وقعت معارك عنيفة مع الجيش الفرنسي في تلك الفترة، لأن هناك تجاورنا منطقتين للولاية الخامسة، المنطقة الرابعة جاءتنا كتيبتان منها، وكذا بالنسبة للمنطقة السابعة، لأن العمل بمخطط شال انطلق من الناحية الغربية للبلاد، فاعتقد الإخوة في الولاية الخامسة أن الضغط عليهم فقط فانتقلوا للولاية الرابعة، يضاف إلى الكتائب الأربع، كتيبتين في منطقتنا يضاف إلى ذلك المسبلين.. إذن كان جيش التحرير في منطقة الونشريس قوي جدا لما انطلق الهجوم في مارس 1959، ووقعت معارك كبيرة، لم نكن نعتقد أن المعارك تدوم يوما واحدا فقط، كما كان في السابق، ولكن ما كان يقوم به الجيش الفرنسي هو حملة استعملت فيها كل أنواع الأسلحة والأساليب، في الأرض في الجو ومن كل الجهات.. في البداية وقعت خسائر حقيقية في صفوف جيش التحرير، لأننا لم نكن نعلم حجم قوة الجيش الفرنسي. سي محمد بونعامة هو الذي كان في ذلك الوقت يسير تلك الجهة.. استراتيجية جيش التحرير هي التي أنقذت الثورة في ذلك الوقت، في الميدان السياسي تقرر رجوع النظام (جبهة التحرير النظام) إلى المدن. في البداية الثورة انتقلت من المدن إلى الجبال. والآن العكس، الثورة تنتقل من الجبال إلى المدن. وفي الميدان العسكري تقسيم الوحدات إلى أفواج وجمع الأفواج إذا كانت هناك عملية مبرمجة من جيش التحرير، وهذا الأمر نجحنا فيه أيما نجاح. بالنسبة لعودة النظام إلى المدن، لأن الجبهة لم تكن موجودة في كل المدن... يتبع..