أعاد التقرير المالي الذي نشره بنك الجزائر، قضية التمويل غير التقليدي إلى الواجهة مجددا، وتمحور الجدل حول جزئية في هذا التقرير، وهي ما تعلق بالمبلغ الذي تم طبعه من الدينار وما يعادله من الدولار، فقد تعدى الرقم النصف، بل اقترب من ربع القيمة التي يفترض أن توزع على مدى خمس سنوات، بحسب الأجندة التي تحدثت عنها الحكومة عند عرضها قانون القرض والنقد للمراجعة الخريف المنصرم. كما تزامن هذا التقرير ووضع اقتصادي واجتماعي مأزوم، فالأسعار وصلت مستوى من الغلاء غير المسبوق، رافقه تراجع كبير في قيمة العملة الوطنية الدينار، أما الهدف المؤقت الذي تم تسطيره فقد تحقق بتسديد مستحقات الشركاء المكلفين بإنجاز مشاريع وصلت حد التوقف عن النشاط. فما هو التقييم الأولى الذي يمكن إسقاطه على الأشهر التي انقضت من عمر العمل بآلية التمويل غير التقليدي؟ وهل حقق أهدافه؟ وما هو الثمن الذي دفعه الجزائريون مقابل ذلك؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول الملف السياسي لهذا العدد الإجابة عنها.
يفترض توزيعها على مدى خمس سنوات الحكومة تستنزف 70 بالمائة من العملة المطبوعة في شهرين! كشف تقرير الوضعية المالية، الذي أصدره بنك الجزائر وتضمنته الجريدة الرسمية في عددها الأخير، عن اختلال كبير في توزيع الأموال المطبوعة على الفترة الزمنية المحددة في إطار آلية التمويل غير التقليدي، الذي لجأت إليه الحكومة لمواجهة العجز الذي يضرب الخزينة العمومية. الأرقام التي تم الكشف عنها بدت مخيفة، فآلية التمويل غير التقليدي الذي كانت الحكومة قد حددت فترة العمل به بخمس سنوات، في حين إن المبلغ الذي تم طبعه واستهلاكه يقدر بنحو 2185 مليار دينار أو ما يعادل 19.1 مليار دولار، وهي القيمة التي تمثل ما نسبته 70 بالمائة من حجم القيمة المالية التي قررت الحكومة طبعها في إطار هذه الآلية. وإن كان هذا الإجراء غير العادي قد حققت الحكومة من ورائه بعض الأهداف التي سطرتها منذ البداية، مثل تسديد المديونية العمومية تجاه بعض المؤسسات التي تشرف على إنجاز مشاريع حساسة، مثل السكن والأشغال العمومية والموارد المائية والفلاحة، بحيث عادت الورشات التي كانت متوقفة إلى العمل. غير أن الأثر الذي خلفه قرار طبع العملة كان ثقيلا على جبهات أخرى، وتأتي في مقدمة ذلك، الجبهتان الاقتصادية والاجتماعية اللتان تضررتا بشكل كبير، فالعملة الوطنية ضربها زلزال غير مسبوق خلال الأشهر التي أعقبت لجوء الحكومة إلى آلية التمويل غير التقليدي، إذ لأول مرة يرتفع سعر العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) فوق عتبة 200 دينار، مثلما ارتفع أيضا سعر الدولار الأمريكي إلى أزيد من 180 دينار، في السوق الموازية، والأمر كذلك بالنسبة إلى بقية العملات القوية. هذا المعطى كان من الطبيعي أن يؤدي إلى تداعيات على صعيد أسعار السلع وبخاصة ذات الاستهلاك الواسع، لكون الكثير منها مستورد إما جاهزا أو في صورة مواد أولية، مثل السيارات التي تضاعفت أسعارها بنسبة قاربت 100 بالمائة، فضلا عن أسعار العقارات، فيما لا يزال تهديد الحكومة بمراجعة سياسة الدعم الاجتماعي مستمرا، وذلك بالرغم من تدخل الوزير الأول، أحمد أويحيى، ووزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية، نور الدين بدوي، للرد على وزير المالية، عبد الرحمن راوية، الذي فجر هذه القضية خلال اجتماع صندوق النقد الدولي بوزراء المالية العرب بالإمارات العربية المتحدة. ويرى مختصون في الشأن الاقتصادي والمالي أن هذا الانهيار الذي شهدته قيمة الدينار في السوق الموازية والرسمية، وكذا الغلاء الفاحش الذي ضرب أسعار بعض المواد ذات الاستهلاك الواسع والمنتجات الصناعية ونصف المصنعة، لم يكن ليصل إلى هذا المستوى من الارتفاع، لو قلصت الحكومة مدة العمل بآلية التمويل غير التقليدي، إلى بضعة أشهر بدل خمس سنوات، التي تعتبر طويلة جدا بالنسبة إلى اقتصاد قائم على الريع البترولي، ولا يتوفر على احتياطي معتبر من العملة الصعبة أو مخزون كبير من الذهب، ما يعني أن البلاد أمام مديونية جديدة لكن بشكل آخر. عندما قررت الحكومة اللجوء إلى التمويل غير التقليدي مطلع الخريف المنصرم، استأنست بحالات مشابهة في صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان والمملكة المتحدة (بريطانيا)، غير أن هذه المقاربة لم تكن على قدر كبير من التشبيه، لأن اقتصاديات تلك الدول قوية جدا، وعملاتها تعتبر أكثر قوة، وهو ما حال دون وقوعها رهينة أخطار التضخم والغلاء الفاحش، لكن ومع ذلك لم تحقق آلية التمويل غير التقليدي الإقلاع المنشود. فالحكومة كان بإمكانها تقليص المدة الزمنية للتمويل غير التقليدي الذي يفترض ألا يتعدى العمل به أشهرا وليس سنوات، والاعتماد على آليات أخرى، برأي الخبراء، منها تحصيل الضرائب المتخلفة، من خلال تقديم التحفيزات لتشجيع المتهربين على ضخ المزيد من المليارات في الخزينة العمومية، لا تترتب عليها تداعيات وأعباء لا يستطيع الاقتصاد الوطني بما يتوفر عليه من إمكانيات مواجهتها.
الخبير الاقتصادي فارس مسدور ل "الشروق" الحكومة أجهزت على الأموال المطبوعة في 2017 كشف تقرير الوضعية المالية لبنك الجزائر عن طبع ما يفوق 19 مليار دولار في أقل من شهرين، في إطار التمويل غير التقليدي الذي لجأت إليه الحكومة لمواجهة العجز.. ما تعليقكم؟ من المفروض أن يكون المبلغ أقل بالنسبة إلى سنة 2017 ما يقارب 560 مليار دينار، في حين إن سنة 2018 هي التي كانت معنية بالتمويل غير التقليدي، الذي من الأساس رفضناه لأنه سيتسبب في ضرر للاقتصاد الوطني حيث سيكون أول متضرر هو العملة الوطنية، وكذا التضخم بسبب انهيار الدينار مقابل العملة الصعبة، وهذا التمويل هو ضرب للقدرة الشرائية للمواطن، كما أنه سيؤثر على المعاملات التي تحصل عليها المتعاملون الاقتصاديون من البنوك، فبعد انهيار سعر الدينار مقابل العملة سيدفع المتعاملون أضعاف ما تحصلوا عليه من قروض، وكل هذه التحذيرات نحن نعيشها الآن للأسف. عمر العمل بالتمويل غير التقليدي كما حددته الحكومة هو خمس سنوات، غير أنها طبعت 70 بالمائة من المبلغ المطلوب في أقل من شهرين.. كيف ستكمل الفترة المتبقية المقدرة بأكثر من أربع سنوات؟ التمويل غير التقليدي أساسا لا يتجاوز مدة 6 أشهر، فإذا كان هناك عجز في السداسي الأول ومن أجل تغطيته يتم اللجوء إلى الضرائب، لأن النقود مؤقتة التداول أي التمويل غير التقليدي ليس حلا دائما، إنه إجراء مؤقت حيث يتم اللجوء إلى ضخ العملة في مدة قصيرة ثم يعاد سحبها، وإذا لم يتم ذلك ستكون بمثابة ضربة قاصمة للاقتصاد الوطني، وحقيقة مدة خمس سنوات التي حددتها الدولة كفترة للتمويل غير التقليدي، يعتبر "جهلا اقتصاديا" وحقيقة بداية طبع كميات معتبرة من النقود في ظرف شهرين وبشكل رهيب ينم عن كونهم لا يدركون خطورة ما يفعلون. أين وكيف تم صرف المبلغ المطبوع من العملة (19.1 مليار دولار)؟ كانت هناك ديون للمؤسسات مع الخزينة العمومية على غرار تأخر دفع مستحقات المقاولين المكلفين بالمشاريع الكبرى، وبعد طبع مبلغ 19.1 مليار دولار، قامت الحكومة بضخ الأموال لتكملة الأظرفة المالية الخاصة بمشاريع برنامج رئيس الجمهورية وتمويل المشاريع الجديدة التي وردت في قانون المالية لسنة 2018. الحكومة في معرض تبريرها اللجوء إلى التمويل غير التقليدي، قالت إن الهدف منه هو تسديد المديونية العمومية.. هل أسهم هذا القرار في حلحلة الوضع في ورشات الإنجاز؟ نعم هذا حدث فعلا، فآلية التمويل غير التقليدي التي لجأت إليها الحكومة مؤخرا، أسهمت في تسديد المديونية العامة، حيث تم دفع مستحقات المقاولين الذين توقفوا عن مشاريعهم بسبب الأزمة المالية، وهذا سيمنحهم دفعا قويا لمتابعة إنجاز البرامج واستكمالها في الآجال المحددة وبخاصة البرامج التي تعول عليها الحكومة ومنها مشاريع السكن التي تعتبر أكبر مشروع في برنامج الرئيس، وكذا الطريق السيار ومشاريع أخرى في قطاعات الري والفلاحة التي تعتبر البديل للنهوض بالقطاع الاقتصادي بعيدا عن ريع البترول الذي تراهن عليه الحكومة في مشاريعها للسنوات المقبلة. الكثير من المختصين حذروا من تداعيات التمويل غير التقليدي على الاقتصاد.. هل وقفتم على "أعراض غير مرغوب فيها" لهذا القرار؟ لم نقف عليها فقط وإنما نحن نعيشها، فبمجرد الإعلان عن هذا الإجراء، ضرب السوق الموازي "السكوار" العملة الوطنية في الصميم حيث ارتفع سعر الأورو ليقفز إلى 208 دينار، وسعر الدولار 180 دينار، كما ارتفعت أسعار المنتجات ذات الاستهلاك الواسع، وسنشهد قريبا ارتفاعا في أسعار العقارات، وكذا أسعار السيارات، فاللجوء إلى طبع النقود واعتماد 5 سنوات لذلك، يعتبر ضربة موجعة إلى الاقتصاد، لأنه كان بإمكان الدولة أن تقوم بالتمويل غير التقليدي في فترة قصيرة، وتقوم بالموازاة مع ذلك بتحصيل الضرائب المتأخرة عن طريق تقديم تحفيزات، كأن تعلن تخفيضا بنسبة 50 بالمائة لكل من يسارع إلى دفع ضرائبه المتأخرة، وبهذا نحافظ على العملة الوطنية ونسهم في تمويل الخزينة.
الخبير لدى البنك الدولي محمد حميدوش: "الاستمرار في التمويل غير التقليدي يحتم المرور على البورصة" كشف تقرير الوضعية المالية لبنك الجزائر عن طبع ما يفوق 19 مليار دولار (218.5 مليار دينار) في أقل من شهرين، في إطار التمويل غير التقليدي الذي لجأت إليه الحكومة لمواجهة العجز.. ما تعليقكم؟ المشكل لا يكمن في قرار طبع النقود في حد ذاته، وإنما في قيمة النقد المطبوع مقابل العملة الصعبة، فقرار طبع النقود لو تم بطريقة محسوبة جيدا لن يؤدي إلى التضخم، وحتى وإن سجل ذلك فليس نتيجة لعملية طبع النقود، خاصة أن هذه الأموال لن تضخ في أجور المواطنين، ما يعني فائضا في السيولة مقابل استمرار انخفاض القدرة الشرائية للجزائريين، وهنا أعود لأوضّح وأقول إنه في حال تحقيق نمو اقتصادي وزيادة في عدد السكان، بإمكان بنك الجزائر اللجوء إلى طبع النقود وهذا أمر عادي، لكن المشكل المطروح في الجزائر يكمن في الطريقة التي يعتمدها البنك لطبع النقود، والتي يلجأ من خلالها بنك الجزائر إلى شراء مباشرة سندات الخزينة، من دون المرور عبر السوق المالية وهي البورصة، وهنا أبلغكم أنه في حال استمر الطبع أزيد من 3 سنوات يتوجب على الحكومة المرور عبر البورصة، وحتى بيع السندات عبر المتعاملين الاقتصاديين. عمر العمل بالتمويل غير التقليدي كما حددته الحكومة هو خمس سنوات، غير أنها طبعت 70 بالمائة من المبلغ المطلوب في أقل من شهرين.. كيف ستكمل الفترة المتبقية والمقدرة بأكثر من أربع سنوات؟ قرار الحكومة كان واضحا منذ البداية عندما اختارت طبع النقود، فهو قرار سياسي مرتبط ببداية التحضير للانتخابات الرئاسية، وكان يتوجب عليها قبل ذلك استكمال المشاريع العالقة، وهذا لن يتأتى دون تسديد ديون المقاولات ومؤسسات الإنجاز الخاصة، وهنا أبلغكم بأن الخزينة العمومية كانت بحاجة إلى 2000 مليار دينار، أما بالنسبة للمرحلة المقبلة، فالوضع سيختلف، وعلى العموم، فإن مخاوف التضخم تبقى قائمة بالنسبة لقيمة الدينار المطبوع أمام العملة الصعبة من جهة، وكذا بالنسبة لبعض القطاعات على غرار الذهب والسيارات والعقار، وهي المجالات التي تشهد أعلى نسبة من الطلب. أين وكيف تم صرف المبلغ المطبوع من العملة (19.1 مليار دولار)؟ تحدثت الحكومة عن طبع 2000 مليار دينار، وهو نسبة العجز المسجل كما أكدت أن الأموال المطبوعة ستوجه إلى تغطية ديون المقاولات الخاصة، إلى حد الساعة لا نعلم أين صرفت الأموال المطبوعة ولكن ما نستطيع أن نقوله هو إنه يتوجب على الحكومة والشعب الجزائري ككل نسيان التفكير بطريقة الاشتراكيين، والتي حولت الجزائريين إلى المعذبين في الأرض، والبحث عن حلول جذرية ونهائية للمشاكل الاقتصادية المطروحة، واستثمار الأموال في المجالات المنتجة. الحكومة في معرض تبريرها للجوء إلى آلية التمويل غير التقليدي، قالت إن الهدف منه هو تسديد المديونية العمومية.. هل ساهم هذا القرار في حلحلة الوضع في ورشات الإنجاز؟ من المفروض أن عملية تسديد ديون المقاولات الخاصة قد تمت، خاصة وأن هذه العملية ككل ترتبط برئاسيات سنة 2019، التي ستنطلق عملية التحضير لها قريبا. الكثير من المختصين حذروا من تداعيات التمويل التقليدي على الاقتصاد.. هل وقفتم على "أعراض غير مرغوب فيها" لهذا القرار؟ كما سبق أن قلت لك، لا يوجد تضخم لأنه لا زيادة في الأسعار والأموال المطبوعة كلها موجهة خارج قطاع الخدمات، ولكن المشكل الذي يمكن أن يكون مطروحا هو فيما يخص كيفية تحديد قيمة الدينار المطبوع مقارنة مع العملة الصعبة، كذلك يجب ضبط آليات السوق للتحكم في العملية، وهنا أبلغكم بأن الحكومة تتفاءل بالمرحلة المقبلة، بعد بلوغها تقارير تفيد بأن سعر برميل البترول سيصل نهاية السنة الجارية 80 دولارا، وبالتالي فهمها الأول والأخير الآن تسديد مستحقات المقاولات، ثم مستقبلا التفكير استغلال عائدات النفط لسد الثغرات المالية.