كانت صفحات "الشروق اليومي" مؤخراً مسرحاً لسجال بين قلمين في موضوع واحد باسمين مختلفين، والقلمان هما الأستاذ سليمان بخليلي والدكتور أمين الزاوي، أما الموضوع الواحد فهو الموقف من التراث ككل، والنظرة إليه، وفيما رأى الأستاذ بخليلي أن موقف الزاوي من المتنبئ وابن خلدون لا يستند إلى أي منطق وأنه صورة أخرى من صور هجوم اليسار التقليدي على ما هو "ثوابت وقيم"، فإن الدكتور الزاوي قد رأى في آخر إمضاءاته أن ما يقوله نظيره شيء مشابه لما سمّاه "الكتابة المحرّضة على القتل"! وصام عن مقارعة بخليلي بل عن تسميته أيضا، بعد أن ضمه لقائمة "صغار النفوس وضعاف الثقافة وتجار الدين الحنيف" وهو في هذا كمن يصف العسل بالمرارة، طالما أن جميع القرّاء يعرفون من هو بخليلي في عالم الثقافة! * الواقع أن النقاش برمّته مهم جدا، والنظرتان المطروحتان تمثلان منهجين مختلفين في النظرة للتراث، ولا يمكن لمن تدعوه "وليمة" فكرية كهذه إلا أن يتورّط فيها مع سبق إصرار ورغبة في البحث. * ولنبدأ بقضية أبي الطيب المتنبئ، والأمر الذي أؤمن به شخصيا أن المتنبئ ليس مقدسا ولا منزها ولا كائنا لا يرقى إليه النقد، بل إن انتقاده و"الحفر" في طروحاته واجب شعري فكري، فالمتنبئ علامة مضيئة من علامات أدبنا العربي. * هذا مبدئي الذي انطلق منه في قراءة الموضوع، ولقد قرأت ما كتبه الدكتور الزاوي والأستاذ بخليلي ورأيت أن أنظر إلى المتنبئ من منطلق ما سماه الدكتور "إعادة قراءة على ضوء مقاربة جديدة، بعيدة عن النمطية، والكليشيهات الثقافية اللغوية التي لا تحمل نقدا ولا رؤية مغايرة، بل تكرس فكرا نمطيا، يعادي كل أسئلة الإحراج المعرفية". * من وجهة النظر الأدبية الخالصة فإن منجز أبي الطيب المتنبئ الشعري غني جدا ومتنوع الأغراض، وقد كان كإنسان رجلا تناسبه الثورة وعدم الاحتفال بالقديم المتعارف عليه، بل إنه مضى بعيدا في حالته الثورية فقد نشأ على اعتداد قوي بنفسه، وكان أول ما فاه به من شعر صغيرا هو "أي محل ارتقي/ أي عظيم أتقي/ وكل ما خلق الل/ه وما لم يخلق/ محتقر في همتي/ كشعرة في مفرقي"!، أي أنه لم يكن يرَ مكافئا له بين السابقين واللاحقين بمن فيهم الأنبياء والرسل. وقد دعا إلى نبوته وجمع حوله بعضا من أعراب "السماوة" ثم أدخل السجن لسنوات عقابا له، وخرج من السجن فعاد سيرته الأولى... إن هذا النمط الشخصي لخليق بأن يكون ثائرا فائرا لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء، وهؤلاء الذين يكون هذا طبعهم هم أبعد الناس عن أن يكونوا تابعين أو متملّقين. * وقد يخيّل لمن قرأ مقال الدكتور أن المتنبئ قضى حياته راكضاً بين حاكم وآخر بحثا عن جاه شخصي، إلا أنني وباعتماد القراءة غير النمطية التي دعا إليها الدكتور، أرى أن المتنبئ لم يكن يوما كذلك، فهو قد عاش بين العراق وسوريا مراهقا وشابا وكان بإمكانه أن يتقرب من خلفاء العراق أو وزرائه في ذلك العصر فيكون له شأن بفعل ما يحمله من استعداد طبيعي للريادة، لكنه فضّل أن لا يقترب من هؤلاء وبقي حرا طليقا يبحث عن وسيلة لتحقيق مشروعه النهضوي الذي تحول من مشروع شخصي ثائر على الجميع إلى مشروع يرمي للنهوض بالحالة السياسية والثقافية للمنطقة التي عاش فيها... ظل هكذا إلى أن بلغ من العمر 33 سنة حيث ربطته صداقة ب"أبي العشائر" ابن عم سيف الدولة، وهنا من المناسب القول أن المتنبئ لو شاء أن يتخذ أبا العشائر طريقا لسيف الدولة لكان له، لكن التاريخ يتحدث أن المتنبئ أقام عند صديقه سنتي 336ه و337ه وفي هاته السنة الأخيرة اقترح صديقه عليه أن يذهب لسيف الدولة، لكن المتنبئ رفض، فأخبر صاحبه ابن عمه أن أحد أصدقائه شاعر كبير، وجاء سيف الدولة ل"انطاكيا" ورغب أن يمدحه أبو الطيب ولمّح له بذلك فرفض هذا الأخير، ثم دعاه إلى مجلسه وعرض عليه أن يقيم عنده، فاشترط أبو الطيب شروطا كانت تبدو "قلة أدب"، بالنظر لما كان يفعله أدباء ذلك العصر، حيث رفض أن يقف في حضرة الأمير ورفض أن يقبّل الأرض بين يديه كما يفعل الشعراء واشترط أن لا يلقي عليه أمامه إلا قصيدة واحدة في السنة.!.. هل هذا تصرف المتملّقين؟ بالتأكيد لا؟ ثم إن ما كان بين سيف الدولة والمتنبئ كان أعمق من علاقة شاعر بأمير، بل كان علاقة صداقة قائمة على تفاهم سياسي ثقافي، فسيف الدولة بدأ عهده كرجل دولة من الطراز الرفيع، محب للأدب، وفوق ذلك كانت دولته ودولة الحمدانيين عموما مشروع نهضة، وذلك الذي جلب المتنبئ إليه، وقد كان للمتنبئ أن يجلس في ظل صاحبه هانئا لا يكلّف نفسه عناءً، لكنه كرجل مشروع نهضوي كان يرى أن أولى مشاريع هذه الدولة استحقاقا أن تنقذ حدودها من أطماع الروم ثم تلتفت للبناء بعد إنجاز التحرير، فكان مع سيف الدولة بسيفه وقلمه في هذا المشروع، ولم يكن ما أسبغه على سيف الدولة من مديح في هذه المرحلة مديحا شخصيا غرضه التكسّب بل كان تعبيرا عن الامتنان لتحقيق رؤية نهضوية، والدليل أن المتنبئ كشخص لم يكن يرى في سيف الدولة إلا صديقا مكافئا، فلما اختلف معه أطلق بيته الشهير "شر البلاد مكان لا صديق به/ وشر ما يكسب الإنسان ما يصِم"... قال هذا في حضرة سيف الدولة، معتبرا إياه صديقا لا أكثر ولا أقل... وقد كان انتهاء صداقة الرجلين راجعا لشيئين: أولهما، أن سيف الدولة نفسه قد تراجعت طموحاته بعد انطلاقة جيّدة لبناء نموذج حضاري ناجح، فعاد إلى محاولة ضمان حكم شخصي وعائلي وضاق بالطامحين النابهين، فتناسى أبا فراس الحمداني في سجنه طويلا ثم استبعد أبا الطيب ومال إلى المتملقين الذين مدحوا نهجه التسلطي الجديد وتخليه عن أحلام الدولة الحديثة. أما السبب الثاني، فهو أن المتنبئ قد ضاق ذرعا بهذه الحاشية المادحة ورأى أن ما يقوله من منطلق صداقته برجل الدولة الأول قد أصبح بفعل الحاشية الخانعة جرائم كبرى وأن صديقه الذي عهده متنورا طامحا قد أضحى نسخة مكررة من حكام عصره ولهذا قال له المتنبئ بحضوره: * وما انتفاع أخي الدنيا بناظره * إذا استوت عنده الأنوار والظُّلَم * وأكثر من هذا، فإن المتنبئ كان حريصا على إيضاح أن خلافه مع صديقه ليس خلافا شخصيا وأنه ليس غاضبا بسبب بعض ما ناله من أذى شخصي وإنما كان خلافه مع صديقه سياسيا في المقام الأول، إنه يترفع عن المشكل الشخصي حين يقول: * إن كان سَرَّكم ما قال حاسدنا * فما لجرح إن أرضاكم ألم * ولكنه يشير إلى أن صاحبه الذي تنازل عن طموح النهضة قد آل أمره إلى الهروب من مواجهة المتنبئ فكريا وسياسيا إلى البحث عن إشكال شخصي معه تختصر فيه المسألة بسذاجة، لكن شاعرنا يفتخر أن صديقه القديم لم يجد إليه أي سبب شخصي: * كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم * ويكره الله ما تأتون والكرمُ * بل إن أبا الطيب لا يعتقد بتاتا بأن رحيله عن سيف الدولة خسارة شخصية له بل هو خسارة لصاحبه: * إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا * ألا تفارقهم فالراحلون همُ * ويشير الرجل إلى أنه كان الأولى بصديقه أن يصارحه مباشرة بدل الأسلوب الملتوي الذي اتبعه معه: * قد كان بيننا لو رعيتم ذاك معرفة * إن المعارف عند أهل النهى ذمم * إلى هنا تنتهي حكاية سيف الدولة مع المتنبئ، قضيتها خلاف حول مشروع لم يكتمل لا حول مال يجمع... ولقد تنازل سيف الدولة عن طموحه وأقصى النابهين حوله والقادرين على أن يقولوا له "لا" بمن فيهم شاعران بقامة المتنبئ وأبي فراس وكانت عاقبة دولته أن انتهت كما كانت عاقبة جلسائه المادحين أن مسحهم التاريخ! * أما رحلة أبي الطيب المصرية فقد يكون فيها بعض ما يؤخذ على الرجل، فقد قاده إليها غضبه من سيف الدولة وحاول فيها أن يوازن كفة الحمدانيين بكفّة القوة الصاعدة أي الأخشيديين وينجح مع كافور فيما فشل فيه مع سيف الدولة، لكنه اكتشف أن كافورا ليس إلا رجلا عديم الطموح وإن قصارى ما يريده هو حكم مصر مهما كان الثمن ودون الالتفات لأوضاع شعبها، وأكثر من هذا فإن كافور كان يتخذ من الدين وسيلة لتبرير حكمه ويحاول أن يظهر في ثوب المتديّنين فيما يضمر استبداده ويحكم أرضا ليست له ولا لآبائه وإنما يسوسها بالسيف عبر احتلال يحمل صفة الدين ولذا كانت ثورة المتنبئ عليه عنيفة، بل وعلى شعب مصر أيضا: * سادات كل أناس من نفوسهم * وسادة المسلمين الأعبد القزم * أغاية الدين أن تحفوا شواربكم * يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! * ولو كان للمتنبئ مراد شخصي لبرّر لكافور حكمه لكنه كان يرفض اتباع غايات النفس الصغيرة "ومراد النفوس أصغر من أن/ نتعادى فيه وأن نتفانى/ غير أن الفتى يُلاقي المنايا/ كالحات، ولا يلاقي الهوانا/ولو أن الحياة تبقى لحيٍّ/ لعددنا أضلنا الشجعانا / وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ/ فمن العجز ان تكون جبانا"! * وقد انتهت الفترة المصرية في حياة أبي الطيب سريعا، فلم تزد على أربع سنوات ثم رحل بعدها إلى العراق وفارس وما جاورهما... لقد عاش الرجل 50 سنة قضى منها 12 سنة في صحبة صديقه سيف الدولة و4 سنوات في بلاط كافور... ولو شئنا أن ننتقده على سنوات مصر برغم أنها كانت سنوات فيها من النضج الشعري شيء غير بسيط لكانت نسبتها أربعا إلى خمسين سنة! وهي بالطبع لا تمحو ولا تنقص من منجزه الشعري شيئا ذا بالٍ. * إن أبا الطيب كان شاعرا رائعا وكان له عقل يأنف أن يقاد: "لا ألحَظُ الدّنْيا بعَيْنيْ وامِقِ/ ولا أُبالي قِلّةَ المُوافِقِ" وكان يكره الأشخاص المتقلبي الآراء والمواقف ومنهم رجل هجاه بقوله: "مازِلْتُ أعرِفُهُ قِرْداً بِلا ذَنَبٍ/خِلْواً مِنَ البأسِ مَملُوءاً من النّزَقِ/ كَريشَةٍ في مَهَبّ الرّيحِ ساقِطَةٍ/ لا تَسْتَقِرّ على حالٍ منَ القَلَقِ". * وللدكتور أن ينتقد المتنبئ كما شاء فكريا وأدبيا فالمجال مفتوح، وللمتنبئ صفحة حافلة بالتجارب الناجحة والفاشلة كأيّ فردٍ منا، ولهذا النقد أدواته التي يعرفها الدكتور وبالطبع فليس من أدوات الجدل الفكري أن نصف بعض شعر المتنبئ بأنه "قمة التذلل والحقارة والتملق" فكلمة "حقارة" ليست "نقدا أدبيا" بالمرة، وكان للدكتور أن يستعمل غيرها، إلا إذا كان الدكتور يرى أن النقد الأدبي هو تحقير الآخرين. * بقيت لي ثلاث كلمات، أولها ما قاله الدكتور عن ابن خلدون، إذ تعجّبت منه شخصيا، لسببين أولهما: أن الدكتور كان يصرّ دائماً حين كان يدير المكتبة الوطنية أن يبرمج زيارة مغارة ابن خلدون في تيارت، ويضعها "خاتمة مسك" لكل زاور المكتبة من الأجانب، وأنني لم أسمعه مرّة يصارحنا برأيه الحقيقي في ابن خلدون بل كان يقول عكس ما يقوله الآن، ومن ثم فأنا لا أفهم السبب الذي يجعله يصرّ دائما على إرسال زوار المكتبة لمغارة ابن خلدون بتيارت ثم يصفه اليوم بأنه "مكسور تجاه السلطان والأنظمة التي خدمها أو بالأحرى عبدها ولم يستعمل حاسة العلم لديه لنقدها أو معارضتها أو مقاطعتها"! * أما السبب الثاني الذي يجعلني أعجب فهو بعض ما ورد في نقد الدكتور لابن خلدون، وخصوصا ما تعلق بعلاقة ابن خلدون ب"الغلمان"... وهنا سأذهب بعيدا وافترض صحة ما ينقله الدكتور وأقول له: ما دخل ميول الرجل الجنسية في تقييمه الفكري؟ ليكن ابن خلدون عاشقا للنساء أو الرجال... هل يعنينا هذا الميل في كثير أو قليل... الذي يهمنا هو منجزه الفكري لا هويته الجنسية! ثم ما دخل الهوية الجنسية في النقد الفكري الأدبي؟! * الكلمة الثانية، حول عدم ردّ الدكتور مباشرة على الأستاذ سليمان بخليلي واتّهامه بشكل غير مباشر بما يسميه "الكتابة المحرّضة على القتل والمبشرة بالكراهية"... والواقع أن الأستاذ بخليلي لم يدعُ يوما إلى قتل ذبابة ولم يستعمل لا "لغة التحقير" ولا "لغة الاتهام والمحاكمة الأخلاقية" ضد نظيره بشكل شخصي، رغم أن الدكتور الزاوي استعملهما ضد المتنبئ وابن خلدون معًا، و"التحقير" و"الاتهام والمحاكمة الأخلاقية" هما بالمناسبة آلتان يستعملهما المتطرفون أيضا، وأعجب من هذا كله أن الدكتور الزاوي صديق لبعض من "كانوا في الجبل" بل واستضافهم في المكتبة الوطنية، وقال فيهم مادحا، فكيف يصادق من حملوا الرشاش سابقا ضد بلدهم ويأنف من مناقشة من يحمل قلماً في يده وكلمة على لسانه! * ثالثة الكلمات هي تبرير عنوان المقال، وسأطلب إعفائي منه مؤقتا، لأقول إنه إذا أريد لهذا النقاش أن يكون فكريا لا يتناول شخوص المتحاورين فليكن، وليأذن لي المتناقشان أن أكون ضيفا عليه... انتمي لعقلي وحده، أما إن أريد لهذا النقاش أن يكون شخصيا، فسأبدأ في المرة المقبلة من تبرير عنوان هذا المقال بإعادة نشر مقالٍ سابق نشرته وعلقت فيه على حوار أجراه الصديق أيمن السامرائي مع الدكتور الزاوي! * * هامش على عنوان المقال: * )*(الشاكمة: هي ما يقال له في لغة قريش "عادم السيارة"! * * * *