رحلتي مع الزَّمان صور من جهود الشيخ الطيب العُقبي في محاربة الشرك وتصحيح العقيدة التفت إليَّ والدي في اهتمام بالغ - ونحن نتناول قهوة الصباح - في اليوم التالي، وقال : اليوم سنعقد معا جولة في قلب العاصمة، إننا سنزور نادي الترقي ( بساحة العود ) ساحة الشهداء الآن . * وأخذ يحدثني عن هذا النادي ولم يعلَق بذهني من وصفه إلا ما معناه : إن هذا النادي يا بُنيّ مهد من مهود النور، إنه يشعُّ نورا، اختاره الله - وهو أعلم حيث يجعل رسالته - مبعث الحياة، ومشرق النور، يتولى الخطابة فيه رجال جمعية العلماء !! فقلت لوالدي - إذن سنرى ابن باديس اليوم يخطب؟ فقال والدي : قد نراه وقد نرى غيره، فكلهم سواء في الجهاد ! شعرت من أعماقي بشيء من الابتهاج يخامره الزهو، إذن سأرى ابن باديس ! وفي الطريق إليه، سألته عن هذا النادي، فقال إنه نادي جمعية العلماء، يغلب على الظن أن الذي سيُدرّس فيه اليوم هو العلامة الشيخ الطيب العقبي حسبما علمت البارحة، وكان يشاركه في الحديث رجل من أزفون كان معنا في هذه الزيارة. وما إن سمعت اسم العقبي حتى اعترتني حالة غريبة منشؤها أن الطرقيين المتطرفين في منطقتنا كانوا ينعتونه بالزندقة، ويقولون إنه يعمل لصالح فرنسا في الجزائر ليفسد على الجزائريين دينهم ويمسح عقيدتهم، وكان والدي أدرك هذا الإحساس الغريب، فأخذ يقول: من هذا النادي تنبعث صيحات الحق، وإشراق الهدى لينجلي الصبح، وينتشر النور ! كنا على مقربة من باب النادي حينما سمعنا صوتا قويا ناصعا يجلجل، وسألت والدي من هو صاحب هذا الصوت؟ فقال : إنه الشيخ الطيب العقبي، وركّزت فكري فإذا هو يتحدث في هذه الآية الكريمة : ( وإن يَمْسَسْك الله بضرّ فلا كاشفَ له إلا هو وإن يُرِدْك بخيرٍ فلا رادَّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) . دخلنا النادي ووجدناه غاصّا بهواة العلم والمعرفة، وجلُّهم بالبرانيس والعمائم، وكلُّهم في اتجاه إلى الشيخ وهو على المنصة، وفي يده مِرْوَحة يُشير بها أحيانا، ويروّح بها عن نفسه من شدة الحر أحيانا أخرى! والجميع معه في فضاءات رحبة هنا وهناك يدعو إليها المقام ويتقاضاها السياق واللحاق . وبالرغم من صغري فإن هناك أشياء انتقشت في الذاكرة من هذه المحاضرة : أولها هيئة الشيخ التي توحي بالمهابة والجلال: لحية كثيفة سوداء، وعينان تشعَّان نورا، ولسان ذرب فصيح، وسمت يوحي بسمو الروح وبراعة الذهن، وقوة الحجة، وسداد المنطق، وشجاعة القلب، ويقظة الفؤاد، إذا سمعته يحاضر فلا يسعك إلا أن تُعجَب به، وتنصاع إليه، وتتمنّى لو أنه لا يسكت . أما ما أدركناه من درسه أو محاضرته ففوق مستوى إدراكي، بيد أني استطعت أن أعي بعض الأفكار التي كان يعالجها بذهني : إن الذين يدْعون الأولياء والصالحين أن يفرّجوا كُرَبَهم، ويكشفوا ضرَّهم، أو يُسدوا إليهم الخير والنفع، هم قوم ضالون عن الجادّة، واهمون خاسرون، ظالمون لأنفسهم، وهم لا يعلمون! يعدون في كيان الأمة دماميل، وهم لها عقبات تَقَدُّمِها، وآفاتُ رقيِّها. افهَموا كلام ربكم - إن كنتم مسلمين، واعملوا به إن كنتم مؤمنين، وابتعدوا عن الشيطان إن كنتم تريدون النجاة من ظلام داهم، وخسران ماحق، وضياع مبين ! هذه الأفكار أدركت بعضها لأن أسلوبه واضح لا غموض فيه ولا التواء . ثم خرجنا، وعلى سُلَّم النادي وعلى مقربة من الباب تقابلنا مع رجلين جاءا إلى النادي، أحدُهما كاتب القطرين الشيخ أحمد توفيق المدني، وكان والدي لا يعرفه، أما الثاني فكان والدي يعرفه يعمل تاجرا في العاصمة، وهو من نواحي أزفون. قدَّم الرجل والدي إلى الشيخ توفيق، ثم سأله الشيخُ عني، فقال له والدي: إنه ابني حفظ القرآن الكريم دون التاسعة من عمره، فسُرَّ كثيرا فغمرني بكلمات كلها لطف منه وتشجيع، ولا أزال أذكر أنه قال عني إني ابن معطي الصغير، ثم دعا لي الشيخ دعاء حفظه عنه والدي وكان يذكره من حين لآخر، وهو هذا :" جمع الله فيك جلالة العلم، وسداد المعرفة، ونور الهدى، ونزهك تراهات الهوى " . وفي مساء هذا اليوم كان في برنامج الوالد أن نزور الشيخ السعيد أبا يعلى الزواوي في بيته، بيد أن أحد أصدقائه أعلمه بأنه مريض لا يقدر أن يستقبلنا . ملاقاة الإمام ابن باديس وفي اليوم الرابع من هذه الرحلة صلَّينا الظهر في الجامع الكبير، وقد خططنا أن نزور في مساء ذلك اليوم أقارب لنا يسكنون بنواحي الأبيار ! وبعد الانتهاء من الصلاة، والانتهاء من الباقيات الصالحات، التفت إليَّ والدي، وقال - وعلى وجهه ابتسامة مشرقة - ما رأيك في هذه الجولة؟ أليست خيرا من سيارة تشغلك عن واجبك العلمي؟ هل أدركت لِمَ اخترت لك هذه الرحلة؟ قلت له، لا ! ربما لمجرد التجوال والتفسح والاسترواح عن النفس وأخذ العدَّة للمستقبل ! فقال : وهو كذلك، ولكن هناك ما هو أعظم من ذلك وأفيد وأجمل؟ وهي فوائد جليلة هامة ! أولها أنك قد اكتشفت بنفسك ظلم المستعمر وجوره وقهره، ورأيت بنفسك قلوبا تذوب من حرارة الظلم، وقساوة القهر، ورؤوسا تدور من خدر السياسة، وقلوبا فياضة بحياة الحياة، ولكن أصحابها لا يقدرون أن يفعلوا شيئا؟ ولعلك شعرت في أثناء تجولاتك أن الجزائريَّ لا يقل تفكيرا، وعبقرية، وجرأة عن الأوربي الذي استعمر أرضه، ولكن الظروف جعلت هذا في الدَرَك الأسفل من الانحطاط، وجعلت ذلك في الذروة ! ولا تنس أيضا هذا الرصيد العظيم الذي ظفرت به وهو معرفتك برجال هم رصيد الجزائر الهائل، أو هذا معنى قوله !! وبينما كنا في هذا الحديث تراءى لنا على بعد خالي الشيخ الطاهر -الشهيد- صلى الظهر ثم هَمَّ بالخروج، ولم نكن على موعد معه، فقمنا إليه، وبعد التسليم وإبداء العَجَب من هذه المصادفة اقترح خالي علينا أن نخرج في جولة في شارع باب عزون، فقبلها الوالد، لا سيما ولم يبق لنا في الجزائر إلا تلك الأمسية، فخرجنا، وبينما كنا على الرصيف الذي عليه مكتبة بوداود ومرازقة في الوقت الراهن، إذ تراءى لنا الإمام عبد الحميد بن باديس في خطوات سريعة، وفي يده مروحة ينفس بها على نفسه من حرارة الشمس. وهنا أستطرد بكلمة عن خالي الشيخ الطاهر والإمام ابن باديس . في سنة 1931 زار الإمام ابن باديس خالي في بيته وأقام عنده ثلاثة أيام، وبيته هذا في قرية (تيمليلين) بنواحي تغزيرت -كما ذكرنا في غير هذا المكان- وكان رفقته الصحافي القدير المرحوم الشيخ باعزيز بن عمر، ومما يذكر في هذا المضمار أن الجو قد تغيّر قليلا فشعر الإمام بالبرد، فجاءهُ خالي ببرنوس جديد، ولمّا همَّ الإمام بالرحيل نزعه وردَّه إلى خالي، فقال له خالي إنه هدية من هذه المنطقة وشرف تناله المرأة الأمازيغية التي نسجت البرنوس . تحدَّثوا بالقرب مني قرابة ربع ساعة حول زاوية الشيخ خالي الطاهر حول القرآن والزوايا في هذه المنطقة، وكان الشيخ الطاهر هذا فقيها قرآنيا درس بزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي على الشيخ السعيد اليجري، الذي له معرفة خاصة بالشيخ ابن باديس، وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية العلماء، وكان له باع طويل في التحدث باللهجة الأمازيغية يعرف أشعارها، وأمثالها، وحِكَمَها، ونوادرها، وطُرَفَها ومُلَحها، مما جعل الشيخ الإمام يسأل عنه ! وفجأة نظر الإمام ابن باديس إليَّ فقال : من هذا الفتى؟ فقال الشيخ الطاهر : ابن الشيخ البشير - والبشير هو أبي - وأردف ذلك قائلا : إنه أيها الشيخ قد حفظ القرآن حفظا جيدًا دون أن يبلغ التاسعة من عمره ! وهنا تقدم الإمام عبد الحميد في خطوات وئيدة ووضع يده اليمنى على رأسي وقرأ في صوت جهوري قوله تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلَّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) . وكان رأسي يعج بصور مختلفة مما رأيته أو سمعته خلال تلك الأيام التي قضيتها بالجزائر، ولمّا نزع الإمام يده من على رأسي امَّحت جميع الصور ولم تبق إلا صورة الآية الكريمة بصوت الإمام . وهنا لا بد من الملاحظة بأن هذا اللقاء الذي لم يكن في الحسبان، كان من توفيق الله تعالى ومن نِعَمه عليّ، فلولا ذلك ما كان، فأنَّى لي وأنا طفل صغير نكِرة في هذه الحياة العريضة أن ألتقي هذا الإمام وأن يتلو على رأسي تلك الآية الكريمة التي لها أثرها الفعال في مجرى حياتي، إنه تخطيط ألهيٌّ يرضخ له هذا الوجود، وإنني إذ أذكره بعميق الوعي، أسجل عجزي عن الوفاء لشكر الله تعالى على ذلك . وقد أدركت - رغم صغري - بركة هذا الإمام، وفعلَ كلام الله تعالى في النفوس، لا سيما عندما يجري على ألسنة خاصة من عباده المؤمنين أمثال هذا الإمام . والبصير الواعي من اقتدى بهذا الإمام، واهتدى بهذا الكتاب المبين . وما كنت أدري في تلك اللحظات التاريخية أني بعد عقود من الزمان أكلَّف بإحياء تراث الإمام وأعيش أكثر من عشرة أعوام في صحبته في رحلة كلها اكتشاف، وافتراع وتطلع، ولكنه التخطيط الرباني العجيب ! وأسجل أن لهذه الآية بالخصوص أثرها العميق في نفسي، فلا أتلوها حتى تُثير في أعماقي كوامن وإحساسات وذكريات، وأشعر بحالة شاعرية صوفية لا توصف ! وعندما عدنا إلى الفندق الذي نزلنا فيه قال لي والدي أرأيت كيف أن الرحلة مباركة ميمونة؟ تعرَّفت على الناس، والتقيت الأستاذ توفيق المدني، والأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس، وحضرتَ درس الشيخ العقبي، وسيكون لكل هذا أثره الإيجابي في نفسكَ مستقبلا، وسترى ذلك إن شاء الله ! وأعترف أن لهذه الرحلة أبعادها العميقة في نفسي تتجلى ثمارها من حين لآخر !