الحلقة الثانية عشرة الشيخ الشرفاوي لقّبني بسيبويه القرن العشرين ! عدنا إلى دارنا بزواوة بعد جولتنا في الجزائر، وظللت أياما أحدِّث أمي عمَّا رأته عيناي، وما وعاه رأسي من شتى الصور، ولكن أمي تأثرت بالغ التأثر بالتقائي العلماء وخاصة الإمام ابن باديس وما صنعه بي عندما وضع يده على رأسي وتلا من القرآن ما تلا، وخاصة عندما شرح لها والدي تلك الآية التي تلاها، وعلقت أملا كبيرا على هذا الصنيع، وكانت تقول للعجائز اللاتي يرونها. إن لابني شأنا عظيما في مستقبل حياته دون أن تذكر لهنّ سبب هذا التفاؤل، إذ جعلته من الأسرار التي يجب إخفاؤها على الناس والاستئثار بها، حتى لا يضيع مفعولها في نظرها. وكانت -رحمها الله- تربط لقائي بهؤلاء العلماء بالحلم الذي رأته في منامها يوما. وبعد أسبوع - تقريبا - من الراحة حدَّثني أبي وقال : إن أيام الراحة قد انقضت، وأن عليك الآن أن تستعد للحفظ : حفظ الشعر، وحفظ المُتون . اعتكفت -تحت رعاية الوالد- على الحفظ ليل نهار وكان أن حفظت في ظرف ثلاثة أعوام تقريبا المعلقات السبع والمقصورة لابن دريد، وقصائد للمتنبي، وابن الرومي، والبحتري، وابن زيدون. أما المتون، فقد حفظت أكثر من عشرين متنا على رأسها المتنان الكبيران: (التلخيص) للخطيب القزويني و ( جمع الجوامع ) وكذا ألفية ابن مالك . تأثري بالحركات الإصلاحية والتحررية في الجزائر وهذه الأدوار أو هذه الحركات الثلاث : دور الزوايا، ودور الحركات التحررية، ودور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت كلُّها تعيش في نفسي وتتجلى لي في مجالين اثنين : في مجال واسع خارجي، ومجال ضيّق محدود: المجال الذي تتحدث عنه الصحف، ويتحدث عنه الناس في مختلف مجالسهم واتصالاتهم، وهذا مجال خارجي واسع، وكانت تعيش أيضا في البيئة التي كنت أعيش فيها، وهذا مجال ضيق محدود. فكنت -رغم صغري- أتصوَّر دور الزوايا المحيطة بنا، كزاوية سيدي منصور، التي هي على ثلاثة أميال من قريتنا، وزاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي التي يدرس فيها صهرنا الشيخ الرزقي الشرفاوي، وزاوية شرفة بهلول التي لا تبعد عنا إلا بنحو خمسة عشر ميلا، وزاوية تمليلين التي أسَّسها ويدبّر شؤونها خالي الشيخ محمد الطاهر ( الشهيد ) . كما كنت أتصور الحركة التحريرية في طائفة من المناضلين الذين انخرطوا في حزب الشعب، أمثال محمد إعزورن، وأُشرقي، وقاسي حدادن، وحوالي، وعمّي علي، وغيرهم من المناضلين الأبطال الذين كان لهم دورٌ فعّال في الثورة التحريرية، قبل أن يفوزوا بالشهادة، وكل هؤلاء تخرجوا من المسجد على يد والدي -رحمه الله- وكنت أراهم في مجالسه الوطنية الثورية المختلفة، وكنت أستمع إليه، وهو يُلقنهم دروسا في الوطنية الصادقة، وكراهية الاستعمار الفرنسي، وكيف تعطى ضريبةُ الدم عن قناعة وسخاء! كما كنت أتصوَّر جمعية العلماء ودورَها وهدفها من خِلال صحفها: الشهاب، البصائر، المنتقد، التي لم يكن يخلو منها بيتنا. وكان والدي يقرؤها بنهم، وينتظر ورودَها في ظمإ، وتلهف، ويحتفظ بها في هيام واعتزاز، كما كنت أتصور دور الجمعية وأهدافها من خلال الأحاديث التي كانت تدور بين والدي والشيخ الرزقي الشرفاوي كلما زار بيتنا، وبينهما والزوار الذين يغْشَوْن بيتنا أيام هذه الزيارة، وأتصور من خلال ذلك كلِّه أيضا الصراع العنيف الذي كان بين جمعية العلماء والطرقيين المتزمتين الجامدين، وكان يتجلى لي ذلك بصفة أعمق وأوسع، في محاربة الطرقيين لوالدي، لأنه يقرأ صحف الجمعية، ويحب ابن باديس، ويدافع عنه، مع أنه طرقي، ولكنه متفتح عصريّ، وقد سبق أن تحدثنا عن هذا الصراع . العلامة الشرفاوي يقترح على والدي أن ألتحق بالزاوية اليلولية وبعد أن حفظت كمّا هائلا من الشعر والمتون في البيت بعد حفظ القرآن الكريم، رأى والدي أن يعطيني دروسا في القواعد العربية والفقه، وتفرغنا أشهرا لدراسة (الأجرومية) و(ابن عاشر)، وألاحظ هنا أن والدي يريد مني أن أتفوَّق في كل شيء، وأن يكون كل وقتي للمذاكرة والمراجعة، وأن لا أتصل بأحد يلهيني عن هذه الغاية، وهذا ما تسبب في أمرين : أحدهما الضعف العام الذي منعني من النوم والأكل أياما . وثانيهما التبرّم والكلل وكراهية القراءة، وكل ما يمتُّ بصلة ما إلى القراءة من ورَق وقَلَم ومحبرة أياما أيضا . وأعترف أن والدي كان بعيدا كل البعد عن المناهج التربوية، حيث كان يريد أن يطوي مرحلة الطفولة ويطرح من حسابه حقوق نفسي في الراحة، فكان ذلك على حساب صحتي . وفي هذه الأثناء جاءنا العلامة الشيخ الرزقي الشرفاوي، فحدثه والدي عن حالتي الصحية، وما حفظت من الشعر والمتون، فانبهر مما سمع، واختبر حفظي للشعر العربي بعرض أبيات من هنا وهناك، وإتمام أجزائها أو ذكر لاحقها أو سابقها، وتعجب بالخصوص من حفظي (للمقصورة) لابن دريد في (400) بيت، وقال لوالدي: إنها وحدها ثروة عظيمة، وكيف ومعها هذه العشرات من قصائد فحول الشعراء، ولكن الشيخ آلمه ما أنا فيه من مرض وضعف ونحول، وأشار على والدي أن يوجهني إلى زاوية الشيخ عبد الرحمن اليلولي التي هو فيها أستاذ، وقال له: إن هذا سيخرجه مما هو فيه من مرض وكراهية للقراءة . من جحيم إلى نعيم وليس مما يطيقه هذا الفكر وهذا القلَم وصف فرحي وابتهاجي بهذه النقلة من جحيم إلى نعيم، من جحيم الجدِّية والدأب على الحفظ والدرس، والانعزال في عالم كله صبر، ومثابرة، وحفظ، وعلم، واجتهاد، إلى عالم أوسع، وفضاء لا حد له -في نظري- كله جهاد، وتحصيل، وحفظ، ومذاكرة، ولكن فيه أسلوبًا في الحياة جديدا، ووجوها جديدة، ونظاما جديدا، وبعدا عن عالم كدت أحترق فيه . صحيح أنني ابتعدت عن أمي وأبي وعن إخوتي، ولكنني في الواقع كنت معهم، ولست بينهم، عليَّ كل واجب وليس لي أي حق ! بكلمة وجيزة مقتضبة جعلني والدي بحرصه الشديد على أن أكون ( رجلا ) قبل الوقت و ( عالما ) قبل الأوان - جعلني أعيش في عالم لست له وليس لي ! إن العالَم الذي كنت فيه جعلني أعتقد أنني لم أخلق إلا للحفظ، والتلاوة، والقراءة، والقلم، والحبر، والكتاب، أما أن أكون طفلا يلعب ويمرح ويلهو، ويزهو فذلك ما لم يكن يقع في وهمي ولم يكن يدور في خلدي. والذي صاحبني إلى الزاوية وتولى رعايتي فيها هو ابن عمي آيت صديق أرزقي بن الشيخ أُلَفقي، كان عضوا في المجلس الاستشاري، وعند وصولنا أنزلوني في حجرة متميزة نظافةً وأثاثا وموقعا، وما إن شاع الخبرُ في أوساط الطلبة بأني حفظت القرآن وعددًا من المتون، وعدة قصائد شعرية لفحول الشعراء -وكان الكثير منهم قد سمعوا بهذا قبلُ- حتى أخذوا يدخلون وحدانا وجماعات، منهم مَن يستيقن من هذه الثروة الضخمة التي أحملها في صدري للكتاب والأدباء، والشعراء، ومنهم من كان يختبرني فيما حفظت، ومنهم حفظة القرآن الذي شُهِد لهم بالحفظ المتميّز يأتون لاختباري . وهكذا فقد مكثتُ في هذه الحجرة ثلاثة أيام وليالي قبل الانتظام في سلك الطلبة، وأفواج الطلبة السائلين في دهشة وانبهار حينا، وفي محاولة التعجيز حينا آخر يتعاقبون . وأذكر -ولا أنسى أبدا- أن طالبا كبيرا وجد عندي طائفة من الطلبة يسألون ويتساءلون في دهشة وانبهار، فأراد أن يضع حدا لهذه الدهشة وهذا الإعجاب، فقال لهم دعوني أسأله، فإذا أجاب فهو خليفة العلاَّمة الشرفاوي عندنا من اليوم، وإذا عجز فلا داعي إلى هذا الإعجاب كله، فسكتوا جميعا، فسألني : هل قرأت النحو؟ فقلت له : درستُ الأجرومية على والدي، ولكن لم أتمكن من القواعد العربية بعد . فاعتدل في جلسته، وتفحصني بنظراته الحادة، ثم قال: على أي حال نصب (شيبا) في قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا)؟ فقلت له: إنه منصوب على الحال، فضحك الرجل وقهقه طويلا وقال: خطأ! إنه منصوب على التمييز لا على الحال!! وشعرت بخجل، وضاقت بي الأرض، وتمنّيت لو ساخت بي لأختفي عن أعين أولئك المعجبين بي ! وقد تكون هذه الحادثة من العوامل التي جعلتني أهتم بالقواعد العربية، حتى إنه لم يمض عليها ثلاثة أعوام حتى لقبني العلامة الشرفاوي ( بسيبويه القرن العشرين ) . ومن هنا فإنه لم يمض إلا وقت قصير على تاريخ انتسابي لهذه الزاوية حتى أصبحت أعطي للطلبة دروسا في النحو والبلاغة والصرف .