ومع ذلك : كلمة إنصاف في الشيخ أحمد الداوي الشيخ أحمد داوي يرسم خطة لإيقاع الشرفاوي فتكون نهايته ظلت هذه الحملة الهوجاء ضدّ الشيخ الرزقي على أشدها، يغذيها الحقد الدفين، والتنطع والجهل إلى أن توفي الشيخ أحمد داوي في سنة 1942 فعندئذ سكنت العاصفة، وهدأ الخصوم، ولم يبق ذكر لصاحب فتوى الربيبة إلا في مجالسهم الخاصة، يذكرونه فيضعون عليه ما شاء هواهم من نعوت الذم، كأنهم بذلك يروّحون عن أنفسهم، ويضمّدون جراحهم، ولكن كيف مات حامل لواء الحملة ضد الأستاذ الشرفاوي؟ هذا الذي يهمني الآن ذكره، ويهمك - قارئي الكريم - معرفته، فارهف أذنيك واستمع . * كان الشيخ الرزقي خلال هذه الحملة المسعورة التي امتدت سنوات كالجبل الشامخ الذي يهزأ بالأعاصير والأنواء كما قدمنا، وكلما أمعنوا في النيل منه، وبالغوا في آذاه، التزم الأدب معهم، وحاجّهم بالكلمة القوية الصّادقة، وأراهم رأي العَين أن أساليبهم مكشوفة، وأحابيلهم مهلهلة، وأن خدمة الإسلام والمسلمين لا تكون بالجهل والادِعاء، ومحاربة العلماء . أمام هذا الوضع رأى الشيخ أحمد داوي أن يبرهن للرأي العام في منطقة القبائل بأن الأستاذ الشرفاوي مخطئ في فتواه، وأن يحمله على الاعتِراف بهذا الخطإ أمام ملإ من الناس، فأرسل إلى مشاهير طلبته، وفي مقدمتهم شيوخ بعض الزوايا بالمنطقة ولما اجتمعوا بالزاوية: (سيدي منصور ) كشف لهم عن خطة رسمها لوضع الأستاذ الشرفاوي عند حده، ولاحظ لهم أن تركه على حريته وانطلاقه، سيجعله يلَجّ في غوايته، ويزداد عتوًا، وقد يُفتي يوما بجواز التزوج بالأخت ! وليس الحاضرون في حاجة إلى كلام طويل أو حجج قوية دامغة، فكلهم قنابل عبّأها الشيخ أحمد بدعاياته ومناوراته، وأعدّها لتنفجر متى شاء ! بقي أن يقتنعوا بردع الشرفاوي وقمعه، وإيقافه عند حده، وهذا أمر يكاد يكون طبيعيا، فما دام الشرفاوي قد اجترأ على الله، وسوّلت له نفسه أن يفتي هذه الفتوى، فالله تعالى لاشكّ ناصر شيخهم عليه، فمن ذا الذي ينصره الله إن لم ينصر حامي شريعته، والغيور على دينه! وكانت الخطة التي رسمها الشيخ وباركها مريدوه في إعجاب بذكائه، وتقدير لبعد نظره، أن يجتمعوا في مسجد عزازقة، ويبعثوا إلى الأستاذ الشرفاوي رجلا من أهل قريته، يدعى (موعلي) يثق فيه الشيخ ولا يتنقل إلا معه في سيارته، وأوصوه أن يقول له: إن في المسجد أنفارا من الناس يريدون أن يتحاكموا إليك في قضية شرعية وهم لا يريدون إزعاجك وإحراجك في البيت . فجاء الشيخ الشرفاوي على هذه النية وعلى هذا الأساس، ولكنه فاجأه أن وجد فِناء المسجد قد تعبأ بالنّعال، ولما دخل وجد خصمه اللدود الشيخ أحمد ومعه زهاء أربعين طالبا وشيخ زاوية، فذُهِل الشيخ من هذه الخطة السخيفة، وتعجّب أن يركن شيخ تجاوز الثمانين من العمر إلى هذه الأساليب الصبيانية . رحّب الشيخ أحمد بالأستاذ الشرفاوي، وعانقه طويلا في فورة من الحرارة المصطنعة ثم فسحوا له في المجلس، ثم انطلق الشيخ أحمد يقول ما مؤدّاه : نريد أن يكون مجلسنا علميا محضا بعيدا عن نوازع الأثرة، ودواعي الغلبة، ولذا لم أحضر سوى طلبتي الذين هم بمثابة أبنائي، وغايتنا من هذا اللقاء المبارك أن تعلن تراجعَك عن فتوى الربيبة، ونعلن ذلك في زاويتنا يوم الجمعة، ثم في مساجد المنطقة ثم في سوق الإثنين، وبذلك نطوي صفحة معتمة كلها همز ولمز، وننشر صفحة جديدة ملأها المحبة والإخاء والتفاهم والانسجام !! وهنا انبرى الأستاذ الشرفاوي وانطلق باللغة العربية الفصيحة، والأسلوب الخطابي المتميز، يقذفه بقذائف الحق، ويرشقه بنبال العقل، ويُخرس الألسنة، ويقلم الأظافر، ويهشم الأنياب ! ثم قال ما مؤداه: كَبُرَ مقتا عند الله ما أسمعه من أراجيف القول، وأباطيل البهتان، التبس عليكم الحق بالباطل فلم تعودوا تفرقون بين الفضيلة والرذيلة، وبين الضار والنافع، وبين الداء والدواء، في عقولكم قصور، وفي تقديركم خطأ، وفي حكمكم هوى، وفي ميزانكم انحراف، فعوض أن تعتذروا عما صدر منكم طوال سنوات مضت، بدافع من الجهل، والأنانية وحب الظهور، تريدون أن أعتذر لكم عن حق نصرته، وشرع أقمته، وطريق واضح سلكته ! ومن خطإ الرأي، وخطل العقل، وهوَس المنطق، أن تطلب مني أيها الشيخ أن أتراجع عن فتوى واضحة المعالم، ظاهرة ظهور الشمس، ولكن الإسلام العظيم الذي له منبعان من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتدفَّقان بالماء الصافي الطاهر، ولكنكم من سوء حظكم، وضعف إيمانكم، لا تنفعون به ولا تنفعون، لأنكم مشغولون دأبًا بتلويث مجاريه ! ثم التفت الشرفاوي إلى الشيخ أحمد وقال له في لهجة قوية حاسمة : أما وضع الحد للماضي فسنقرره الساعة، وذلك بدرس يلقى في موضوع الربيبة أمام طلبتك تلقيه أنت أو ألقيه أنا ! زلزل الشيخ مما سمع، وخيّل إليه من هول الموقف أن المسجد على سعته، قد ضاق به حتى لم يعد يسعه، وخاصةً وكل طلبته يعتقدون فيه الكمال المطلق، ويرونه أبا حنيفة في الفقه ! التفت الشيخ أحمد إلى طالب على يمينه، كان له دور فعّال في الحملة ضد الشيخ الشرفاوي وقال له : ائتنا بكتبنا من السيارة، فهمّ بالنهوض، ولكن الشيخ الشرفاوي قال له : الزم مكانك فالعلم في الراس وليس في الكراس، يلقي الشيخ درسا في المسألة بدون اعتماد على كتاب أو ورقة، وإذا عجز عن ذلك قمت بالأمر، فما رأي الشيخ؟ سكت الشيخ واجما لا ينطق، وتبادل طلبته نظرات العجب، أيعقل هذا؟ شيخنا الذي إليه ينتهي فخر المفتخرين في المنطقة، يعجز عن إلقاء الدرس من رأسه في قضية واضحة وضوح الشمس؟ بعد صمت رهيب ساد المسجد ردحًا من الوقت، التفت الأستاذ الشرفاوي إلى اليمين واليسار وقال: وحيث إن شيخكم عاجز عن الدرس التلقائي الذي لا يُعوَّل فيه إلا على الغزارة العلمية والفصاحة والبيان، فهاكم الدرس في الربيبة، وارهفوا آذانكم واستمعوا: انطلق الشيخ الشرفاوي في درسه في حدود العاشرة صباحًا، ولم ينته منه إلا عند صلاة الظهر، حلّق ما شاء أن يحلق في فضاءات لم تخطر على بال الشيخ وبال طلبته، جال وصال في مجالات مختلفة، كالبلاغة، والمنطق، والأصول، والتفسير، والحديث، أما الحاضرون فقد استحوذ على مشاعرهم ذهول، ولم يدروا أهم في يقظة أم في منام . انتهى الشيخ من درسه في جو يشبه جو المأتم، ولم ينبس الشيخ أحمد بكلمة شكر بل قام وتبعه طلبته يجرون أذيال الخيبة ! وكان استياء الشيخ أحمد من هذه الواقعة عميقا للغاية لم يكن في استطاعته أن يحتمله ويطيقه، فقد كان انتصار الشرفاوي عليه مصيبة كبرى، وانتصاره عليه أمام طلبته الذين دعاهم لمشاهدة العُرس، والتَّملّي ببرد السرور، ونشوة الغلبة والنصر، مصيبة ثانية وانتصار الشيخ الشرفاوي عليه مع أنه الذي وضع خطة الغلبة، وحبَكها ورسم خطوطها بعقل ( حكيم ) ونظر ( ثاقب ) مصيبة ثالثة . خرج الشيخ من المسجد ووراءه طلبته، وعلى وجوههم سهومُ الحزن، وفي قلوبهم لهيب الحسرة، وعلى أبصارهم غشاوة من هول الموقف، وأحس طلبته بوقع المصيبة على شيخهم وأن عواقبها لا شك أليمة، وأخذوا يخففون عنه. كلمة وفاء عن الشيخ أحمد رغم كل ما فعل وبدأ الشيخَ مرضُ الموت في طريق عودته إلى داره: صداع، وإسهال، وألم في الرأس حاد، واشتدّ عليه قرابة أسبوع، ثم توفي وذلك سنة 1942 وكان الاحتفال بجنازته رهيبا فاضت فيه العيون، واضطربت الألسن، وجزعت القلوب، وتساءل طلبته ومريدوه عن مصير الإسلام بعد شيخهم الذي أعلى صوته، وقدّس شخصيته، وأقام ركنه ! وقبل أن نرفع القلم عن فتوى الربيبة، وعن مفتيها، وما أحدثته في المنطقة من ضجة قطعت أوشاجا، وفككت أسرا، وأوغرت صدورا، نسجل كلمة عن هذا الشيخ الطرقيّ للتاريخ، يفرضها إنصاف الموتى، ويوجبُها الصدق الذي هو سمتُنا في كل ما نخطُه بهذا القلم، ويبقى الكمال دائما لله وحده، فهو المرجو أن يتجاوز عنا فيما فيه الزلل والشطط . وما أمسكنا القلم منذ أن وعينا أهمية رسالته إلا سمعنا هاتفا من الأعماق يقول : وما من كاتبٍ إلا سيَبْلى ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداه فلا تكتب لنفسك غيرَ شيء يسرُّك في القيامة أن تراه . وعلى هذا المبدإ نقول: بالرغم من محاربة الشيخ أحمد داوي للأستاذ الرزقي الشرفاوي ولوالدي ومعاداته للإصلاح والمصلحين، واعتباره صحفَ جمعية العلماء، معاول هدامة للعقيدة والإسلام، وقوله يومًا في مجلس من مجالسه مع طلبته ومريديه: إن من يريح الإسلام والمسلمين من الشيخ الطيب العقبي مضمونةٌ له الجنة، وليس بينه وبينها إلا الموت . بالرغم من كل هذا فإنّنا لا ننكر أنه خدم القرآن خدمة واسعة فعّالة بزاوية سيدي منصور التي أشرف على تسييرها زهاء خمسينَ سنة، وحفظ اللغة العربية، وجعل الناس يقدسونها، فكان الواحد إذا عثر على ورقة مكتوبة بالعربية، قبَّلها أولا ثم حفظها وبالغ في تقديسها لما يعتقده من أن هذه اللغة وعاء القرآن والإسلام ولغة أهل الجنة في الجنة .